أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

التواطؤ الدولي والإقليمي لإعادة اللاجئين السوريين

مثلما طغى لدى السوريين الإحساس بوجود تواطؤ دولي ضد ثورتهم عنوانه رفض التغيير السياسي وتمكين النظام، حيث لاذت غالبية الحكومات والمنظمات الأممية، بصمت مريب تجاه أشنع وسائل الفتك والتدمير السلطوية، وتجاه مشاهد مروعة من التعذيب والقتل في السجون أودت بحياة عشرات الآلاف من الشباب السوري الواعد، وحيث لم يحرك أحد ساكناً أمام التدخل العسكري السافر لإيران وروسيا، بل منحوا الأخيرة ضوءاً أخضر كي ترسم وتقرر مصير سوريا، كذلك يطغى اليوم إحساس مماثل بأن ثمة تواطؤاً دولياً وإقليمياً، للتنصل من المسؤولية الإنسانية تجاه ملايين اللاجئين السوريين وتوسل شتى أساليب الضغط، الصريحة والمضمرة، لوضعهم أمام خيار وحيد هو العودة إلى بلادهم، من دون تحقيق حد أدنى من التغيير السياسي، والأسوأ، من دون ضمانات أمنية حقيقية تقيهم الاضطهاد والاعتقال أو توفر لهم أبسط مستلزمات العيش بعد الخراب الرهيب الذي طال منازلهم ومرافق الصحة والتعليم والخدمات.
لا يصعب تحديد أهداف موسكو من تحريك ملف اللاجئين السوريين ومنحه اليوم أولوية شبه مطلقة، تبدأ باستثمار هذه المأساة الإنسانية لتمرير تفاهمات سياسية تساعد في تثبيت مواقع النظام السوري وطي مطلب تغييره، يحدوها إجهاض ما راكمته المفاوضات السياسية والعسكرية في جنيف وآستانة، وحض دول الجوار على التعاون والتطبيع مع دمشق لتخفيف أعباء اللجوء إلى أراضي هذه الدول، وخاصة إلى بلدين مأزومين اقتصادياً كلبنان والأردن، مروراً بتوظيف هذا الملف لطمأنة الدول الغربية وتشجيعها كي تساهم في ترميم البنية التحتية المدمرة وإعادة الإعمار وخاصة تلك التي استقبلت أعداداً كبيرة من اللاجئين، انتهاءً بتحويل هؤلاء الهاربين من بطش السلطة إلى واقع اجتماعي خانع وذليل يعترف بما كرسته النتائج العسكرية ومجبر على الخضوع لها، ثم الرهان على خيار العودة في خلق شروخ وانقسامات بين اللاجئين أنفسهم وفي أوساط المعارضة السياسية والعسكرية ربطاً بالواقع المرير لحياة الناس في مناطق المعارضة، وبالشروط المجحفة إنسانياً التي تحكم غالبية اللاجئين في بلدان الجوار، وهو ما بدأت نذره تظهر من خلال تصريحات لبعض المعارضين تحث على العودة والثقة بالوعود والضمانات الروسية، في تخلٍّ بغيض عن هدف التغيير السياسي وإغفال حقيقة أن الروس لم يكونوا موضع ثقة في رعايتهم لضمانات سابقة، من حلب إلى الغوطة، ولم يتمكنوا من ضبط انفلات الميليشيات التابعة للنظام التي استمرت في فتكها وفسادها.
لكن ما أعطى المبادرة الروسية هذا الزخم والاهتمام ليس فقط تراجع حدة المعارك وتحول المشهد العسكري لمصلحة النظام وحلفائه، وإنما أيضاً ما رشح من توافقات بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترمب في هلسنكي لتسهيل عودة اللاجئين، فكيف الحال مع تمدد قوى اليمين الأوروبي الشعبوي وخطابها المعادي للاجئين والمهاجرين متوسلة تعثر دمج الكثيرين منهم في مجتمعاتها؟ وكيف الحال حين يتم تسويق المبادرة الروسية باعتبارها تطويقاً لنفوذ طهران ومخططها للتغيير الديموغرافي في سوريا؟
صحيح أن طهران تبدو ظاهرياً غير متحمسة لعودة اللاجئين لأن بقاءهم خارج البلاد يوفر لها أماكن واسعة لتوطين من يرغب من شيعة إيران وغيرهم، لكنها خير من يعرف أن عودة لاجئين معوزين ومقهورين بلا خيارات أو ضمانات، تشكل تربة خصبة لتنشيط التمدد المذهبي ولتعزيز نفوذها الاجتماعي والسياسي بما في ذلك استثمارهم في دعم حليفها السوري وتمكينه من تحصيل بعض الشرعية، ما يفسر التنطح اللافت من قبل «حزب الله» لمعالجة هذا الملف في لبنان، ومسارعته، متجاوزاً كالعادة دور الدولة، لتشكيل لجان ومكاتب متخصصة تسهل عودة اللاجئين إلى بلادهم، مستثمراً الاعتراض اللبناني الواسع على تداعيات اللجوء في المستويات الأمنية والاقتصادية، لتعزيز موقعه السياسي والتشجيع على فتح حوار مباشر بين الحكومة اللبنانية والنظام السوري.
وإذ يصح القول بأن تركيا تحوي الكم الأكبر من اللاجئين السوريين، وأنهم يحظون بشروط حياة هي الأقل سوءاً بالمقارنة مع بلدان الجوار، لكنها البلد الأكثر حماسة للتخلص من ثلاثة ملايين ونصف مليون لاجئ على أراضيها، بدليل ضغطها على المجتمع الدولي لانتزاع قرار بإقامة المناطق الآمنة لاسترداد قسم كبير من اللاجئين، أو على الأقل لتحرير دورها في الشمال السوري ما يفسر اجتياح عفرين وتجميع مختلف جماعات المعارضة في مدينة إدلب وأريافها والضغط الخفي لحض اللاجئين على الالتحاق بهم، من دون أن نغفل قرارها بإغلاق الحدود واتخاذ تدابير مشددة وصلت إلى إطلاق الرصاص وقتل بعض الهاربين من أتون العنف، لمنعهم من دخول أراضيها، ولا يغير هذه الحقيقة أن حكومة أنقرة هي الأكثر تفنناً وبراغماتية في استغلال هذا الملف الإنساني، إنْ لجهة توظيفه لاستجرار المزيد من المعونات الأممية وابتزاز الدول الغربية، مادياً وسياسياً، عبر تهديدها بموجات من اللاجئين إنْ تساهلت في إجراءات ضبط الحدود، وإنْ لجهة توسله لمحاصرة الوجود الكردي في شرق البلاد ولتعزيز التحاق أهم فصائل المعارضة بتركيا، وأيضاً لانتقاء خيرة اللاجئين من أصحاب رؤوس الأموال والكفاءات العلمية لدمجهم في المجتمع التركي، ثم استخدام هذا الخزان البشري لتعزيز تعبئتها المذهبية ونصرة مشروعها السياسي الإسلاموي وأيضاً كدرع إنساني يمكنه أن يعيق محاولات النظام لبدء الحرب على مدينة إدلب وأريافها.
وفي حين تبدو المؤسسات الأممية المعنية بملف اللاجئين السوريين ضعيفة وعاجزة، بسبب هشاشة قرارات مجلس الأمن المحكوم بالفيتو الروسي، وجراء تراجع المعونات الإغاثية، وبينما يصطدم العالم بنهج سياسي أميركي ينشغل بهمومه الداخلية ولا يبالي بمصير اللاجئين ولا بمستقبل سوريا، يتقدم السؤال حول مدى صلابة موقف الاتحاد الأوروبي من معالجة معضلة اللاجئين السوريين؛ هل ثمة جدوى من الرهان على تمسكه باشتراط يقرن مساهمته في إعادة الإعمار، بتحقق انتقال سياسي يرضي جميع الأطراف ويضمن الاستقرار في المجتمع السوري، ويتمسك بالمعايير الدولية لعودة اللاجئين، كعودة طوعية من دون إكراه، مع توفير كافة الشروط المتعلقة بتأمين احتياجاتهم؟
والحال، بعيداً عن دعوات اليأس والاستسلام، وعن المزايدات الرخيصة، وعن الدوافع الأنانية، يتمثل الخيار الإنساني الوحيد لإعادة اللاجئين السوريين إلى ديارهم في تحقق تسوية سياسية عادلة يرعاها المجتمع الدولي تحدوها ضمانات حقيقية وواضحة، تزيل الخوف لدى غالبية اللاجئين من اعتداءات وملاحقات أمنية وثأرية، وتوفر الحد اللائق من معايير الحياة الكريمة في مجالات العيش والسكن والعمل والصحة والتعليم.