الهجمات الانتحارية... ضربات خاطفة لتعويض الهزائم

أدوات «داعش» و«بوكو حرام» و«الشباب» بأقل التكاليف

رجال الشرطة يرتبون الحواجز الحديدة أمام محكمة بروكسل التي نظرت في قضية صلاح عبد السلام الناجي الوحيد من تفجيرات باريس قبل أن تصدر حكماً عليه بالسجن 20 عاما (إ.ب.أ)
رجال الشرطة يرتبون الحواجز الحديدة أمام محكمة بروكسل التي نظرت في قضية صلاح عبد السلام الناجي الوحيد من تفجيرات باريس قبل أن تصدر حكماً عليه بالسجن 20 عاما (إ.ب.أ)
TT

الهجمات الانتحارية... ضربات خاطفة لتعويض الهزائم

رجال الشرطة يرتبون الحواجز الحديدة أمام محكمة بروكسل التي نظرت في قضية صلاح عبد السلام الناجي الوحيد من تفجيرات باريس قبل أن تصدر حكماً عليه بالسجن 20 عاما (إ.ب.أ)
رجال الشرطة يرتبون الحواجز الحديدة أمام محكمة بروكسل التي نظرت في قضية صلاح عبد السلام الناجي الوحيد من تفجيرات باريس قبل أن تصدر حكماً عليه بالسجن 20 عاما (إ.ب.أ)

في حين عدَّها مختصون في الحركات الأصولية بمصر بأنها «باتت استراتيجية التنظيمات الإرهابية للرد على هزائمها بضربات خاطفة»، أضحت «الهجمات الانتحارية» لـ«داعش» و«القاعدة» و«بوكو حرام» و«الشباب الصومالية» و«طالبان» نمطاً أساسيّاً في العمليات الإرهابية التي يتم تنفيذها، حيث تؤدي غالباً إلى سقوط أعداد كبيرة من الضحايا بأقل التكاليف، فضلاً عن توجيه رسائل إلى حكومات الدول تفيد بقدرة هذه التنظيمات على تنفيذ عمليات في أي وقت رغم الهزائم التي تتعرض لها بفعل العمليات العسكرية التي تشنها الدول عليها.
يؤكد مختصون في شؤون الجماعات المتطرفة لـ«الشرق الأوسط» أن «الجماعات المتشددة تحت وطأة الخسائر المتلاحقة التي مُنيت بها أخيراً، وتراجع سيطرتها في المناطق التي تنتشر فيها، لجأت إلى السلاح الأقل كلفة والأكثر تأثيراً بالنسبة لها، وهو «الهجمات الانتحارية» التي تلحق الضرر بعدد أكبر من الضحايا والممتلكات.
«بوكو حرام}... الأشهر
لم يعد استخدام «الهجمات الانتحارية» قاصراً على تنظيم «داعش» والجماعات الموالية له فحسب، بل امتد أيضاً إلى الجماعات الإرهابية الأخرى، حيث قامت حركات «بوكو حرام» النيجيرية، و«الشباب» الصومالية، و«طالبان» في أفغانستان، فضلاً عن تنظيم «القاعدة»، بتكثيف الهجمات الانتحارية التي نفذتها في الفترة الأخيرة، التي أسفرت عن مقتل المئات، وهو ما ألقى مزيداً من الضوء على اتساع نطاق الاعتماد على هذا النمط من جانب تلك التنظيمات.
أما «بوكو حرام» فمن أكثر التنظيمات الإرهابية التي تلجأ إلى «الهجمات الانتحارية» في عملياتها، خصوصا في ظل اعتمادها على النساء والأطفال في تنفيذ تلك الهجمات... وتشهد نيجيريا دائماً هجمات تحمل بصمات الحركة في مناطق متعددة ومزدحمة مثل «الأسواق ومخيمات اللاجئين» منذ نهاية عام 2016.
وتصاعد نشاط «بوكو حرام» عقب مبايعتها «داعش» الإرهابي في مارس (آذار) 2015، حيث اتخذت الحركة من تنظيم أبو بكر البغدادي وحشيته، لذلك حازت لقب «الجماعة الأكثر دموية في العالم». لكن الانقسام ضرب الحركة بسبب قرار «داعش» تغيير زعيمها أبو بكر شيكاو، وتنصيب أبو مصعب البرناوي خلفاً له... وراهن «داعش» عقب هزائمه المتتالية من قبل قوات التحالف الدولي في العراق وسوريا وهروب مقاتليه، على ذراعه «بوكو حرام» للتوسع في القارة السمراء، بحسب مراقبين.
الدكتور إبراهيم نجم، مدير مرصد الفتاوى التكفيرية بدار الإفتاء المصرية، أشار إلى أن «العمليات الانتحارية» اتخذت خطاً متصاعداً منذ ظهور «داعش» الذي بدأ ارتكاب هذه الجرائم في العراق مستهدفاً المراقد والمساجد، ثم انتقلت إلى سوريا وأفغانستان ودول أوروبا، وهذا النمط من الهجمات انتقل بدوره إلى أفريقيا على يد «بوكو حرام».
وقالت الباحثة دعاء محمود، المتخصصة في شؤون الحركات الأصولية، إن معظم هجمات «بوكو حرام» تستهدف أماكن مكتظة بالسكان كالأسواق والمساجد وغيرها.. وأسلوب الحركة في أغلب عملياتها يميل إلى استخدام الأحزمة الناسفة والتفجيرات الانتحارية مما يزيد من أعداد القتلى والجرحى، في محاولة لإثبات أن لديها القدرة على تحقيق إنجازات خارج حدود بلادها، يجعلها حركة «عابرة للحدود».
«طالبان}... و{الشباب»
من جهته، أكد الدكتور خالد الزعفراني، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «بوكو حرام» تعتمد الآن بشكل كبير على الأطفال صغار السن للقيام بـ«عمليات انتحارية»، حيث يستغل الوجه البريء للطفل للنفاذ إلى الأهداف بسهولة، فلا يحتاج الطفل إلى التدريب، وهو كفيل بتنفيذ عملية لا يعرف مداها ولا خطورتها، وبالتالي لا مجال للفشل، لافتاً إلى أن «الحركة غررت بالأطفال عبر زعم الفوز بالجنة والاستشهاد في تحدٍّ واضح لسنن الكون، رغم الله أعفى الأطفال من أي تكليف قبل سن التعقل».
في السياق ذاته، صعدت حركة «طالبان» الأفغانية من هجماتها الانتحارية في الفترة الماضية قبل قبولها وقف إطلاق النار بمناسبة عيد الفطر الأسبوع الماضي، وكان آخرها الهجوم الانتحاري الذي استهدف مركزاً للشرطة في منطقة سبين بولداك بمقاطعة قندهار مايو (أيار) الماضي... أيضاً يعتمد تنظيم «ولاية خراسان» الذي يتبع «داعش»، على تلك الهجمات التي يركز فيها على استهداف المدنيين، مثل الهجوم الذي وقع في مركز محلي لتسجيل الناخبين في كابل أبريل (نيسان) الماضي.
واتبعت حركة «الشباب» الصومالية هذا النمط أيضاً بشكل ملحوظ خلال الفترة الماضية، بينما صعدت المجموعات «القاعدية» من هجماتها الانتحارية، خصوصاً ضد القوات الأممية والفرنسية، على غرار الهجوم الذي استهدف عناصر من القوات الفرنسية من قوة برخان في يناير (كانون الثاني) الماضي.
«داعش}... والعائدات
يشار إلى أن «داعش» يستخدم الغربيات العائدات من أرض «الخلافة المزعومة» بسوريا والعراق في التخطيط للعمليات الإرهابية، واستخدامهن منسقاتٍ لها من خلال الإنترنت، حيث يقمن بدور المنسق بين قيادة «داعش» والأفراد المقاتلين أو الخلايا الصغيرة القتالية لشنِّ الهجمات وكيفية القيام بها.
والعالم ما زال يتذكر مشهد أفزع الجميع لـ«داعش» قبل نهاية فبراير (شباط) 2016، حيث ظهر طفل لا يتعدى الأحد عشر عاماً من عمره يحتضن أباه في ريف حلب بالشمال السوري، ثم تسلق سيارة محملة بالمتفجرات بعد أن علمه كيف يقودها؟ ثم قبَّل يد أبيه قبل الرحيل ليمضي الطفل بعيداً في مهمة انتحارية ويفجِّر نفسه فيها.
وقالت دراسة مصرية في هذا الصدد، إن «حب التقليد لدى الصغار قد يكون من بين الأسباب التي ساعدت الدواعش في إقحامهم للقيام بالعمليات الانتحارية، عقب القيام بتجنيد هؤلاء القصَّر، الذين يرون في حمل السلاح واستعماله بطولة وفدائية يطمحون إلى تحقيقهما... وأن التنظيم لجأ للأطفال في العمليات الانتحارية لإنتاج انتحاريين جُدد عقب هروب مُقاتليه بعد هزائم التنظيم في سوريا والعراق واكتشاف زيف مزاعمه، فضلاً عن بُعد احتمالية الاشتباه بهم من قبل سلطات الدول خلال قيامهم بأي عمليات غير متوقعة.
سجل عنف
خلال الفترة الماضية، وقعت عدة تفجيرات انتحارية في مناطق متفرقة من أنحاء العالم، وتبنتها تنظيمات متعددة، على سبيل المثال لا الحصر نفّذ «داعش» تفجيرين متتاليين بالعاصمة الأفغانية كابل، مما أسفر عن مقتل 25 شخصاً وإصابة 45 آخرين.
وفي إندونيسيا وقعت تفجيرات انتحارية على مقر للشرطة وعلى ثلاث كنائس في مدينة سورابايا ثاني أكبر المدن. وفي ليبيا شن مسلحون بينهم انتحاري هجوماً إرهابياً على مقر اللجنة العليا الانتخابية مما أدى لسقوط قتلى ومصابين.
المراقبون فسروا اعتماد التنظيمات الإرهابية بشكل أكبر على «الهجمات الانتحارية»، بسبب تراجع الأنماط الأخرى في القتل نتيجة الإجراءات الأمنية المشددة التي اتبعتها كثير من الدول للتعامل مع التهديدات التي يفرضها تصاعد نشاط تلك التنظيمات، فضلاً عن تعدد وسائل تنفيذ «الهجمات الانتحارية».
وقال الزعفراني: «تُعد (الهجمات الانتحارية)، رغم تداعياتها، أقل تكلفة من الناحية البشرية مقارنة بالأنماط الأخرى من العمليات الإرهابية، التي تحتاج وفقاً لاتجاهات كثيرة، إلى عدد أكبر من العناصر الإرهابية لتنفيذها، على نحو قد يزيد من احتمالات إجهاضها من جانب أجهزة الأمن... إلى جانب أن هذه الأنماط تحتاج إلى دعم لوجيستي مثل (التخطيط والرصد والمتابعة وتوفير بدائل للهروب) بعد تنفيذ العملية الإرهابية».
رد على الضربات
بينما أكد نجم، أن «الهجمات الانتحارية» تتعدد وسائل تنفيذها بأقل التكاليف، لأنها تعتمد على انتحاري واحد - من تطلق عليه تلك الجماعات «انغماسياً» - يرتدي حزاماً ناسفاً أو يقود مركبة مفخخة... كما تعتمد أيضاً على صعوبة المواجهة الأمنية لهذه الهجمات، لسهولة تخفي ذلك الانتحاري بين المواطنين العاديين.
وأضاف أن «هذه الهجمات أصبحت نمطاً أساسياً في العمليات الإرهابية التخريبية التي ترتكبها تلك الجماعات والتنظيمات، وذلك في إطار المواجهات المستمرة بينها وبين الأجهزة الأمنية في الدول التي تتركز فيها تلك الجماعات والتي تتسع شرقاً وغرباً في آسيا وأفريقيا وطالت الكثير من دول أوروبا أيضاً».
وأكد المراقبون أن «التنظيمات الإرهابية تسعى من خلال العمليات الانتحارية الردّ على الضربات التي تتعرض لها وأدت إلى تراجع قدراتها البشرية والتسليحية، لا سيما في ظل الاهتمام المتصاعد الذي تبديه كثير من القوى الدولية والإقليمية بمحاربتها وتقليص نفوذها».
حالة ضعف
من جانبه، أكد اللواء كمال مغربي، الخبير الأمني والاستراتيجي، أن «الهجمات الانتحارية» مؤشراً على حالة الضعف التي تمر بها التنظيمات الكبرى، ولأحدث أكبر كم من الضرر ووفقاً للإمكانيات المتوفرة لديها، وذلك بعد إقناع أفرادها بأنهم سيكونون على موعد في الجنة عندما يقدمون على هذا التصرف.
وأضافً أن «حوادث الدهس بالسيارات والطعن بسكين المطبخ تُصنف على أنها ضمن العمليات الانتحارية، لأن مُنفذها لا يكون أمامه فرصة للهروب والنجاة، إما أن يتم تصفيته أو القبض عليه من قبل قوات الأمن».
لافتاً إلى أن «الهجمات الانتحارية» تكون في إطار إنهاك الدول، وتعتبر الوسيلة الأكثر نجاحاً من وجهة نظر «الإرهابيين» لإلحاق الأذى والضرر على أوسع نطاق ممكن، حيث يتم تنفيذها عبر شخص أو سيارة مفخخة بالمتفجرات، وفى أحيان كثيرة تكون فرص كشفها صعبة من قبل الأجهزة الأمنية في الدول.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.