الجامعات لا تواكب تطور صناعة الإعلام... والخريجون ليسوا مؤهلين

دعوات إلى إصلاح المناهج وإضافة خبرات عملية خلال الدراسة

تشمل المهارات المطلوبة الجديدة التعامل مع الفيديو والقدرة على تحريره
تشمل المهارات المطلوبة الجديدة التعامل مع الفيديو والقدرة على تحريره
TT

الجامعات لا تواكب تطور صناعة الإعلام... والخريجون ليسوا مؤهلين

تشمل المهارات المطلوبة الجديدة التعامل مع الفيديو والقدرة على تحريره
تشمل المهارات المطلوبة الجديدة التعامل مع الفيديو والقدرة على تحريره

شكت مدربة إعلامية معاصرة تعمل في مجال الإعلام وتدرب في الوقت ذاته طلبة الإعلام الجامعيين في بريطانيا من أن هناك هوة شاسعة بين التطورات السريعة التي تفرض نفسها على عالم الإعلام و«الميديا الحديثة»، خصوصاً في التطبيقات الرقمية والفيديو، وبين ما يتم تعليمه للطلبة ويتأخر بسنوات عن مواكبة الإعلام الحديث. لكن هذه المعضلة ليست حديثة ولها سوابق كثيرة ويعاني منها العالم العربي أيضاً.
- شهادات عليا
في الجامعة الأميركية بالقاهرة، تم استحداث درجة الماجستير في الإعلام بمنتصف سبعينات القرن الماضي، والتحق بها الكثير من الطلبة من خريجي قسم الإعلام في الجامعة نفسها. ولأن معظم هؤلاء كان يعمل بالفعل في مجال الإعلام في ذلك الوقت، سرعان ما اكتشفوا الفارق الكبير بين ما يتم تدريسه وما يتم تطبيقه، حتى على مستوى الصحافة المصرية في ذلك الوقت.
وتبع ذلك شكوى جماعية من الطلبة اضطرت معها إدارة الجامعة إلى إدخال بعض التعديلات على البرنامج، منها إدخال عناصر التدريب العملي ضمن المنهج، واستضافة كبار رجال الإعلام لمشاركة الطلبة وعرض تجاربهم العملية، بالإضافة إلى تعديل المناهج النظرية لكي تأخذ في الاعتبار ما طرأ على صناعة الإعلام من تطور.
ومع ذلك؛ ظلت الدراسة الأكاديمية النظرية أساساً قوياً لطلبة الإعلام في مستقبلهم العملي، خصوصاً فيما يتعلق بأسس الحوار والإقناع. فمن ضمن النظريات التي تم تدريسها في ذلك الوقت، أن المشارك في حوار إعلامي مع شخصية أخرى على النقيض في الآراء يكتسب بعض هذه الآراء المعاكسة بعد حين، ويتحول تدريجياً إلى مزيد من الاعتدال في حواراته المستقبلية. وفي بعض المجالات كانت آفاق الدراسة تذهب إلى ما هو أبعد من التطبيقات العملية في التجديد والابتكار.
- مناهج تفتقر إلى المرونة
عودة إلى مدربة الإعلام، وتدعى ليسيت جونسون، وتعمل في هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) إلى جانب عملها مدربةً إعلامية ومديرة تحرير في الوقت نفسه، حيث تقول، إنها كانت تشعر بأنها تعيش حياة مزدوجة بين العمل الإعلامي وتدريس الإعلام. وفي حوارات لها مع الطلبة اعترفت بأن الدورات التي تقوم بتدريسها تحتاج إلى تحديث لكي توافق متطلبات العمل في مجال الإعلام الحديث.
لكنها من تجربتها الأكاديمية تعرف أيضاً أن الجامعات ليست مجهزة لكي تكون مرنة، ومن الصعب تغيير المناهج بسرعة. وقال أستاذ في جامعة لندنية، إنه انتظر أربع سنوات من أجل الموافقة على إدخال تعديلات على المنهج الذي يقوم بتدريسه.
وتعاني من معضلة عدم التوافق بين التدريب وبين المهارات المطلوبة كافة الصناعات الابتكارية، مثل صناعة السينما، حيث شكا معهد السينما البريطاني في عام 2107 من أن التدريب الذي يتلقاه الطلبة غير مفيد، بل أحياناً يكون متضارباً مع الواقع مع انعدام النصيحة حول العمل في هذا المجال، أو التحول من المجال الأكاديمي إلى المجال العملي.
وتعاني برامج تعليم الإعلام من التركيز على الجوانب النظرية، التي لا تمنح الطلبة فرصة عملية كافية ولا معلومات تقنية مفيدة في مستقبلهم في الصناعة. وفي معظم الأحيان تتأخر الجامعات عن الركب، حيث يسود الاعتقاد في دورات 2018 الإعلامية أن المحاكاة ونظم الفيديو المحيطة، وتسمى 360 درجة، هي من التطورات الحديثة بينما هي في الواقع تقنيات معتادة في الصناعة ومستخدمة منذ سنوات عدة.
- مهارات جديدة أساسية
يعترف مدربو الإعلام بأن المهارات التي كانت تقتصر على قطاعات معينة في الماضي أصبحت الآن من الضرورات لكل من يريد أن يعمل في مجال الإعلام. وتشمل المهارات المطلوبة التعامل مع الفيديو والقدرة على إجراء المونتاج على الأفلام المصورة.
من ناحية أخرى، يمكن لصناعة الإعلام أن تستفيد من المجال الأكاديمي، حيث تشير الأبحاث الحديثة إلى أفضل الوسائل للتعامل مع التغطية الإعلامية وإهمال الأخبار الكاذبة. فهناك الكثير من القضايا التي تؤثر على الإعلام سلباً وتحتاج إلى البحث الأكاديمي، حيث لا يستطيع الإعلاميون قضاء الكثير من الوقت في الأبحاث خارج التغطية الإعلامية العملية.
وأحياناً يكون الأكاديميون أنفسهم مسؤولين عن هذا الانشقاق بين ما تنتجه الجامعات وما ينشر ويبث في وسائل الإعلام. فالأساتذة يفضلون في معظم الأحوال نشر أبحاثهم في الدوريات العلمية ويرفضون ما يعتقدون أنه تدني مستواها بالنشر الإعلامي العام. وهذا يعني أن الاستفادة من هذه الأبحاث تقتصر فقط على من يطلع على الدوريات الأكاديمية ويحرم منها الرأي العام.
- تدريب وخبرات عملية
ويرى باحثون أن إحدى أفضل وسائل تعليم طلبة الإعلام المهارات العملية المطلوبة في الصناعة، هي أن يتم المزج بين التدريب الجامعي والخبرة العملية في وسائل الإعلام. ويحدث هذا بالفعل في الكثير من المجالات الأخرى، مثل الطب والهندسة والأعمال. ولا يعني هذا الاستغناء عن الخبرة الأكاديمية، فمهما كانت مقدرة رجال الإعلام العملية إلا أنها لا تعني أن لديهم قدرة على التدريس وتوصيل المعلومات إلى الآخرين، خصوصاً في المجال الرقمي أو في إدارة الأعمال.
ويقول البروفسور جون سيلفرمان، أستاذ الميديا في جامعة بيدفورد البريطانية والمحرر في «بي بي سي» سابقاً، إن الجمع بين المعلومات الأكاديمية والعملية ضرورة لكل صحافي في تخصصه. فعندما كان محرراً عسكرياً كان لزاماً عليه دراسة دورات في الإسعاف الأولي، وفي كيفية تجنب الألغام، وأيضاً في القانون الدولي.
وهو ينصح الإعلاميين الجدد بقراءة كتاب «عن الحرية» للفيلسوف جون ستيوارت ميل، فمن يقرأ هذا الكتاب عن حدود الحرية لا يمكن أن يقع في أخطاء بدائية مثل رسوم الكارتون المسيئة للمسلمين. وتقدم بعض الجامعات البريطانية ومنها جامعة بيدفورد، درجات علمية وعملية بناءً على خبرة الطلبة المتقدمين. وتشمل هذه البرامج ثلاثة أجزاء، منها الجزء الثاني الذي يتكون من بحث طوله 50 ألف كلمة عن مشروع أو تحليل لقضية إعلامية عملية. وإذا نجح الطالب في الأجزاء الثلاثة ينال درجة الدكتوراه.
ومما يذكر أن رسالة أحد الطلبة في هذا البرنامج كانت على برنامج «بانوراما» التلفزيوني البريطاني الذي كشف عن فساد إدارة هيئة «فيفا» المشرفة على منح تنظيم مباريات كأس العالم في دورتي 2018 و2022.
وفي عام 2016، استضافت الجامعة الأميركية في القاهرة دورة حول تطوير تعليم الإعلام في منطقة جنوب المتوسط بمشاركة ورعاية من الاتحاد الأوروبي عبر برنامج «ميد ميديا». وفي جلسة حول الفجوة بين تعليم مادة الإعلام أكاديمياً وبين المهارات المطلوبة في عالم الإعلام المعاصر، كان الاستنتاج أن معاهد الإعلام حالياً لا تستطيع أن تجاري التطورات السريعة في الصناعة.
وعبّر أكثر من خبير أوروبي مشارك في الدورة عن أهمية التعاون بين المؤسسات الإعلامية وبين معاهد التدريب كما أكدوا على التزام الاتحاد الأوروبي بتحسين نوعية تعليم الإعلام في المنطقة. واتفق المشاركون على إنتاج كتيب حول التحديات التي تواجه دراسة الإعلام في المنطقة وطرق توفير الحلول لها. وسوف يكون هذا الكتيب بمثابة دليل لأفضل أساليب ممارسة الإعلام في المنطقة.
- دول الخليج تحاول سد الفجوة
تعاني منطقة الخليج أيضاً من مشكلة الفجوة بين مستوى التعليم الأكاديمي السائد وبين المهارات العملية المطلوبة في سوق العمل. وقدم ويل كوبر، الشريك في مؤسسة استشارية للبنية التحتية في الإمارات بحثاً مطولاً عن القضية، التقى من خلاله بالكثير من المديرين والطلبة في جهد لسد الفجوة بين الطرفين. واقترح كوبر أربع وسائل لسد هذه الفجوة، هي التنسيق بين المناهج وبين احتياجات الشركات، وتوفير المعلومات حول مجالات التوظيف في سوق العمل وتطوير قوة عمل تعتمد على الخبرة والتدريب، وأخيراً تشجيع ثقافة التجديد والابتكار في مجال الوظائف وإدارة الأعمال.
وعلى رغم أن بحث كوبر يتعلق بالصناعة بوجه عام، فإن المعايير المطبقة في مجالات أخرى تصلح أيضاً لمجال الإعلام والصحافة، خصوصاً فيما يتعلق بضرورة التدريب، بالإضافة إلى التعليم الأكاديمي.
وأخيراً، لا بد من مقاومة فكرة أن الصحافي يمكن أن يعتمد على الخبرة فقط، ولا يحتاج إلى تعليم أكاديمي، حتى ولو كانت هناك فجوة بين التعليم والتطبيق. فالصحافي المتعلم والمنفتح على نظريات الإعلام الحديثة أفضل دوماً من الصحافي متواضع الإمكانات الأكاديمية.
- مناهج الإعلام العربية تقدمت نظرياً وتأخرت عملياً
> تبدو مناهج الإعلام الجامعية العربية متقدمة وشاملة من الناحية النظرية، حيث يتم تدريس نظريات الإعلام والتواصل، إضافة إلى مداخل في علم النفس واللغة العربية، يضاف إليها في الصف الثاني تقنيات الإعلام، وإعداد البرامج الإلكترونية، ومفهوم البحث الإعلامي، بالإضافة إلى اللغة الإنجليزية.
وفي الصف الثاني أيضاً، يضاف في نصف السنة الأخير موضوعات حول الرأي العام والتشريعات الإعلامية، ثم ينتقل المنهج في الصف الثالث إلى العلاقات العامة والإنترنت والشبكات الفضائية مع استمرار تدريس اللغة الإنجليزية.
وفي العام الرابع والأخير، يتم تدريس الحرب النفسية وإدارة المؤسسات الإعلامية وحقوق الإنسان واقتصاديات الإعلام والإعلام الدولي. لكن الغريب أن تدريس اللغة الإنجليزية يتوقف في الصف الأخير ويحل محله موضوعات ليست بالأهمية ذاتها، مثل الإعلام البيئي والإعلام والعولمة.
ما تعاني منه كليات الإعلام العربية، وهو ما عبر عنه بعض الطلبة الدارسين للإعلام، هو ضعف فرص التدريب العملية في وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والإلكترونية. ويكتشف الطلبة أن مناهج الدراسة لا تكاد تلاحق التطورات التي تطبقها وسائل الإعلام المختلفة، بحيث يحتاج الخريج إلى فترات تدريب إضافية قبل اعتماده صحافياً أو مخرجاً.
هذه الإمكانات توفرها الجامعات الأجنبية التي ترتبط بعلاقات متينة مع المؤسسات الصحافية الخاصة بحيث يمكن لطلبة الإعلام التعرف على أحدث تقنيات العمل وتسجيل إنتاج إعلامي يمكن أن ينشر فعلياً في الصحف، أو يبث على التلفزيون، أو مواقع الأخبار على الإنترنت. ولبعض الجامعات صحفها واستوديوهاتها الخاصة التي تضارع أحدث المتوفر في عالم الواقع، إضافة إلى التمرس على التعامل واقعياً وأكاديمياً مع وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة.
وقد كانت الفجوة كبيرة في الماضي، لكنها تتقلص الآن مع تعرف الجامعات العربية على وسائل التدريس والتدريب الحديثة.


مقالات ذات صلة

دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

الولايات المتحدة​ دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

أظهر بحث جديد أن مدى جودة مدرستك الثانوية قد يؤثر على مستوى مهاراتك المعرفية في وقت لاحق في الحياة. وجدت دراسة أجريت على أكثر من 2200 من البالغين الأميركيين الذين التحقوا بالمدرسة الثانوية في الستينات أن أولئك الذين ذهبوا إلى مدارس عالية الجودة يتمتعون بوظيفة إدراكية أفضل بعد 60 عاماً، وفقاً لشبكة «سكاي نيوز». وجد الباحثون أن الالتحاق بمدرسة مع المزيد من المعلمين الحاصلين على تدريب مهني كان أوضح مؤشر على الإدراك اللاحق للحياة. كانت جودة المدرسة مهمة بشكل خاص للمهارات اللغوية في وقت لاحق من الحياة. استخدم البحث دراسة استقصائية أجريت عام 1960 لطلاب المدارس الثانوية في جميع أنحاء الولايات المتحدة

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم العربي مصر: نفي رسمي لـ«إلغاء مجانية» التعليم الجامعي الحكومي

مصر: نفي رسمي لـ«إلغاء مجانية» التعليم الجامعي الحكومي

نفت الحكومة المصرية، أمس السبت، عزمها «إلغاء مجانية التعليم الجامعي»، مؤكدة التزامها بتطوير قطاع التعليم العالي. وتواترت أنباء خلال الساعات الماضية حول نية الحكومة المصرية «إلغاء مجانية التعليم في الجامعات الحكومية»، وأكد مجلس الوزراء المصري، في إفادة رسمية، أنه «لا مساس» بمجانية التعليم بكل الجامعات المصرية، باعتباره «حقاً يكفله الدستور والقانون لكل المصريين».

إيمان مبروك (القاهرة)
«تشات جي بي تي»... خصم وصديق للتعليم والبحث

«تشات جي بي تي»... خصم وصديق للتعليم والبحث

لا يزال برنامج «تشات جي بي تي» يُربك مستخدميه في كل قطاع؛ وما بين إعجاب الطلاب والباحثين عن معلومة دقيقة ساعدهم «الصديق (جي بي تي)» في الوصول إليها، وصدمةِ المعلمين والمدققين عندما يكتشفون لجوء طلابهم إلى «الخصم الجديد» بهدف تلفيق تأدية تكليفاتهم، لا يزال الفريقان مشتتين بشأن الموقف منه. ويستطيع «تشات جي بي تي» الذي طوَّرته شركة الذكاء الصناعي «أوبن إيه آي»، استخدامَ كميات هائلة من المعلومات المتاحة على شبكة الإنترنت وغيرها من المصادر، بما في ذلك حوارات ومحادثات بين البشر، لإنتاج محتوى شبه بشري، عبر «خوارزميات» تحلّل البيانات، وتعمل بصورة تشبه الدماغ البشري. ولا يكون النصُّ الذي يوفره البرنامج

حازم بدر (القاهرة)
تحقيقات وقضايا هل يدعم «تشات جي بي تي» التعليم أم يهدده؟

هل يدعم «تشات جي بي تي» التعليم أم يهدده؟

رغم ما يتمتع به «تشات جي بي تي» من إمكانيات تمكنه من جمع المعلومات من مصادر مختلفة، بسرعة كبيرة، توفر وقتاً ومجهوداً للباحث، وتمنحه أرضية معلوماتية يستطيع أن ينطلق منها لإنجاز عمله، فإن للتقنية سلبيات كونها قد تدفع آخرين للاستسهال، وربما الاعتماد عليها بشكل كامل في إنتاج موادهم البحثية، محولين «تشات جي بي تي» إلى أداة لـ«الغش» العلمي.

حازم بدر (القاهرة)
العالم العربي بن عيسى يشدد على أهمية التعليم لتركيز قيم التعايش

بن عيسى يشدد على أهمية التعليم لتركيز قيم التعايش

اعتبر محمد بن عيسى، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، ووزير الخارجية المغربي الأسبق، أن مسألة التعايش والتسامح ليست مطروحة على العرب والمسلمين في علاقتهم بالأعراق والثقافات الأخرى فحسب، بل أصبحت مطروحة حتى في علاقتهم بعضهم ببعض. وقال بن عيسى في كلمة أمام الدورة الحادية عشرة لمنتدى الفكر والثقافة العربية، الذي نُظم أمس (الخميس) في أبوظبي، إن «مسألة التعايش والتسامح باتت مطروحة علينا أيضاً على مستوى بيتنا الداخلي، وكياناتنا القطرية، أي في علاقتنا ببعضنا، نحن العرب والمسلمين».

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.