إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

نحن... وأصدقاؤنا في إيطاليا وإسبانيا

من العبث مقارنة دول اسكندينافيا أو دول كسويسرا أو بريطانيا، ذات الديمقراطية الراسخة، بدولنا في المشرق العربي... التي استوردت الانتخابات سلعةً غريبةً على تقاليدها.
في سوريا، حتى قبل الثورة عام 2011، وحدها الماكينة الإعلامية للنظام كانت تزعم وتصدّق أن في البلاد ديمقراطية وبرلماناً وأحزاباً حقيقية. ومع ذلك، لفترة ما عاشت سوريا تجربة انتخابية، ولو أمام خلفية الإقطاع السياسي التقليدي والعشائري، ولاحقاً ضباط الجيش. وانتهت تلك التجربة عام 1949 مع انقلاب حسني الزعيم، الذي سرعان ما تلاه انقلابا سامي الحناوي وأديب الشيشكلي. ثم عاشت في خمسينات القرن الماضي بعد إطاحة الشيشكلي «ربيعاً» ديمقراطياً قصيراً، لكن حرب الثكنات بين الضباط، وصراع «الأحلاف» إبان «الحرب الباردة»، دفع الضباط والساسة السوريين للفرار بمشكلاتهم ورميها عند جمال عبد الناصر، وهكذا، أنهت «دولة الوحدة» وما تلاها... ذلك «الربيع».
بناءً عليه، سوريا خارج المعادلة، لكن ماذا عن العراق ولبنان؟
لقد مرّ العراق بتجربة انتخابية مبكرة في النصف الأول من القرن العشرين، غير أن انطلاق عهد الانقلابات بدءاً من حركة بكر صدقي عام 1936 وما تلاها من صراعات لها امتدادات دولية (بالذات الصراع البريطاني – الألماني)، وتصاعد دور العسكر (المربع الذهبي) في السياسة، أنهى التجربة... وهكذا صارت الديمقراطية في «خبر كان» ربما حتى اليوم.
أما لبنان، فجرّب المجالس التمثيلية لفترات أطول بكثير من «شقيقتيه» الكبيرتين. إذ بعد تأسيس متصرفية جبل لبنان (نواة لبنان الحالي) عام 1861 – بعد حرب أهلية دامية – أسس له «مجلس إدارة» يمثل المناطق والطوائف. وفي مطلع القرن العشرين كان له مجلس نواب ومجلس شيوخ. كما ازدهرت الحياة الحزبية (ولو وسط حضور إقطاعي وطائفي ثقيل)، واستطاع لبنان المستقل عام 1943 أن يحافظ على «شكل» الديمقراطية حتى عندما كانت تعصف به الثورات والحروب والأزمات... وأخيراً «الاحتلال الواقعي».
اليوم من حيث الشكل العراق ولبنان يمارسان الانتخابات، وفيهما أحزاب وتتشكل فيهما حكومات كما لو كانا دولتين ديمقراطيتين، لكن الحقيقة المرّة غير كذلك. إذ لا توجد في البلدين ثقافة القبول بالرأي الآخر... الضرورية لتأسيس حالة ديمقراطية أرضها الصلبة الحق بالمعارضة والمحاسبة وتداول السلطة. وبالنسبة للسيادة والاستقلال، الدولتان ترزحان تحت سطوة السلاح غير الشرعي، وعليه، فهما منقوصتا السيادة، وتفتقران إلى التفاهمات الوطنية العريضة، وتنعدم فيهما مؤسسات الحكم الديمقراطي المسؤول.
في المقابل، قد يثير البعض قضية محقة هي أنه ليس كل الدول التي تمارس الديمقراطية الانتخابية، حتى في أوروبا، راسخة التجربة والتقاليد. وهذا الكلام صحيح، وهو ينطبق على عدد من دول جنوب أوروبا من خارج الكتلة الشيوعية سابقاً.
ينطبق على اليونان التي أعطتنا كلمة «ديمقراطية»، وإيطاليا التي خرج منها نيكولا ماكيافيللي، وإسبانيا والبرتغال اللتين انتشر نفوذهما الثقافي والسياسي الاستعماري على امتداد المعمور. لكن، بمناسبة تشكيل الحكومتين الجديدتين في إيطاليا وإسبانيا، لنقصر كلامنا عليهما.
إيطاليا وإسبانيا، الدولتان الأكبر من حيث عدد السكان في جنوب أوروبا، بجانب فرنسا، لا تقارن تجربتاهما بتجارب دول أوروبا الشمالية، وهذا ما ينعكس في عدد من الظواهر:
الظاهرة الأولى، أن البلدين عاشا حكمين فاشيين قادهما بنيتو موسوليني وفرانشيسكو فرانكو، واستندا على «أحلام إمبراطورية» توسّعية هرباً من خلفية تعددية الكيانات (بل الممالك والإمارات) التي ضمها كيانا إيطاليا وإسبانيا الحاليان. ومرحلياً ساعد استنهاض موسوليني «الحلم الروماني»، وسعي فرانكو لإعادة أمجاد ماضي إسبانيا الإمبراطوري في وجه الجمهوريين واليساريين على حفظ وحدة أراضي البلدين، كما حفظها لاحقاً مناخ «الحرب الباردة». لكن ما عادت توجد ضمانات لبقائهما كما هما اليوم، ذلك أن قوة النوازع الانفصالية التي ظلت ناراً تحت الرماد لعقود كثيرة، أيقظتها من جديد اليوم تحديات العولمة وردات الفعل الانعزالية والعنصرية عليها.
والظاهرة الثانية، أن تجربتَي موسوليني وفرانكو «شرعنتا» الطروحات السياسية الراديكالية في إيطاليا وإسبانيا؛ إذ أضعفتا التفاهمات العريضة وأعطتا صدقية أكبر للراديكاليين يميناً ويساراً. والقصد أن الأحزاب الراديكالية والإقليمية في البلدين ليست أحزاباً هامشية، بل هي قوى تحتل قلب الساحة السياسية. وحتى عندما كان الحزب الديمقراطي المسيحي (المتعدّد الأجنحة) هو الحزب الأقوى في البرلمان فإن غريمه السياسي الأقوى ما كان الحزب الاشتراكي أو القوى الليبرالية، بل الحزب الشيوعي... أقوى الأحزاب الشيوعية الغربية.
والظاهرة الثالثة، هي أن إرث الفاشية خلّف هشاشة في النظام السياسي والتفاهمات الوطنية ما ساعد على ظهور قوى شعبوية واعتراضية جديدة حديثة العهد وعديمة التجانس في البلدين. وفي إيطاليا، بالذات، التي عاشت طويلاً في ظل «تعايش الاضطرار» بين الديمقراطيين المسيحيين والشيوعيين والأحزاب الاشتراكية والليبرالية والمحافظة، تجد نفسها اليوم رهينة لحركتين شعبويتين حديثتي العهد تقاسمتا حكومة ائتلافية، كثيرون يبدون شكوكاً في قدرتها على الاستمرار.
والظاهرة الرابعة، أن الشكل التعدّدي القديم لكل من إيطاليا وإسبانيا كانت له انعكاسات اقتصادية تنموية تفعل فعلها راهناً في تغذية النوازع الانفصالية والعنصرية. فمناطق الشمال الإيطالي، وتحديداً أقاليم لومبارديا وفينيتو وبييمونته، أغنى بكثير (من حيث دخل الفرد ومعدلات الإنتاجية ومستوى العمالة والتنمية) من أقاليم الجنوب. كذلك، في إسبانيا، إقليم كاتالونيا يعد الإقليم الأغنى بفارق كبير عن الأقاليم الفقيرة في الجنوب والجنوب الغربي. ولقد جاءت أزمة اللجوء، ولا سيما إلى جنوب إيطاليا وجنوب إسبانيا، لتفاقم الهواجس أكثر.
والظاهرة الخامسة، أن ثقافة المحاسبة واستقلالية القضاء في كل من إيطاليا وإسبانيا، بالنظر لحداثة تجربتيهما الديمقراطيتين، كانت أضعف من أن تبقياهما بمنأى عن آفة الفساد. وكان وجود المافيا في إيطاليا عنصراً إضافياً أسهم حتى في هزّ الدولة وتدمير الديمقراطيين المسيحيين الذين هيمنوا على المشهد السياسي بين نهاية الحرب العالمية الثانية ونهاية الحرب الباردة.
ختاماً...
صحيح أن مشاكل إيطاليا وإسبانيا كبيرة وديمقراطيتهما هشة، لكنهما ما زالتا تتقبلان مبدأ الربح والخسارة في السياسة، ولا تعيشان سيادة وهمية.
ولكن، بوجود الأطماع الإقليمية والارتباك الدولي، فإن رفض القبول بتداول السلطة وتجاهل نقص السيادة من أخطر ما يهدد «ديمقراطيات» المشرق العربي.