عن «الرسالة» ومخرجه حكايات كثيرة

ابتعد مصطفى العقاد عن فخاخ القذافي وانتقده مثقفون

مصطفى العقاد بين أنطوني كوين وعبد الله غيث بطلي «الرسالة»
مصطفى العقاد بين أنطوني كوين وعبد الله غيث بطلي «الرسالة»
TT

عن «الرسالة» ومخرجه حكايات كثيرة

مصطفى العقاد بين أنطوني كوين وعبد الله غيث بطلي «الرسالة»
مصطفى العقاد بين أنطوني كوين وعبد الله غيث بطلي «الرسالة»

قرار السلطات السعودية السماح بعرض فيلم «الرسالة» بعد 40 سنة على منعه، يأتي في الوقت المناسب ضمن الحركة الجادة والنشطة لبلورة مجتمع سعودي جديد ومتقدّم يمتلك جدية السعي للانتقال قُدماً في مجالات كثيرة من بينها مجالات الفن والثقافة وقضاياهما المتعددة.
«الرسالة» للمخرج الراحل مصطفى العقاد يحمل في طياته محاولة جسورة لتقديم أول عمل تاريخي ملحمي برؤية إنتاجية عالمية لولادة الإسلام ونشأته. وكان الاعتراض الذي ارتفع ما إن بدأ العقاد تصوير الفيلم في المغرب سنة 1975 هو أن الفيلم يخالف الشريعة الإسلامية بصرف النظر عن فحواه وهذا كاف للمطالبة بإيقاف العمل عليه وإن لم يكن فمنعه.
- فيلم كاوبوي
لكن هناك الكثير من المسائل التي شابت قضية هذا الفيلم الذي عرض عالمياً ومُنع من العرض في معظم الدول العربية إلى أن بدأت قرصنته (غالباً) على شاشات المحطات التلفزيونية منذ عدة سنوات.
يمكن هنا أن نبدأ من نقطة متأخرة من الحكاية. نقطة تشمل في الواقع الفيلم الآخر للمخرج مصطفى العقاد تمهيداً للانتقال مجدداً صوب «الرسالة».
قبل عشرة أعوام خطر للرئيس معمّر القذافي أن يكتب قصّة سينمائية حول الاحتلال الإيطالي لليبيا. ووضع بالفعل الفكرة وتحمس لها. استدعى بعد حين المخرج السوري نجدت أنزور، وطلب منه أن يكتب عن فكرته سيناريو لتحقيق الفيلم الجديد.
في لقائه الأول أبدى المخرج أنزور استغرابه وسأل القذافي عن السبب في رغبته تحقيق ذلك الفيلم، وهو الذي كان موّل فيلم مصطفى العقاد «أسد الصحراء» الذي دار حول الموضوع نفسه. فكان جواب القذافي له هو أن «أسد الصحراء» كان فيلم «كاوبوي».
انطلق أنزور متسلحاً بنحو 50 مليون دولار وأنجز مقدّمة دعائية مصوّرة من نحو ربع ساعة كتمهيد للعمل. الأرجح أنها كانت تمهيداً لإقناع القذافي بأن أنزور يستطيع تحقيق المشروع المذكور فعلاً. لكن العمل على هذا الفيلم توقف فجأة إذ دخل على خطه المنتج التونسي طارق بن عمّار وأقنع القذافي، حسب روايات، بعدم تحقيق الفيلم واعداً إياه بالحصول على تعويض مادي لورثة ضحايا الاحتلال الإيطالي.
- تسييس
مصطفى العقاد لم يكن رجل مقايضات. كانت له أحلامه المادية بالطبع لكن من خلال السينما التي أحبها منتجاً ومخرجاً وعلى الغرار الدولي الذي نما عليه. ذلك الغرار المتمثل في أفلام ديفيد لين وجون هيوستون وسيسيل ب. ديميل. لم يسع لاتفاقات جانبية لتعزيز مكانته وفضل العودة إلى هوليوود منتجاً لأفلام لا علاقة لها بالإسلام وبالعرب على أن يقبل بتنازلات واجهها في محطات مختلفة.
كان ترك حلب في أواخر الستينات بعد وقوعه في حب السينما. قال لي ذات مرّة: «تسلحت بـ300 دولار وبمصحف أعطاني إياه والدي. وهذا كل ما كان معي عندما وصلت إلى هوليوود».
هوليوود حينها كانت لا تزال منازل ومؤسسات مزروعة وسط البراري وهو شق طريقه مساعداً في حلقات «الفرد هيتشكوك يقدم» وفي مسلسلات أخرى قام بإخراجها سينمائي مشهود آخر هو سام بكنباه.
عندما وصل إلى بيروت للإعلان عن فيلمه الأول «الرسالة» كان ذلك في فترة حاسمة من حياة الفيلم وصاحبه. كان المغرب أوقف تصوير الفيلم فاتجه العقاد إلى القذافي لإنقاذ المشروع من الاندثار. ووافق على أن يتم التصوير في ليبيا ضمن الميزانية التي رسمها المخرج الأميركي - السوري.
لم يكن في تصوّر العقاد أن الفيلم سيجد ممانعة رسمية عربية شاملة على هذا النحو: «في اعتقادي أنني لو صوّرته في المغرب لما شهد كل هذه الضجة التي أثيرت حوله». على ذلك، أطلق المخرج فيلمه هذا في عروض أميركية وأوروبية وآسيوية بنجاحات غير مسبوقة لفيلم ناطق بالعربية من قبل.
هذا ما عزَّز انتقاله إلى الفيلم الآخر الذي تم تصويره في ليبيا - القذافي وهو «أسد الصحراء» أو «عمر المختار». هذه المرّة حاول القذافي التدخل لتسييس الفيلم متسائلاً عن تلك النهاية التي لم تعجبه. قال للعقاد إثر عرض الفيلم إنه لم يفهم المشهد الأخير الذي يلتقط فيه صبي من تلامذة عمر المختار النظارة الطبية التي سقطت على الأرض عندما تم تنفيذ حكم الإعدام شنقاً بعمر المختار. قال له العقاد: «النظارة هي رمز العلم والقراءة. يعني المشهد أنه بالعلم والثقافة فقط نستطيع النجاح في شق الطريق أمام مستقبل أفضل. النظارة بالتالي هي رمز».
لم يبدُ على القذافي كثير من الاقتناع، ولو أنه سمح بعرض الفيلم متوخياً نقل قضية ليبية وطنية ضد الاستعمار الإيطالي إلى العالم. وفعل الفيلم ذلك بلا ريب ما دفع القذافي للطلب من العقاد أن ينجز فيلماً عن حياته هو.
لم يوافق العقاد على ذلك منتبهاً إلى الشرك الذي سيقع فيه إذا ما فعل. قال له: «أنا إنسان عربي تهمني القضايا العربية والإسلامية من دون تحبيذ. ليس في نيتي تحقيق فيلم عن زعيم أو سياسي منفرد، لأن هذا لن يكون مقبولاً لا مني ولا من النقاد. سيرون أنني تنازلت».
كان ذلك آخر مشهد في العلاقة بين الاثنين وتكشف أن العملية، بالنسبة للعقاد، لم تكن مقايضة ربحية تعتمد العلاقات الخاصة، كما الحال مع رغبة العقيد تحقيق فيلم ابتزاز باسم ضحايا الاحتلال الإيطالي، بل سبر غور مشاريع سينمائية فعلية تتضمن استوديوهات وأفلاماً كبيرة أخرى.
- نقد مثقفين
في «الرسالة» مارس العقاد مفهوم السينما الهوليوودية (ثم مارسه أيضاً في «عمر المختار») ليس بسبب تحقيقه فيلماً مزدوج اللغة (ما يجعله فيلمين وليس فيلماً واحداً في الواقع) ولا حتى بسبب إتيانه بممثلين أجانب مشهود لهم بالكفاءة مثل إرين باباس وأنطوني كوين ومايكل أنساره (سوري من جيل أسبق) بل بسبب أسلوب عمله منتجاً ومخرجاً. كلتا الناحيتين تمّت بالوسيلة ذاتها التي كان سيسيل ب. دميل وسواه يحققون أفلامهم التاريخية - الدينية. لكن الموضوع كان إسلامياً ناصعاً يدور حول حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في تلك الفترة من التاريخ عندما دعا قريش ومحيطها إلى الإسلام، وما صاحب ذلك من مكائد على حياته ومعارك شكلت، كما في أفلام الملاحم التاريخية، نقطة جذب خصوصاً وأنها (بفضل مدير التصوير البريطاني جاك هيلديارد) أحسنت استخدام الصحراء كما لم يفعل مخرج عربي من قبل وكما لم يفعل سوى القلة من المخرجين الأجانب أيضاً.
لكن الفيلم لا يخلو من مشكلات ناتجة عن صعوبة سرد حكاية بطلها غائب عن الشاشة. صحيح أن هذا لم يمنع المخرج من إيجاد وسيلة ولم يمنع كذلك من إقبال المشاهدين الأجانب على الفيلم وجلهم يحملون أسئلة حول السبب في تغييب صورة النبي الكريم.
ما لم يُروَ عن الفيلم وصاحبه منذ ذلك الحين هو أن جل المثقفين والسينمائيين العرب ناهضوه. نقاد السينما، في غالبيتهم، انتقد العمل برمّته، شكلاً وأسلوباً ومحتوى. لكن هذه الممانعة (التي لم تشكل مصدر قلق للمخرج) لم تكترث للناحية الدينية كما فعلت المعارضات الدينية والرسمية حينها، بل كان لها سبب كبير آخر.
في تلك الأيام، كان السينمائيون العرب يرون أنه من الخيانة الكبرى التماثل، سينمائياً، مع منتجات فيلمية هوليوودية. قراءات سياسية كثيرة سطت على كيفية الحكم على الأفلام الجيدة الآتية من هوليوود. لم يكترث النقاد للغة السينما ولا لفن الفيلم ولا لأسلوب المخرج الأميركي بل وُصف كل ذلك بأنه «أداة إمبريالية للسيطرة على العالم» وأن الفيلم الجيد (والوحيد) هو الذي «ينتقد الرجعية الأميركية» إلى آخر ذلك الكلام المسيّس والقائم على أفكار مشوّهة. وهذا النقد طال «الرسالة» (ولاحقاً «عمر المختار») والمخرج على أساس أن إنجاز أفلام عربية تماثل ما ينتجه الغرب هو أقرب إلى خيانة لآمال وطموحات السينمات الشبابية الواعدة والمغايرة في العالم العربي.
الكثير من أهم مخرجينا المعروفين، مثل محمد ملص ويوسف شاهين، انضموا أيضاً إلى هذا الموقف ولو لسبب مختلف. المخرج السوري ملص، الذي حقق أفلاماً بديعة، رأى أن فيلمي العقاد هما وسيلة ربحية في المقام الأول لا يمكن لها أن تأتي بخير على السينما العربية. لم يأتِ هذا النقد متشنجاً كما فعل آخرون، لكنه كان قريباً من آرائهم.
بالنسبة ليوسف شاهين فإن المعيار كان مختلفاً. المخرج المصري كان أمّ أفلاماً تاريخية عدّة في حياته لم تشهد أيّاً من النجاح التجاري الذي حققه العقاد عالمياً. والرواية السائدة أن شاهين استخفَّ بقدرات العقاد فبادره ذاك بالمثل.
حسب مصطفى العقاد: «لم أدَّعِ مطلقاً أنني سينمائي محلي. أفلامي ليست عربية بل عالمية وهذا ما لا يريد الآخرون الاعتراف به».
- سعي جديد
ابنه مالك العقاد الذي ورث مملكة أبيه السينمائية (في حين انصرف أولاده الآخرون إلى أعمال مختلفة بعيدة عن السينما) هو الذي وقف وراء ترميم الفيلم بعد 40 سنة على إنتاجه. وهو يقول: «في اعتقادي أن الفيلم ثروة تاريخية للسينما ولوالدي والأولى بي أن أحافظ عليها وأعمل على إعادة تقديمها، خصوصاً في الوقت الحالي الذي يبحث فيه العالم الدين الإسلامي إما لسبر غور حقيقته أو للنيل منه». أنجز مالك العقاد فيلماً مصاحباً لـ«الرسالة»: تسجيلي طويل من المقابلات مع عدد من الذين رافقوا العمل على الفيلم أو تابعوه: «والدي شق طريقه قبل سواه. بذلك أعتقد أنه كان سباقاً لعصره ولو أنه من الصحيح القول إنه جاء في الوقت المناسب. فيلمي عن تصوير (الرسالة) تحية له كما أنه استكشاف لحكايات كثيرة صاحبت تصويره».
مالك، الذي يكمل سلسلة أفلام «هالووين» التي بدأها والده الراحل بفيلم جديد انتهى تصويره قبل أيام، واجه الكثير من التفاصيل التقنية الصعبة وقت الترميم، لكن ما كان أكثر صعوبة تجاوز معارضات المراجع الدينية السابقة التي سدت الطريق أمام عروض الفيلم التجارية في العالم العربي.
العروض السعودية المرتقبة للفيلم الآن يجب أن يُنظر إليها من زاوية أنها تأتي أيضاً في الوقت الصحيح لتبني عمل قدّم الإسلام برؤية عالمية مختلفة عن أفلام صلاح أبو سيف ويوسف شاهين وسواهما من المخرجين الذين أمّوا الفيلم الديني والتاريخي العربي (بعض أفلامهم جيدة بدورها). ذلك لأن الإسلام يمر بمرحلة خطرة بسبب ما تسببت به الأطراف المتشددة منذ الثمانينات وحتى نشأة القاعدة والمنظمات المسلحة وما صاحب كل ذلك من عمليات إرهابية في أكثر من موقع حول العالم. الخطوة السعودية الشجاعة لها، بذلك، انعكاس عالمي من إذ إن الفيلم سيجد في السعودية بيتاً جميلاً يعزز من قيمته ويكمل إيصال رسالته.


مقالات ذات صلة

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
سينما «من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة

محمد رُضا‬ (سانتا باربرا - كاليفورنيا)
سينما «موعد مع بُل بوت» (سي د.ب)

شاشة الناقد: تضحيات صحافيين وانتهاكات انظمة

يأتي فيلم «موعد مع بُل بوت» في وقت تكشف فيه الأرقام سقوط أعداد كبيرة من الصحافيين والإعلاميين قتلى خلال تغطياتهم مناطق التوتر والقتال حول العالم.

محمد رُضا‬ (لندن)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».