توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

التصويت للشخص وليس لبرنامجه

مطالعة ما جرى في العراق خلال الأسابيع الماضية، تكشف عن مسألة تستحق الدراسة في السلوك السياسي للجمهور. الشهر الماضي تظاهر آلاف العراقيين احتجاجاً على الزعماء السياسيين والأحزاب المشاركة في الحكم والمعارضة له على السواء. لكننا نعلم أن هذا الجمهور نفسه، هو الذي صوّت لهذه النخبة في الانتخابات العامة التي جرت قبل بضعة أسابيع فحسب.
يمكن تفسير هذه المفارقة بواحد من احتمالين: أولهما أن الذين تظاهروا ضد النخبة السياسية، ليسوا هم أنفسهم الذين صوتوا لها في الانتخابات العامة. والثاني: أنهم أنفسهم - أو على الأقل أكثرهم - صوتوا لها، لكنهم مع ذلك غير راضين عن عملها.
ترجيح الاحتمال الأول يقلل من قيمة المظاهرات. لأن التنافس الديمقراطي يستهدف تحديد رأي الأكثرية، وتحويل رأيها إلى مصدر للقرار. إذا فاز فريق بالأغلبية فعلى الخاسر تقبل النتيجة مهما كان رأيه فيها، واحتجاجه لاحقاً ليس ذا قيمة كبيرة.
لكني أرجح الاحتمال الثاني؛ أي أن الذين تظاهروا هم ذاتهم - أو نسبة معتبرة منهم - الذين صوتوا للنخبة الحاكمة في الانتخابات.
يعزز هذا الاحتمال أن العراق شهد في الأعوام الثلاثة الماضية احتجاجات شعبية متكررة، تمحورت حول الفساد، والبطالة، وتدني مستوى الخدمات العامة. وبالرجوع لتقارير الصحافة العراقية بين يوليو (تموز) 2015 وأبريل (نيسان) 2016 مثلاً، يمكن استنتاج أن المظاهرات الشعبية التي شهدتها بغداد يومذاك، كانت أضخم مما جرى في الشهر الماضي.
معنى هذا أن العراقيين لم يفاجأوا بتقصير النخبة السياسية، بدليل الاحتجاجات الواسعة عليها خلال السنوات الماضية. كما لم يكن رجال النخبة مجهولين أو خارج السلطة، كي يقال مثلاً إن الناس خدعوا بهم أو اغتروا بوعودهم، فقد كانوا في السلطة خلال السنوات الأربع الماضية على الأقل.
لو كانت السياسة بسيطة، لصوت الجمهور ضد الوزراء والنواب الذين قصروا في أداء واجباتهم وأخرجوهم من السلطة. والحقيقة أن بعض السياسيين الجدد قد فهم الأمر على هذا النحو، فركز دعايته الانتخابية على فشل الحكومة السابقة في تحسين الخدمات العامة ومكافحة الفساد، وطرح نفسه بديلاً لها، لكنه فشل في الحصول على كرسي في البرلمان.
السياسة ليست بسيطة. والواضح أن الناس يفصلون - عن قصد أو عن غفلة - بين الشخص وعمله. هذا هو السبب الوحيد الذي يفسر الاحتجاج ضد أشخاص بعينهم، ثم تفويضهم من جديد لشغل المناصب ذاتها.
أعتقد أن الناس يريدون حكاماً يعرفون أشخاصهم. وهذا يذكرني بالمثل الشهير «مجنون تعرفه أهون من عاقل لا تعرفه». وتفسير هذا أن المعرفة تمنح قدراً من الاطمئنان. لاحظت أن هذا رائج حتى في الديمقراطيات العريقة، التي يركز المرشحون والناخبون فيها على السياسات والبرامج أكثر من الأشخاص... لكن بنسبة أقل، بسبب اتساع دور الأحزاب في هذه الدول، الأمر الذي يجعل مكانة الشخص أقل مما هي في الدول النامية.
ما أردت الوصول إليه هو أن مكانة الشخص، ما زالت مؤشراً رئيسياً للسياسة في المجتمعات النامية، وأن الجمهور يفضل في غالب الأحيان التصويت للشخص وليس لبرنامجه. ولهذا السبب أيضاً فإنه يعيد تفويضه مرة بعد أخرى، دون محاسبته على إنجازاته وتقصيره خلال توليه السلطة.
هل لهذا علاقة بمكونات الثقافة السياسية في هذه البلدان، أم هو انعكاس لتأزمات ظرفية أو طويلة الأمد، أم سببه المسافة الشعورية والمعرفية التي تفصل الجمهور عن الدولة؟ كل من هذه الاحتمالات وارد. ولعل هناك أيضاً احتمالات غيرها.