حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

مرسوم التجنيس: الفضيحة المزدوجة

محاولة «لملمة» فضيحة مرسوم التجنيس المريب وحفظ ماء الوجه لبعض أهل الحكم، تحولت إلى فضيحة أكبر من فضيحة المشروع نفسه. وزراء ونواب مقربون من رئاسة الجمهورية اندفعوا في شن هجمات مضادة على منتقدي المرسوم، وبيت القصيد أن المنتقدين يستهدفون «العهد» ويشككون في حكمة رئيس البلاد، ويعلن الداعمون تجديد ثقة مطلقة بما يصدر عن رئاسة الجمهورية. وكان اللافت جداً ما ذهب إليه الرئيس الحريري الذي وقّع مسبقاً المرسوم، إذ قال إن «التجنيس حقٌ لرئيس الجمهورية ومن لديه اعتراض فليتوجه إلى القضاء ومَن أُعطيت لهم الجنسية يستحقونها»... ويتفوق وزير الخارجية على نفسه فيقدم للبنانيين طرحاً أراد منه تبيان حسنات مرسوم التجنيس: «التجنيس الجماعي يوحي بالتوطين وهو مرفوض، والتجنيس الفردي يعزز الهوية وهو مرغوب»... ورغم تأكيده أنه لا مسؤولية مباشرة لوزارته، برر الوزير جبران باسيل الخلفية الحقيقية للمرسوم المذكور بأن: «الجنسية تُمنح لمن قام بأعمال اقتصادية مفيدة للبنان وممن يتمتع بالسمعة الحسنة»... نعم السمعة الحسنة!
بموازاة عملية الردح، ومع تواتر المعلومات عن أن المرسوم الذي تضمن 388 اسماً بينهم مجموعة من كبار المتمولين السوريين، ومنهم أركان في الحلقة المالية الضيقة لرأس النظام السوري، بانت الفضيحة وتحول الجدل الصاعق حوله إلى ما يشبه كرة الثلج، وبرزت احتجاجات نيابية واستعدادات للطعن به من جانب نحو 40 نائباً (ما يعادل ثلث المجلس النيابي)، ودخل البطريرك الراعي على الخط فدعا الحكم إلى «الوضوح في التعاطي واحترام الرأي العام ولا سيما في ما يختص بمرسوم التجنيس الذي أثار ضجة مبررة بسبب كتمانه وبسبب ما أثاره مرسوم التجنيس الآخر عام 1994 من خلل ديموغرافي في البلاد». فبادر رئيس الجمهورية إلى دعوة جهاز الأمن العام، الجهة التي تمتلك «داتا» كاملة من المعلومات، للتحقق من ملفات من طالهم المرسوم، وواقعياً أعطت خطوة الرئاسة إشارة إلى ضرورة التجميد، وأقلُّه التريث في التنفيذ، لاستيعاب حملة الاحتجاج ولو من خلال شطب بعض الأسماء النافرة والمستفزة في آن معاً... وهذا التريث أكده وزير الداخلية المسؤول الأول تسلسلاً، الذي وقّع المرسوم، موضحاً أنه لا أحد سيتراجع عن المرسوم، وجازماً قبل انتهاء التدقيق والتحقيق به بأنه لا يضم أسماء عليها شبهة أمنية! بينما القاصي والداني يعرف أن الأسماء المستفزة تعود لبعض أثرياء الحرب السورية ممن ماضيهم يفضح حاضرهم.
طبعاً الخطوة الرئاسية التي قضت بضرورة التدقيق في كل الملفات ودعوة من يملك معلومات من المواطنين عمن شملهم المرسوم لتقديمها للجهة الصالحة، وكأن المواطنين يملكون أجهزة أمنية، أكدت كل الشكوك والخلفيات وبررت حملة الاحتجاج، وكشفت أن المرسوم الذي أُعدّ في ليل كان يجري تهريبه كأنه من الممنوعات، وقد تمّ توقيعه يوم الحادي عشر من مايو (أيار) الماضي، أي بعد أسبوع على الانتخابات العامة، وفي بداية مرحلة حكومية محكومة بتصريف الأعمال، وكونه تضمن أكثرية من ممولي النظام السوري بدا واضحاً كم هي مُلحة حاجة هؤلاء إلى الجنسية اللبنانية لأسباب مختلفة، لكنها أسباب تبقى معلومة وليست خافية على أحد.
هنا نفتح مزدوجين للإشارة إلى أنه ليس بالأمر البسيط وجود أوساط عربية مقتدرة (والبعض يحمل جنسيات غربية) ما زالت تطمع في اكتساب الجنسية اللبنانية، كأننا ما زلنا في العصر الذهبي للبنان، أي ما بين خمسينات ومنتصف سبعينات القرن الماضي، عندما كان لبنان يمثل نجاح المدرسة والجامعة والمسرح والمستشفى والمصرف والاستثمار المربح... وهذه العناصر تراجعت كثيراً وبعضها تلاشى، وعنصر الإثارة اللافت جداً أن المتمولين الذين نُشرت أسماؤهم وشملهم المرسوم بوسعهم شراء جنسيات أخرى لكنهم فضلوا الجنسية اللبنانية وهذا ما يزيد الشكوك والريبة.
حتى كتابة هذه السطور ما زالت السرية تحيط بهذا المرسوم، ورغم أن البرلمان اللبناني أصدر في يناير (كانون الثاني) 2017، وبهاجس تعزيز الشفافية، قانون تسهيل الحصول على المعلومات، فإن السلطات الرسمية امتنعت عن تسليم نسخة عن المرسوم موضوع الخلاف إلى الجهات النيابية التي طالبت بذلك رسمياً يوم الاثنين الماضي، وبدا أن هناك أكثر من قَطْبة مخفية سواء أكان الأمر متعلقاً بالتوقيت أو المضمون أو محاولة التهريب والامتناع عن النشر، علماً بأن مرسوم التجنيس لعام 1994 تم نشره في الجريدة الرسمية.
يتردد في بيروت أن الكثير من الأسماء التي وردت في المرسوم وهي من أكثر من جنسية عربية، يسعى أصحابها وراء التهرب الضريبي، وبعض المعطيات المنشورة في الأعوام القليلة الماضية عن نقل أموال وممارسات وملابسات إقفال البنك اللبناني – الكندي، ثم البنك السوري... تشي بأن لبنان يتم دفعه لكي يصبح نوعاً ما «جنة الأموال غير الشرعية»! وما حصول البعض على الجنسية اللبنانية إلاّ بمثابة الإجازة للتهرب من العقوبات الدولية والتنقل بسهولة والدخول إلى القطاع المصرفي اللبناني من خلال فتح حسابات مصرفية وسهولة التعامل بالعملات الأجنبية، والأنكى من كل ذلك ما يردده في بيروت أكثر من نائب من المعترضين الذين يرون أن هذا المرسوم كرّس مبدأ منح الجنسية مقابل المال، دون أي تبصر بالتبعات وهي المزيد من العقوبات الأميركية والدولية والعربية التي قد يجرها هذا السلوك على القطاع المصرفي وعلى مصالح أكثرية اللبنانيين.
في انتقاده لمرسوم التجنيس، ذكّر البطريرك الراعي بقصة المادة 49 التي هبطت على الميزانية العامة للدولة وقد أبطلها الطعن النيابي، واليوم انفضحت النيات. عام 1994 كان مرسوم التجنيس الذي أدخل خللاً ديموغرافياً يلمس نتائجه المواطن اللبناني في كل استحقاق انتخابي، وكانت الانتخابات في بعلبك الهرمل مؤخراً النموذج عندما استمرت عمليات «الاقتراع» حتى الحادية عشرة ليلاً مع هبوط آلاف المجنسين الذين استُقدموا من سوريا دعماً لـ«حزب الله»، فهل سيؤدي هذا المرسوم وما سيليه، إلى بداية وضع اقتصاد البلد تحت قبضة أثرياء الحرب السورية. من خلال المادة 49 كانوا يريدون مقابل استثمار عقاري متواضع في حدود 500 ألف دولار إعطاء إقامة دائمة لنحو 10 آلاف متمول من النازحين السوريين ولاحقاً الجنسية، أيْ توطين الميسورين، والهدف أموال بلا شروط أو قيود من أجل المزيد من الهدر والمحاصصة والفساد، والذريعة وردت في حديث وزير الخارجية عن الحق في الجنسية لمن يقدم «خدمة» اقتصادية للبنان. باختصار سقطت المادة 49 فصدر سراً وبتكتم مرسوم التجنيس – الفضيحة، ومع محاولات البعض التنصل من تبعاته وشبه التوافق على ترحيل العلاج للحكومة الجديدة، شكّل الحدث واحدة من أخطر فضائح أهل الحكم لأنها الأكثر خطراً على لبنان الذي يتم تسليعه!