«حزب الله» في الحكومة... مَن يدفع الثمن؟

انتهى «العرس الديمقراطي»، كما يحب اللبنانيون أن يسمّوه، وطويت صفحة الانتخابات النيابية التي كشفت ما لم يكن سراً: بلد مفعم بالروائح الطائفية والمذهبية. وها هي معركة أخرى تُفتح، هي معركة تشكيل الحكومة الجديدة. هذه المعركة التي سوف تكشف خداع الوهم القائل بأن لبنان بألف خير، وأن الأمور منتظمة فيه على أحسن ما يكون.
ومن الصعب أن يكون الآتي بعد هذا «الفرح» كما كان قبله، خصوصاً مع العقبات التي سيواجهها تشكيل الحكومة، وهي العملية التي سيقوم بها الرئيس سعد الحريري. وأولى العقبات وأصعبها أخذت تظهر مع إصرار «حزب الله» على لعب دور «وازن» في هذه الحكومة، وتولّي وزارات أساسية فيها، تعكس حجم تمثيله الشعبي، كما يقول، بعدما نجح هو وحركة «أمل» في الحصول على الأكثرية الساحقة من المقاعد الشيعية، بعدما منع أي قوة داخل هذه الطائفة مهما كان حجمها من المنافسة، إما بالإرهاب النفسي، أو المادي المباشر بقوة السلاح، وإما من خلال «التكليف الشرعي».
السبب الأساسي للعقبات أن مشاركة «حزب الله» في الحكومة تأتي هذه المرة في الوقت الذي أعلنت فيه الولايات المتحدة والدول الخليجية عن عقوبات ضد الحزب، وضد تنظيمات أخرى موالية لإيران وعاملة بإمرة «الحرس الثوري». وتطال العقوبات القادة الأساسيين في «حزب الله»، بعدما طالت عقوبات سابقة قادة ميدانيين وممولين. والجديد في هذا القرار أنه لا يميز بين جناح سياسي وآخر عسكري، كما كان الحزب يوهم المتعاطين معه، فبموجب العقوبات الجديدة لن تختلف النظرة ولا طريقة التعاطي بين القيادات السياسية والقادة الميدانيين.
في ضوء ذلك يُطرح السؤال: كيف سيوفّق لبنان بين توزير ممثلين لـ«حزب الله» في الحكومة الجديدة وبين خرق قرار العقوبات في وجه أصدقاء لبنان الخليجيين والمجتمع الدولي، خصوصاً أن هذه الدول تنظر إلى كل من ينتمي إلى هذا الحزب نظرة واحدة تحت مجهر العقوبات؟ ويتبع ذلك سؤال آخر: مَن سيدفع ثمن مشاركة الحزب وتوليه حقائب أساسية في حكومة على رأسها سعد الحريري؟ ومَن يتحمل عبء قرار كهذا في ظل الضغوط التي تمارس على الحزب إقليمياً ودولياً، وفي أجواء المواجهة الحامية التي تنذر بتصعيد أكبر بين إيران والولايات المتحدة؟
ومع أنه يُفترض أن تثير هذه الأسئلة قلق من يديرون عملية تشكيل الحكومة، فإن المسؤولين اللبنانيين يتصرفون حيال هذه المسألة كأن العقوبات لا تعنيهم، أو كأن الحزب الذي فُرضت هذه العقوبات عليه يعيش في بلد آخر.
لا يخرج هذا التجاهل عن عادة لبنانية قديمة في مواجهة الأزمات، التي تُترك من دون حل بحيث تتراكم لتصل إلى حد الانفجار. ويمكن أن نقول هنا إن تضخم حجم «حزب الله» إلى ما وصل إليه هو نتيجة لهذا التجاهل، ولعدم تحمل الدولة مسؤولياتها حيال توسع سلاح الحزب، وعدم قيامها بواجباتها في وجه هيمنته على ما أصبح يسميها «بيئته الحاضنة».
تتصرف الدولة اللبنانية إذن على أساس أن خطر العقوبات لن يصيبها بشكل مباشر، وأن تقطيع هذه المرحلة في العلاقة مع «حزب الله» يفرض عليها أن تتعامل مع الواقع الذي انتهت إليه الانتخابات النيابية الأخيرة، والذي سمح لهذا الحزب بالحصول على أكثرية كبيرة من النواب الذين يمثلون الطائفة الشيعية، إضافة إلى نواب آخرين، سُنّة ومسيحيين، متعاطفين مع «حزب الله» في مختلف المناطق.
وليس هناك من يسأل: ما الطريقة التي حقق بها «حزب الله» هذه الأكثرية؟ وهل كانت هذه النتيجة ستكون هي نفسها لو تُركت العملية الانتخابية لتجري بشكل ديمقراطي طبيعي في مناطق هيمنة الحزب، كما جرى في مناطق أخرى؟ وكيف يمكن أن يكون هناك تكافؤ في الفرص بين حزب مدجج بالسلاح ومعزَّز بالأموال في وجه جماعات مدنية يتم تهديدها بالقوة، حتى لو كان حجمها الشعبي ضعيفاً؟
وفيما يسود تجاهل هذه الحقائق من جانب أصحاب القرار، نجد في المقابل أن «حزب الله» ينظر إلى المسألة من زاوية أنه يخوض معركة مع المجتمع الدولي عبر مشاركته في الحكومة. فهو متمسك بشروطه إلى أقصى حد. وبينما لم يعلق مسؤولون في الحزب على مسألة العقوبات، يقول مقربون منه إنه سيصبح أكثر تشدداً في مطالبه الوزارية، وسيتمسك أكثر من أي وقت بحضور وازن في الحكومة المقبلة، ولن يكتفي بمشاركة بسيطة كما كانت عليه مشاركته في الحكومات منذ عام 2005 وحتى اليوم. وذلك بهدف تحسين موقعه وتعزيز قدرته على حماية «المقاومة» من التهديدات الخارجية، كما يقول. أي أنه يرى أن مشاركته الفاعلة في الحكومة الجديدة، هو رد على ما يعتبرها «معركة» تُخاض ضد موقعه في لبنان، وضد المحور الذي يدور في فلكه في المنطقة، وهو بطبيعة الحال المحور الإيراني.
إذا كانت هذه هي سياسة «حزب الله» وخطته للمرحلة المقبلة، فماذا يمكن أن تعني سوى الإمعان في توريط لبنان في مواجهة مكلّفة لا دخل له فيها ولا قدرة له على تحمل أعبائها الاقتصادية والسياسية؟
يقول الحريري في تصريحات أخيرة نُقلت عنه إن العقوبات على «حزب الله» سوف تساعد على الإسراع في تشكيل الحكومة. ويمكن أن يُفهم من هذا الموقف أن الحريري يعتقد أن الحزب سيتساهل في شروطه، وسيترك للرئيس نبيه بري أن يحيك المَخرج الملائم للتمثيل الشيعي في الحكومة من دون أن يؤدي ذلك إلى إحراج للبنان ولحكومته أمام العرب والمجتمع الدولي.
غير أن التجارب السابقة يفترض أن تكون علّمتنا جميعاً كيف يتصرف «حزب الله» حيال ما يعتبرها «مكتسبات» له، من عدم احترام نتائج الانتخابات إذا أتت في غير مصلحته كما حصل في انتخابات 2009، إلى فرض بدعة «الثلث المعطل» على الحكومات، بهدف منعها من اتخاذ أي قرار في غير مصلحة الحزب، وصولاً إلى استخدام السلاح إذا عجزت الوسائل السلمية الأخرى.
وفوق كل ذلك هناك التحول الذي يهدد «حزب الله» بإحداثه في توجهات السياسة اللبنانية من خلال قراءته الخاصة لنتيجة الانتخابات الأخيرة. فهو يرى أن هذه الانتخابات حسمت موقع لبنان في المواجهة الإقليمية وأكدت انتصاره مع حلفائه. وقد لخص الأمين العام للحزب هذه النظرة بقوله: إن تركيبة المجلس الجديد «تشكل ضمانة وقوة كبيرة لحماية خيار المقاومة». وإذا أُضيف إلى ذلك نجاح «حزب الله» في فرض مرشحه لرئاسة الجمهورية قبل سنة ونصف، والغطاء السياسي الذي يشكله الرئيس نبيه بري، يصبح واضحاً أن المرحلة المقبلة ستعيد رسم سياسة جديدة للبنان تختلف مع سياسة «النأي بالنفس» التي بقيت حبراً على ورق، مع إصرار «حزب الله» على التدخل، حيث تفرض المصالح الإيرانية عليه أن يتدخل.