قدمت مجموعة من الباحثين البولنديين نتائج مراجعتها العلمية لمدى استفادة الأوساط الطبية من سائل اللعاب في تشخيص الإصابات بأنواع مختلفة من الأمراض والاضطرابات الصحية. ووفق ما تم نشره ضمن عدد 9 مايو (أيار) الماضي من المجلة الدولية للبحوث الحيوية الطبية (BioMed Research International)، قام الباحثون من كلية الطب بجامعة بوميرانيا في مدينة شتشيتسين البولندية بمراجعة تحليلية لنتائج 77 دراسة طبية حول سائل اللعاب وكيفية تطور الاستفادة التشخيصية منه حتى اليوم في مجالات شتى.
- اهتمام إكلينيكي تطبيقي
وقال الباحثون في مقدمة الدراسة ما مفاده إن «اللعاب سائل بيولوجي فريد في الجسم، ويحتوي على كثير من المركبات الكيميائية والمواد العضوية والخلايا الحية والميكروبات». وأضافوا: «الميزة المهمة للعاب كمادة تشخيصية هي توفره، وسهولة طريقة جمعه دون الحاجة إلى تدخل»، بعكس الحصول على سائل الدم مثلاً. وقال الباحثون عن هدف إجرائهم هذه الدراسة العلمية: «الهدف من هذه المراجعة هو التأكيد على القيمة التشخيصية للعاب كمادة يُمكن أن يتغير تكوينها ويضطرب إفرازها»، في الحالات المرضية والاضطرابات الصحية المختلفة.
وتشير المصادر الطبية إلى أن هناك كثيراً من الطرق لاستخدام اللعاب سائلاً بيولوجياً، لأن اللعاب يمثل «مرآة الجسم» التي تعكس صورة الحالة الفسيولوجية والمرضية في تجويف الفم وفي أماكن أخرى من الجسم، ما يجعله، كما قال الباحثون، «بمثابة أداة تشخيص ومراقبة في كثير من المجالات، مثل الطب الباطني وطب الأسنان والعلاج الدوائي».
وتحت عنوان «جوهر الموضوع»، قال الباحثون: «يهدف تحليل الدم، وهو الأكثر حضوراً في التحاليل الكيميائية الإكلينيكية، إلى تحديد الأمراض ومراقبة تقدم العلاج. ومع ذلك، فإن العاملين في المجال الطبي يُقدّرون بشكل متزايد أن اللعاب يُمكن استخدامه مادة تشخيصية، لأنه غني بالمعلومات الإكلينيكية ويمكن استخدامه في التشخيص المختبري والتشخيص الإكلينيكي، وكذلك في مراقبة وعلاج المرضى المصابين، ليس فقط بأمراض الفم بل بأمراض بقية الجسم».
وأضافوا: «يمكن استخدام اللعاب لتشخيص الأمراض المعدية، وأمراض اضطرابات المناعة الذاتية، والسرطان، وكذلك اضطرابات الغدد الصماء وأمراض القلب. كما يمكن استخدام اللعاب لفحص مستويات عدد من الأدوية واختبارات وجود المخدرات».
واللعاب كمادة تشخيصية من السهل جمعها ونقلها وتخزينها. ومع ذلك، يجب التنبه إلى أنه يُفضّل جمع عينة اللعاب في الفترة بين التاسعة والحادية عشرة صباحاً، وذلك لأن الاستقرار الفيزيائي (Physicochemical Stability) للعاب في هذه الفترة هو الأعلى مقارنة ببقية ساعات اليوم. كما يجب امتناع المريض عن تناول أي شيء لفترة ساعة ونصف الساعة قبل تجميع عينة اللعاب، والتوقف أيضاً قبل يوم واحد عن تناول أي نوع من الأدوية التي تؤثر في نشاط إفراز اللعاب. وقبل أخذ العينة اللعابية، ينبغي شطف الفم بالماء الخالي من الأيونات، ويجب جمع اللعاب لمدة 10 دقائق.
- اضطرابات اللعاب
وفي حالات جفاف الفم (Xerostomia) يحصل انخفاض في إفراز اللعاب، إما نتيجة تناول أنواع مختلفة من الأدوية، مثل أدوية خفض ارتفاع ضغط الدم أو مضادات الاكتئاب أو مدرات البول أو مضادات الهيستامين للحساسية أو أنواع من مسكنات الألم، أو مع التقدم في العمر، أو كأحد الأعراض المرافقة لبعض أمراض اضطرابات المناعة الذاتية. وبالتالي تحصل عدة مضاعفات لنقص إفراز اللعاب، مثل تسويس الأسنان والتهاب الفم والغدد اللعابية، وفقدان الإحساس بالطعم، وصعوبة البلع، وألم الفم، وتشقق اللسان، والسوء في رائحة الفم، وغيرها.
وبالمقابل، هناك حالة زيادة اللعاب (Hypersalivation) المزعجة للمصابين بمرض باركنسون العصبي أو انفصام الشخصية أو حالات مرضية أخرى. وتشمل تحاليل اللعاب قياس درجة حمضيته. وخلال النوم، ومع تدني إفراز اللعاب، تزداد درجة حامضيته. وأثناء تناول الطعام، ومع زيادة إفراز اللعاب، تقل درجة حموضته ليصبح سائلاً قلوياً.
وقال الباحثون ما ملخصه: «عندما تزداد حمضية اللعاب، تحصل إزالة للمعادن Demineralization في تركيب طبقة مينا الأسنان، أي تآكل المينا Enamel Erosion، وقد يحصل الشيء نفسه عند تناول مواد حمضية أو وصول حامض المعدة إلى الفم. وما لم يعمل اللعاب على معادلة هذه الأحماض، يحصل التآكل في مينا الأسنان. ولذا فإن من المفيد قياس درجة حموضة اللعاب وقياس مدى القدرة المخففة للعاب Saliva Buffer Capacity، كتحاليل سهلة يمكن إجراؤها في عيادة الطبيب».
وتعتمد مرونة اللعاب (Saliva Elasticity) على وجود مركبات ميوسين (Mucins)، وهي مركبات غنية بالحمض الأميني برولين والبروتينات السكرية وعدد من المعادن، إضافة إلى الماء. ووظيفة ميوسين الأساسية هي حماية كل أنسجة بطانة الفم، ولذا يعتبر من أهم المركبات البروتينية في سائل اللعاب، ويشكل نسبة 30 في المائة من بروتينات سائل اللعاب، ومع زيادة وجوده في سائل اللعاب ترتفع كتلته ولزوجته. وثمة عدد من أنواع أجهزة قياس اللزوجة Viscosimeters، يمكن الاستفادة منها في تقييم مستوى لزوجة اللعاب. وقال الباحثون: «من جملة النتائج يُمكن استنتاج أن تسويس الأسنان يُمكن منعه بتحسين نوعية اللعاب وخصائصه بنيته»، والتي منها لزوجته.
- تحاليل هرمونية
وعرض الباحثون بتفصيل واسع نتائج الدراسات حول تطور قياس نسبة عدد من أنواع الهرمونات في سائل اللعاب، ودلالات ذلك الإكلينيكية التطبيقية. ومنها هرمون كورتيزول (Cortisol) الذي تنتجه الغدد فوق الكلوية. ويوفر قياس نسبة هذا الهرمون في اللعاب فرصة لإجراء عدة قياسات له، وفي الغالب 7 مرات في اليوم، دون الحاجة إلى أخذ عدة عينات من الدم. وكذلك قياس نسبة هرمون ليبتين (Leptin) في اللعاب، وهو الهرمون المرتبط بتنظيم تناول الطعام وتوازن الطاقة في الجسم. وترتفع نسبته في اللعاب، أو تنخفض، في حالات مرضية عدة، مثل أمراض وأورام الفم.
كما عرض الباحثون تفاصيل مجمل التطورات العلمية في قياس نسبة عدد من الإنزيمات في اللعاب، مثل إنزيم أميليز ذي الصلة بهضم السكريات وحماية الفم من الميكروبات، وهو الإنزيم الذي لا يزال الباحثون يحاولون معرفة دلالات تغيرات نسبته في اللعاب. وعلى سبيل المثال، ترتفع نسبته في اللعاب لدى الأمهات عند ضم الطفل المولود أثناء الولادة القيصرية، بخلاف ضم الطفل المولود بعد الانتهاء من تلك العملية الجراحية. وأيضاً تنخفض نسبته في اللعاب بعد إجراء عمليات المعدة لإنقاص الوزن. وكذلك الحال مع إنزيم ليسوزوم (Lysozyme)، ذي الصلة بنشاط عمل جهاز مناعة الجسم.
كما عرض الباحثون تفاصيل عن تحاليل لعدد من البروتينات في اللعاب، مثل بروتين «كروموغرانين إيه» (Chromogranin A) ذي الصلة بعمل الجهاز العصبي اللاإرادي. وأيضاً الجسم المضاد من نوع «إيه» (IgA)، ذي الصلة بعمليات جهاز مناعة الجسم في الأنسجة المخاطية.
- جوانب مبهمة حول إفراز اللعاب ومكوناته
> لدى الشخص البالغ، يتم في اليوم الواحد، عموماً، إنتاج كمية تقارب ما بين لتر ونصف اللتر إلى لترين من سائل اللعاب، تزيد في أوقات تناول الطعام، وتنخفض بشكل كبير أثناء فترات النوم. وبشكل أكثر دقة، فإن معدل إفراز اللعاب بالمتوسط نحو 0.5 مليلتر في الدقيقة، ويرتفع أثناء مضغ الطعام ليبلغ 10 مليلترات في الدقيقة، وينخفض أثناء النوم إلى أقل من 0.25 مليلتر في الدقيقة. ولذا قال الباحثون: «حجم اللعاب اليومي يعتمد على مدة ساعات النوم، وعلى نوعية وعدد وجبات الطعام في اليوم، وتأثيرات التفاعلات النفسية».
وثمة نوعان من أنواع الغدد اللعابية (Salivary Glands)؛ أحدها نوع كبير والآخر نوع صغير جداً. وبخلاف اللثة والجزء الأمامي من الحنك (Hard Palate)، تحتوي جميع الأغشية المخاطية في الفم على مجموعة كبيرة من الغدد اللعابية الدقيقة (Fine Salivary Glands)، التي يتراوح عددها من 200 إلى 400 غدة صغيرة، وهذه الغدد اللعابية الصغيرة تنتج نحو 10 في المائة من كمية اللعاب التي يتم إفرازها كل يوم. والكمية الباقية من اللعاب، أي 90 في المائة، يتم إفرازها من 3 أزواج من الغدد اللعابية الكبيرة؛ الأولى هي «الغدة تحت الفك السفلي» (Submandibular Gland)، التي تنتج نحو 65 في المائة من كمية اللعاب اليومي، والثانية هي «الغدة النكافية» (Parotid Gland)، التي تنتج نحو 20 في المائة من كمية اللعاب اليومي. والثالثة هي «الغدة تحت اللسان» (Sublingual Gland) التي تنتج نحو 5 في المائة من اللعاب اليومي.
ويشكل الماء نسبة 99 في المائة من مكونات سائل اللعاب. ويحتوي اللعاب على كثير من الشوارد (الأيونات) المعدنية للأملاح، مثل الصوديوم والبوتاسيوم والكالسيوم والماغنيسيوم والكلوريد والبيكربونات والفسفور واليود. كما يحتوي اللعاب على مادة ميوسين المخاطية، التي تصنع حالة اللزوجة فيه. إضافة إلى عدة مركبات أخرى وأجسام مضادة ذات قدرات على مقاومة الميكروبات، وعلى مواد ذات قدرة على تسكين الألم (Opiorphin).
ومع ما تقدم، يحتوي اللعاب على مكونين آخرين؛ الخلايا والبكتيريا أولاً، والإنزيمات والهرمونات ثانياً. وبشيء من التفصيل، تفيد بعض المصادر العلمية بأن كل مل واحد من اللعاب يحتوي على نحو 8 ملايين خلية بشرية و500 مليون خلية بكتيرية، ليست بالضرورة ضارة. كما يحتوي اللعاب على إنزيم أميليز الذي يُسهم في بدء هضم السكريات النشوية عند مضغ الطعام في الفم، وإنزيم الليبيز الذي يُسهم في هضم الدهون عند وصولها إلى المعدة، وعدد آخر من الإنزيمات والهرمونات، ذات المهام المتعلقة بالمناعة والنمو النسيجي وتفتيت البروتينات وتسهيل ترطيب الفم ووقاية الأسنان وغيرها من المهام، التي لا يزال الباحثون العلميون يُحاولون معرفة أنواعها ووظائفها.
وما نعلمه حتى اليوم أن اللعاب يقوم بوظائف متعددة جداً في الفم وفي الجسم ككل، منها ترطيب مكونات الفم، وتسهيل عمليات مضغ وبلع وهضم الطعام، وتسهيل نطق الكلام، وتسهيل تذوق الطعم وبقية أنواع الإحساس العصبي في الفم، وحماية الأسطح الداخلية لتجويف الفم والتراكيب التي فيه كالأسنان واللثة واللسان والحلق وغيرها، كما لا تزال معرفة بقية وظائف اللعاب محل البحث العلمي المستمر.
- استشارية في الباطنية