تونس: «حكومة الوحدة الوطنية» في خطر

رئيس الوزراء ضد نجل الرئيس... وبدء السباق نحو قصر قرطاج

تونس: «حكومة الوحدة الوطنية» في خطر
TT

تونس: «حكومة الوحدة الوطنية» في خطر

تونس: «حكومة الوحدة الوطنية» في خطر

لم يسبق في تاريخ تونس أن انتقد رئيس حكومة تونسي في السلطة، وعلناً، نجل رئيس الجمهورية وزعيم الحزب الحاكم، مثلما فعل رئيس الحكومة التونسي الشاب يوسف الشاهد.
تصريح الشاهد الانتقادي جاء بعد حملة إعلامية سياسية طويلة استهدفته وحكومته، وحمّلتهما مسؤولية الأوضاع الصعبة التي تمر بها البلاد. ورافقتها مطالبات بإقالتهما صدرت خصوصاً عن نور الدين الطبوبي زعيم نقابات العمال وحافظ قائد السبسي زعيم حزب «نداء تونس» الحاكم ونجل الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي.
هذا التصريح - الانتقاد الذي رحبت به أطراف سياسية كثيرة مشاركة في «حكومة الوحدة الوطنية» ومن خارجها، خلط الأوراق بسرعة، وتوقع البعض أن يُدخل البلاد في أزمة سياسية شاملة، في حين توقع آخرون أن يفتح الطريق أمام الشاهد ليصبح «الرجل القوي» في الدولة والحزب الحاكم، تمهيداً لترشحه المرتقب في الانتخابات الرئاسية خلال العام المقبل.

شد أنظار المراقبين التونسيين التصريح الانتقادي المفاجئ الذي أدلى به رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد إلى القناة التلفزيونية العمومية الأولى مساء الثلاثاء 29 مايو (أيار) المنصرم، وخاطب به الشعب مباشرة، وبالأخص، أن رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي كان في زيارة إلى باريس، حيث شارك مع رؤساء دول الجوار الليبي في مؤتمر المصالحة بين الأفرقاء الليبيين الذي رعاه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

- وثيقة قرطاج
لقد اعتبرت مبادرة الشاهد إلى مخاطبة الشعب التونسي، حول الصعوبات التي تواجهها الحكومة والحزب الحاكم، «ضربة سياسية استباقية» أوقف بها الدعاة إلى إقالته أو إلى تغيير فريقه الحكومي، رغم اعتراضات أحزاب كبرى وبعض سفراء الاتحاد الأوروبي بتونس، وبينهم السفير الفرنسي أولفييه بوافر دارفور. ولقد تسببت هذه المعارضة في وقف المفاوضات الماراثونية التي استضافها قصر قرطاج حول صياغة «وثيقة قرطاج 2» التي كان من المقرّر أن تكون خريطة طريق للدولة في المرحلة المقبلة.
لقد تزايدت تلك الدعوات بين المقرّبين من حافظ قائد السبسي، نجل الرئيس وزعيم حزب «نداء تونس»، مثل الوزير السابق خالد شوكات، الذي فسّر تراجع شعبية «نداء تونس» في انتخابات 6 مايو (أيار) الماضي مقارنة بانتخابات أواخر 2014، بإخفاقات الحكومة وعجزها عن تنفيذ برنامجه الانتخابي. غير أن يوسف الشاهد رفض هذا الطرح بقوة، وتجنب التعويم وما وصف بـ«اللغة الخشبية» خلال رده على منتقدي حكومته. وحمّل مسؤولية الأزمات التي يمرّ بها الحزب الحاكم والإدارة والبلاد إلى أخطاء حافظ قائد السبسي. والجديد، أنه ذكره بالاسم رغم علاقته العائلية برئيس الجمهورية.

- حكومة في خطر؟
جاءت انتقادات رئيس الحكومة لزعيم الحزب الحاكم ونجل الرئيس بعد يوم واحد من إعلان الرئيس التونسي أمام زعماء الأحزاب والنقابات الكبرى في البلاد «تعليق» المفاوضات التي نظمت في القصر الرئاسي طوال 5 أشهر بمشاركة الزعماء السياسيين والخبراء. وأوضحت المستشارة سعيدة قراج، الناطقة باسم رئيس الجمهورية، أن حصيلة الاجتماعات المطولة للخبراء والسياسيين كانت صياغة وثيقة اقتصادية سياسية من 64 نقطة يمكن أن تعتمدها الحكومة. إلا أن حصيلة هذه المفاوضات كانت اتفاقاً على 63 نقطة تهم أساساً البرنامج الاقتصادي الاجتماعي. وفي المقابل تصدّع تحالف الأحزاب والنقابات المشاركة منذ صيف 2016 في «حكومة الوحدة الوطنية» بسبب الخلاف حول «النقطة 64» التي تنص على تغيير الحكومة ورئيسها بعد اتهامها بالفشل. وكان على رأس المدافعين عن خيار التغيير اتحاد نقابات العمال وزعامة «نداء تونس»، الذي ينتمي رئيس الحكومة يوسف الشاهد إلى قيادته، لكنه دخل منذ مدة في خلاف مع مديره التنفيذي نجل الرئيس والمقربين منه ممن حملهم مسؤولية إضعاف الحزب والتسبب في تصدعه وانقسام كتلته البرلمانية.
لعل ما جعل الطبقة السياسية تنخرط مباشرة في خلافات الحزب الحاكم وصراعات زعمائه أن حكومة يوسف الشاهد تضم وزراء من عدة أحزاب ونقابات. ومن ثم، فإن إسقاطها سوف يعني انهيار «حكومة الوحدة الوطنية» والحزام السياسي الذي كان حولها، وكذلك القطع مع تجربة التوافق السياسي بين التيارات الليبرالية واليسارية والقومية والإسلامية المعتدلة في إطار ما عُرف بـ«حكومة الوحدة الوطنية».

- انتقادات للشاهد ولحركة «النهضة»
في المقابل خرج زعيم حزب «نداء تونس» عن صمته، وأصدر بياناً فور الإعلان عن تعليق «وثيقة قرطاج» انتقد فيه - في الوقت نفسه - رئيس الحكومة والأطراف السياسية التي رفضت تغييره الآن، بحجة البحث عن الاستقرار السياسي والوطني، وعلى رأسها حزب «حركة النهضة» واتحاد نقابات المزارعين وحزب المبادرة بزعامة وزير الخارجية الأسبق كمال مرجان.
حافظ قائد السبسي اعتبر أن «الحكومة الحالية التي تمخضت في سبتمبر (أيلول) 2016 عن اتفاق قرطاج 1 كمرجعية سياسية جامعة قد تحوّلت إلى عنوان أزمة سياسية أفقدتها صفتها كحكومة وحدة وطنية».

- فك الارتباط قبل انتخابات 2019
من ناحية أخرى، فسّر سياسيون ومراقبون من تيارات تونسية مختلفة تراجع شعبية حزب «نداء تونس» في الانتخابات من نحو 40 في المائة في العام 2014 إلى نحو 20 في المائة في انتخابات الشهر الماضي، بتحالفاته مع بعض الأطراف السياسية وبينها قيادة «حركة النهضة». ولقد لوح بيان حافظ قائد السبسي بفك الارتباط السياسي معها وبالترشح للمحطات المقبلة دون تحالفات. والتقت هذه الانتقادات مع تصريحات مماثلة عن نشطاء سياسيين من التيارات المحسوبة على الراديكالية والثورية ممن فسّروا خسارة «حركة النهضة» ثلثي ناخبيها مقارنة بانتخابات 2011، ونصفهم مقارنة بانتخابات 2014، بتحالفاتها مع حكومات حزب «النداء» الذي ينتمي معظم وجوهه إلى حزب الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.

... وحملة إعلامية على عائلة الرئيس
ولئن تتسارع الأحداث في تونس بنسق سريع، وفي اتجاهات متناقضة منذ انهيار رأس الدولة المركزية في أعقاب ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، فإن من بين مفاجآت الأيام القليلة الماضية أن الصراعات السياسية تداخلت وتطورت من نقاش حول البدائل الاقتصادية والاجتماعية إلى حملات إعلامية وسياسية واتهامات متبادلة. وشملت هذه الحملات عائلة الرئيس التونسي، خصوصاً نجله الأكبر حافظ الذي بات الرئيس الفعلي للحزب منذ استقالة والده منه فور جلوسه على كرسي الرئاسة في يناير 2015.
ومن بين المفارقات، أنه صدر دفاع عن عائلة الرئيس من قبل قيادات أحزاب في الحكومة والمعارضة بينها عماد الخميري، الناطق الرسمي باسم حزب «حركة النهضة». وانتقد حافظ قائد السبسي تلك الاتهامات والحملات الإعلامية التي استهدفته وعائلته، واعتبر أنها تستهدف دور رئيس الجمهورية راعياً للتوافقات السياسية والاجتماعية ومرجعاً للشرعية الشعبية الانتخابية والدستورية.

- مفاجأة من داخل البيت
لكن المفاجأة، هذه المرة، جاءت من داخل البيت. إذ صدرت الانتقادات للابن الأكبر لرئيس الدولة - التي تروج إشاعات كبيرة حول ثروته وحول انفراده بالقرار السياسي في حزبه - عن رئيس الحكومة يوسف الشاهد الذي كان قد تولى مسؤوليات عليا في حزب «نداء تونس» قبل دخوله الحكومة، بينها رئاسة اللجنة الوطنية التي أعدت لمؤتمر الحزب الأول في صيف 2015. وكان الشاهد يومذاك وكيل وزارة للزراعة ثم صار وزيراً للجماعات المحلية.
وما يُذكر أنه سبق للشاهد أن رُشح لرئاسة الحزب بعد تولّيه منصب رئاسة الحكومة في أواخر صيف 2016، إلا أن اعتراضات بعض مؤسسي الحزب ورموزه أجهضت الترشيح يومذاك، ومن ثم، أعلن الشاهد أنه يريد التفرغ للعمل الحكومي ويترك العمل الحزبي لغيره. ولكن يبدو أن رئيس الحكومة الشاب «وجد نفسه مضطراً لتبرير العلاقة المتوترة مع بعض النافذين في حزبه»، مثلما جاء على لسان وزير الزراعة الأسبق البرلماني محمد بن سالم.

- إقحام التونسيين في خلافات لا تهمهم
لقد اعتبر كثيرون من السياسيين والبرلمانيين والإعلاميين التونسيين في تعليقاتهم على معركة رئيس الحكومة مع نجل الرئيس ومدير «نداء تونس» أن من شأنها أن تزيد من إضعاف الدولة وإرباك الحزب الحاكم، حسب تعبير البرلماني اليساري منجي الرحوي. كذلك اعتبر البرلماني والوزير السابق محمد بن سالم أنّ رئيس الحكومة الشاهد «أخطأ حين أقحم التونسيين في الحرب الداخلية لـ(نداء تونس)»، وحين تحدّث عن مشاكل حزبه في خطاب توجه به إلى الشعب. وأضاف بن سالم: «مشاكل (نداء تونس) تم تمريرها إلى البلاد، عوض مناقشة الأسباب التي تفسّر فشل البلاد في تحقيق ما تصبو إليه رغم نجاحها في تنظيم انتخابات شفافة ونزيهة في 2014».

- «سيناريو» الحبيب الصيد
وفي السياق ذاته، استحضر عدد من المراقبين، بينهم البرلماني عمار عمروسية والإعلامي الطيب اليوسفي الوزير، مدير مكتب رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد، «سيناريو» إقالة الصيد في سبتمبر 2016. فقد تزعم الحملة الداعية إلى إبعاد الحبيب الصيد، حينذاك، وتعيين يوسف الشاهد، قادة حزب «نداء تونس» بقيادة حافظ قائد السبسي. وأيضاً من بين المفارقات أن الكتلة البرلمانية التي دعمت الحبيب الصيد حتى آخر لحظة كانت كتلة «حركة النهضة» بزعامة وزير العدل السابق نور الدين البحيري. لكن أنصار الإقالة تفوقوا فأبعد الحبيب الصيد، وهو من بين رموز النظام السابق وأحد المعارضين البارزين للمشروع السياسي والمجتمعي للحركات الإسلامية.
والواقع أنه لم تتح فرصة ليوسف الشاهد، خلف الصيد، لأن يلعب دوره. بل انطلقت بعد أشهر معدودة من تعيينه حملات تهدف إلى إضعافه وإرباكه ثم إقالته، مستفيدين من توتر علاقات نقابات العمال ببعض الوزراء وبالحكومة نتيجة خلافات حول زيادات الأجور وخصخصة المؤسسات العمومية المفلسة.
لكن السؤال الذي يطرحه عدد من السياسيين والإعلاميين ودعاة الاستقرار السياسي في تونس، مثل المحامي محمد المنصف الباروني، هو «إلى أي حد ينبغي التمادي في خيار تشريك النقابات في إعفاء الوزراء وتعيينهم، ثم في إقالة رؤساء الحكومات؟»، وهنا يشار إلى أن قيادات نقابية بارزة من الاتحاد العام التونسي للشغل طالبت سابقاً بالفعل بإقالة وزيري التربية ناجي جلول والصحة سعيد العايدي، واستجابت لها الدولة. واليوم يطالب أمين عام نقابات العمال بإعفاء رئيس الحكومة.
إذا حصل ذلك، فإن من بين الساسة التونسيين من يرى فيه تهديداً مباشراً لاستقرار البلاد، والشيء نفسه يصدق على السفير الفرنسي بتونس الذي أورد في تصريح صحافي أن «باريس والعواصم الأوروبية تدعم الاستقرار السياسي في تونس وجهود حكومة الوحدة الوطنية الحالية التنموية ونجاحاتها رغم الظروف الإقليمية والداخلية الصعبة التي تمر بها».

- أزمة سياسية بامتياز
وفي الوقت الذي رحبت قيادات سياسية، مثل الإعلامي والوزير السابق والقيادي في حزب «مشروع تونس» صلاح الدين معاوي، بما وصفوه بـ«شجاعة سياسية صدرت عن رئيس الحكومة يوسف الشاهد»، صعّد أمين عام اتحاد نقابات العمال نور الدين الطبوبي لهجته ضد رئيس الحكومة، ملوّحاً باستخدام أوراق النقابات في إشارة ضمنية إلى ورقة الإضرابات. واعتبر الطبوبي أن تصريحات الشاهد «كشفت أن الأزمة سياسية بامتياز، ولا علاقة لها بالاستحقاقات الوطنية والاجتماعية، التي تنتظرها فئات واسعة من الشعب التونسي. وهي مرتبطة بتقسيم المواقع والنفوذ والمحطات السياسية القادمة». وأورد زعيم النقابات أن وضع البلاد «يتطلب الصراحة المسؤولة بعيداً عن المحاباة والمجاملة والأجندات الانتخابية».
وبعدما التقى 7 من سفراء دول الاتحاد الأوروبي المعتمدين في تونس رئيس الحكومة الشاهد، وأعلنوا دعمهم له ولسياساته - حسب تصريحات السفير الفرنسي - تهجّم أمين عام نقابات العمال على السفير الفرنسي. وأعرب الطبوبي عن استغرابه من الحديث عن «هيبة الدولة في بلاد يرتع فيها السفير الفرنسي ويحشر نفسه في أدق المسائل الداخلية دون رادع من أي كان»، مبرزاً أن «الاتحاد سيبقى قلعة الدفاع عن استقلالية القرار الوطني».

- ورقة انتخابات 2019
في مطلق الأحوال، لا يختلف اثنان في تونس حول علاقة فشل جهود صياغة «وثيقة قرطاج 2»، ثم الانتقادات المتبادلة بين كبار السياسيين، بمن فيهم رئيس الحكومة ونجل الرئيس بانتخابات 2019 التشريعية والرئاسية. وفي حين توقع وزراء سابقون أن يقدم حافظ قائد السبسي على الترشح لخلافة والده في نهاية العام المقبل، فإن هؤلاء فهموا من تحركات رئيس الحكومة، الداخلية والخارجية، توظيف عمره (42 سنة) وموقعه ليغدو المرشح الرسمي لحزب «نداء تونس» للانتخابات الرئاسية المقبلة. واللافت، أنه لم تستبعد غالبية التعليقات في وسائل الإعلام القريبة من قصر قرطاج أن يكون الرئيس الباجي قائد السبسي نفسه هو من اقترح على الشاهد انتقاد ابنه... تأهباً لتولي مسؤولية رئاسة الحزب في المؤتمر المقبل للحزب ثم الترشح لانتخابات 2019. ومن بين ما يرجح هذه الفرضية بالنسبة لكثيرين أن يوسف الشاهد يحظى بدعم أميركي وأوروبي ودولي، من جهة، ودعم العديد من الفصائل السياسية الحاكمة والمعارضة داخل تونس من جهة ثانية. كذلك، تربط الشاهد علاقات عائلية غير مباشرة بعائلة الرئيس ما يرشّحه فعلياً لأن يكون ورقة الاستقرار ويجنّب البلاد الهزات بعد انتخابات 2019.

- القطيعة مع الشباب؟
عند هذه النقطة، يعتبر كثير من الخبراء أن معضلة تونس الكبرى، اليوم، هي استفحال القطيعة بين الشباب الممزّق بين البطالة والمخدرات والتطرف... والسياسيين الذين يخوضون صراعاً على الكراسي، وتحرّكهم الأجندات السياسية والانتخابية والمصالح الخاصة والفئوية. وفي هذا الإطار حذر الدبلوماسي السابق والمحلل السياسي عبد الله العبيدي من استفحال ظاهرة هجرة الأدمغة والخبرات التونسية، بينما يتدهور مستوى التعليم وقيمة الدينار، ناهيك عن أنه بلغ التضخم رقماً قياسياً لم يسجل منذ عام 1991. ولا شك في أن تدهور الوضع المعيشي للمواطن التونسي بصفة ملحوظة ينذر باحتمال انفجار الأوضاع مجدداً في وجه الجميع، وبعنف قد يفوق عنف ثورة 2011 وانتفاضات يناير 2016 ومايو 2017 ويناير 2018.
وفي كل الحالات سيبقى السؤال الأكبر هو: إلى أي حد سوف تبقى اللعبة السياسية تحت سيطرة اللاعبين الرسميين وشبه الرسميين؟ ومن ثم هناك سؤال وجيه آخر هو: ألن تؤدي الانتفاضات الشبابية والاحتجاجات النقابية والاجتماعية القادمة إلى إعادة خلط الأوراق وإجهاض حسابات كل المتسابقين نحو المناصب والكراسي؟



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.