عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

بريطانيا الرهينة

على مدى عامين أو أكثر قليلاً ظلت رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي تحاول تربيع الدائرة وتجسير الخلافات داخل حزبها، حول ملف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست) الملغوم. الفشل كان نتيجة حتمية لأن موضوع العلاقة مع الاتحاد الأوروبي ظل مثار حرب أهلية داخل حزب المحافظين لعقود، ولعب دوراً كبيراً بشكل أو بآخر في سقوط ثلاثة من قادة الحزب، وربما يكون الرابع في الطريق إذا لم تحدث معجزة تنقذ السيدة ماي.
الحكومة البريطانية عاشت أسبوعاً عاصفاً توج باستقالة اثنين من أبرز رموز تيار البريكست هما وزير الخارجية بوريس جونسون، ووزير ملف البريكست ديفيد ديفيس بعد رفضهما للصيغة التي جرى التوصل إليها في الاجتماع المغلق الذي عقد الجمعة الماضية بالمقر الريفي لرئيسة الوزراء في «تشيكرز»، وهي الصيغة التي تراهن عليها ماي للخروج من عنق الزجاجة في مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي. الطريقة التي عقد بها اجتماع «تشيكرز» كانت تعكس حجم الصراعات والثقة المفقودة بين تيريزا ماي وخصومها. فقد صودرت الهواتف الجوالة من الوزراء بمجرد وصولهم، وأبلغوا أن من يريد الاستقالة خلال المناقشات فسوف تسحب منه السيارة الحكومية فورا وعليه أن يعود إلى سكنه سيرا على الأقدام إن شاء.
لم يتقدم أحد باستقالته خلال المناقشات، وبعد اختتامها خرجت ماي لتصرح بأنه تم التوافق على صيغة ستعلن للبرلمان وستقدم للاتحاد الأوروبي باعتبارها الصيغة التي تراها الحكومة البريطانية للخروج وللعلاقة المستقبلية مع أوروبا. لكن شهر العسل الحكومي لم يستمر سوى 48 ساعة، فتيريزا ماي التي ظنت أنها نجحت في الحصول على تأييد وزراء حكومتها لخطتها، سرعان ما وجدت نفسها أمام استقالة اثنين من أبرز قادة جناح «البريكست» مما فتح الباب واسعاً أمام احتمال تحد لزعامتها بفرض انتخابات على قيادة الحزب. الأدهى من ذلك أن استطلاعاً سريعاً للرأي أجرته قناة «سكاي نيوز» التلفزيونية بعد أزمة الاستقالات أشار إلى أن 64 في المائة من البريطانيين لم يعودوا واثقين بأن ماي قادرة على تحقيق صفقة جيدة لبريطانيا في البريكست.
حزب المحافظين ليس غريباً على مؤامرات الدهاليز للإطاحة بقادته، والصراعات حول ملفات العلاقة مع أوروبا والهجرة. حدث هذا الأمر مع رئيسة الوزراء الراحلة مارغريت ثاتشر عام 1990 عندما واجهت أكثر من تحد لزعامتها من المتمردين في حزبها، انتهت بالإطاحة بها بعد الاستقالة الشهيرة لنائبها وزير الخارجية والخزانة الأسبق جيفري هاو في خطاب أمام مجلس العموم انتقد فيه قيادتها، وكان بمثابة الطلقة التي انتظرها البعض لفرض انتخابات على زعامة الحزب، كسبتها «المرأة الحديدية» لكن ليس بما يكفي لحسم النتيجة من أول جولة، فأجبرت على التنحي وغادرت المنصب باكية من وطء ما اعتبرته خيانة من غالبية وزرائها وعدد كبير من نواب حزبها.
ذلك الفصل الدرامي لم ينه صراعات الحزب، فواجه خليفتها في رئاسة الحكومة جون ميجور سلسلة من التحديات والمحاولات لتقويض سياساته، أدت إلى انتخابات أخرى على زعامة الحزب في عام 1995 نجح فيها ميجور بتغلبه على أحد رموز المتشددين في الحزب وهو جون ريدوود. لكن صراع الأجنحة لم يتوقف، كما لم تهدأ الحرب الداخلية حول ملف العلاقة مع الاتحاد الأوروبي الذي أصبح عقدة العقد داخل الحزب، وأدى لإضعافه وخسارته الانتخابات العامة عام 1997 بسببه سقط أيضا ديفيد كاميرون الذي اضطر إلى الاستقالة من رئاسة الحكومة ومن زعامة الحزب بعدما خسر نتيجة استفتاء عام 2016 الذي دعا إليه وراهن عليه لإسكات خصومه من اليمين المتشدد داخل الحزب الذين حاربوه بضراوة مستخدمين ورقة العلاقة مع الاتحاد الأوروبي وملف الهجرة.
بريطانيا أصبحت رهينة لصراعات المحافظين بشأن العلاقة مع أوروبا، وتواجه بسبب ذلك امتحان البريكست الذي لم يكن ليحدث أصلا لو لم يفكر كاميرون في استخدام الاستفتاء حوله كورقة لهزيمة خصومه في الحزب. هذه الصراعات شلت كذلك حكومة تيريزا ماي وجعلت مفاوضات البريكست مع الاتحاد الأوروبي تراوح مكانها منذ الاستفتاء وتفشل في تحقيق أي اختراقات حول ترتيبات العلاقة المستقبلية بين الطرفين، بينما يقترب موعد الطلاق المحدد بنهاية مارس (آذار) 2019. ماي من أجل حماية منصبها حاولت أن تمسك بالعصا من النصف في معركة لا تنفع معها أنصاف الحلول، وفي صراع بين تيارين لا يلتقيان أبدا، أحدهما يريد طلاقاً بائناً كاملاً لا رجعة فيه مع الاتحاد الأوروبي، والآخر يريد الحفاظ على شكل من العلاقات والروابط الاقتصادية والجمركية والتجارية تحفظ لبريطانيا مصالحها مع أكبر كتلة تجارية في العالم.
الاستراتيجية التي تبنتها ماي في اجتماع «تشيكرز» لإدارة المرحلة النهائية من المفاوضات وللتوفيق بين دعاة الخروج وأنصار البقاء في الاتحاد الأوروبي، تلقت أول ضربة مع الاستقالات التي هزت الحكومة وفتحت الصراع على مصراعيه مع الجناح المتطرف في البريكست، وقد تتلقى الضربة القاضية من الاتحاد الأوروبي الذي لم يبد حماساً كبيراً لها. ويصعب تصور أن ينبري حزب العمال المعارض لإنقاذ ماي من ورطتها والتصويت لصالح خطتها خصوصا، وهو يرى أن احتمال سقوطها بات أقرب من أي وقت مضى.