موسكو تعيد حساباتها وتعود إلى أفريقيا عبر الأسلحة والتدريب

كان قد حافظ الاتحاد السوفياتي على تواجده بشكل قوي في أفريقيا جزءاً من حربه الفكرية ضد الغرب، حيث دعم حركات تحررية أفريقية وأرسل عشرات آلاف المستشارين إلى الدول التي انتهى الحكم الاستعماري فيها. لكن انهيار الاتحاد السوفياتي والمشكلات الاقتصادية والنزاعات الداخلية التي شهدتها روسيا خلال التسعينات دفعت موسكو إلى التخلي عن مشروعاتها الأفريقية. وعنى نقص التمويل إغلاق الكثير من السفارات والقنصليات، في حين توقفت برامج المساعدات وانخفض مستوى العلاقات بشكل كبير. وقبل نحو عقد، بدأ الكرملين في إعادة بناء شبكاته القديمة والعودة بشكل تدريجي إلى القارة باحثاً عن شركاء جدد في وقت أفسحت المخاوف الآيديولوجية المجال أمام إبرام عقود وصفقات سلاح.
يؤكد ديمتري بوندارينكو من الأكاديمية الروسية للعلوم، أن أفريقيا لا تزال في «أسفل القائمة» عندما يتعلق الأمر بأولويات السياسة الخارجية الروسية، إلا أنها «بدأت تكسب مزيداً من الأهمية». وقال «منذ عام 2014 وضم شبه جزيرة القرم، تنخرط روسيا في مواجهة مع الغرب وتظهر بوضوح رغبتها في أن تستعيد مكانتها كقوة عالمية؛ ولذلك، لا يمكنها تجاهل هذا الجزء من العالم». لكنه أشار، في تصريحات لوكالة الصحافة الفرنسية، إلى أن موسكو مهتمة بتحقيق «تقدم سياسي» أكثر من اهتمامها بالمكاسب الاقتصادية.
وتعد جهودها أكثر وضوحاً في جمهورية أفريقيا الوسطى، البلد شديد الفقر وغير المستقر الذي لطالما سعى للحصول على مساعدة فرنسا، القوة المستعمرة له سابقاً. ومنذ مطلع العام، قدمت روسيا أسلحة للجيش في جمهورية أفريقيا الوسطى بعدما حصلت على تخويل من الأمم المتحدة للقيام بذلك في حين توفر الحماية الأمنية للرئيس فوستان - أرشانج تواديرا، الذي يعتمد على مستشار أمني روسي. وأرسلت كذلك خمسة ضباط عسكريين و170 مدنياً بصفتهم «مدربين» للقوات المسلحة في أفريقيا الوسطى رغم أن هذه القوات تتلقى تدريباً من قبل الاتحاد الأوروبي.
ويعتقد الخبراء أن «المدربين»، كما جاء في تحقيق الصحافة الفرنسية من موسكو، قد يكونون من مجموعة غير معروفة من المرتزقة يطلق عليها «فاغنر» التي تتحدث تقارير عن دورهم القتالي في سوريا. ويذكر أن ثلاثة صحافيين روس قتلوا في أفريقيا الوسطى الشهر الماضي أثناء إجرائهم تحقيقات عن أنشطة المجموعة. وفي مناطق أخرى، ترسل روسيا أسلحة إلى الكاميرون لدعمها في حربها ضد جماعة «بوكو حرام» الإرهابية، في حين عقدت شراكات عسكرية مع جمهورية الكونغو الديمقراطية، وبوركينا فاسو، وأوغندا، وأنغولا، وتعاونت مع السودان في مجال الطاقة النووية. وتعمل كذلك مع زيمبابوي وغينيا في صناعات التعدين، وهي قطاعات تبرز الصين عبرها قوةً صاعدة في أفريقيا. وبهذا تعود روسيا إلى أفريقيا بعد سنوات من الغياب، عبر بوابة التعاون العسكري و«التدريب» وصفقات السلاح والاستثمارات، حيث تسعى إلى منافسة الدول الأوروبية وحتى الصين، بحسب محللين. ويشير المحللون في هذا السياق إلى أن موسكو عملت جاهدة خلال السنوات الثلاث الماضية لتعزيز موقعها في أفريقيا بوتيرة يبدو أنها تسارعت خلال الأشهر الأخيرة.
وبدأ الرئيس فلاديمير بوتين العملية عبر زيارة الجزائر، وجنوب أفريقيا، والمغرب، وهي دول أقامت إلى جانب مصر علاقات جيدة تقليدياً مع روسيا. وزار ديمتري ميدفيديف الذي خلفه لولاية واحدة كلاً من أنغولا، وناميبيا، ونيجيريا، عارضاً مشروعات تجارية برفقة وفد من 400 شخص. وهذا العام، أجرى وزير الخارجية سيرغي لافروف جولة شملت خمس دول أفريقية، في حين زار بوتين جوهانسبرغ لحضور قمة دول «بريكس» التي حضرتها كذلك أنغولا، ورواندا، والسنغال، وأوغندا. واستعرضت روسيا كذلك مشروعات تجارية أفريقية خلال منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي الدولي.
وبالنسبة لبعض الدول الأفريقية، يعد تحسين العلاقات مع روسيا أمراً جذاباً، حيث يساعدها في استغلال ورقة المنافسة مع أوروبا والصين، وفق ما يشير بعض المعلقين. وبالنسبة للخبير السياسي يفغيني كوريندياسوف الذي شغل منصب سفير الاتحاد السوفياتي وروسيا في دول أفريقية عدة، فإن ذلك يعني «الحصول على شريك آخر، أي قناة استثمار وتنمية أخرى ودعم بلد قوي في الساحة السياسية». وإضافة إلى ذلك، لا تمثل روسيا العبء الذي شكله الاستعمار الأوروبي في أفريقيا، وهو أمر قد يعد عامل جذب بالنسبة للدول الأفريقية التي تلقى الكثير من كبار مسؤوليها تعليمهم في الاتحاد السوفياتي.
وتبدو جمهورية أفريقيا الوسطى المثال الأبرز للفوائد النابعة عن التحول الذي قاده بوتين. فخلال الحرب الباردة، لم يكن البلد مقرباً من الكرملين على الإطلاق، لكنه الآن يضع عينيه على روسيا لمساعدة قواته في مواجهة الميليشيات التي تسيطر على معظم أراضيه. وقال بوندارينكو «في السابق، لم يكن أمام الدول التي لم يرغب الاتحاد الأوروبي في التعاون معها على غرار السودان وزيمبابوي خيارات سوى الالتفات إلى الصين»، لكن «روسيا تقدم نفسها الآن بديلاً واضحاً». وبالتالي، بإمكان هذا الوضع الجديد أن «يغير المنظومة الجيوسياسية في القارة بشكل ملموس».