قراءة في تجديد الخطاب الديني وتفكيك الخطاب الأصولي

حتى لا تتكرر ظاهرة «داعش»

عناصر من «داعش» في الرقة قبل هزيمة التنظيم الإرهابي (أ.ف.ب)
عناصر من «داعش» في الرقة قبل هزيمة التنظيم الإرهابي (أ.ف.ب)
TT

قراءة في تجديد الخطاب الديني وتفكيك الخطاب الأصولي

عناصر من «داعش» في الرقة قبل هزيمة التنظيم الإرهابي (أ.ف.ب)
عناصر من «داعش» في الرقة قبل هزيمة التنظيم الإرهابي (أ.ف.ب)

مع الاندحار والهزائم اللوجيستية التي تعرض لها «داعش» في العراق وسوريا، بدا التنظيم كأنه إلى زوال مرة أخيرة وإلى الأبد، غير أن الحقيقة تخبرنا بأن المشهد على هذا النحو لا يتجاوز أمنية عقلية، ذلك أن «داعش»، ومن قبله «القاعدة»، كان ولا يزال فكرة، أي أن حاضنته الأساسية هي الأفكار، والروئ والكلمات، والسياقات الذهنية، والخطابات الدينية.
المعروف أن للأفكار أجنحة تطير بها، كما أنها لا تموت، ولهذا فإن إعلان الحرب على الإرهاب عبر الوسائل المسلحة، وبالقوة الخشنة فقط، أمر يشبه «هش الذباب بالمطرقة»، ولهذا يبقى السؤال عن أكثر الطرق فاعلية لمواجهة الخطاب الأصولي، وهل هناك على الأرض ما يجب السعي في طريقه قبل المواجهات الأمنية؟
الشاهد أن التطرف مرض فكري، والمتطرف مريض، مصاب بحالة من الغلوّ، تسربت إلى نفسه عبر وسائل عديدة منها ما هو ديني ومنها ما هو إعلامي، فيها العنصر الثقافي وفيها الجانبان الاجتماعي والاقتصادي دفعة واحدة. ولهذا يبقى القضاء على الإرهاب، وبالضرورة، في حاجة إلى صراع العقول والألسنة، وعبر تغيير الأنماط الذهنية التي سادت عالمنا العربي والإسلامي من جهة، وبقية العوالم والعواصم الغربية من جهة ثانية، سيما وأن هناك معطيات فكرية دينية غير إسلامية عرفت طريقها إلى أوروبا وأميركا، أفرزت أصوليات يمينية خطرها لا يقل عن خطر الجماعات والمنظمات التي وُلدت ونشأت في الشرق الأوسط، وفي أجواء إسلامية الهوية والهوى.
في قراءة أخيرة للخبير الكندي «أيلوي غان» نشرتها مجلة «ميلتري جورنال» الكندية، هناك حديث عن الخطاب الديني الأصولي الذي يأخذ وقتاً طويلاً، وفي غفلة من القائمين على الأمر، حكومةً أو مجتمعاً مدنياً، قبل أن يؤثر على الأفراد أو المجموعات كي يجذبهم إلى التطرف، والفرد المتطرف، حسب باحثي العلوم الإنسانية «هو الفرد الذي يستخدم الدين لإبعاد نفسه عن المجتمع، أو لاستبعاد الآخرين».
تبدأ مسيرة التطرف من عند الخطاب الديني الذي يدخل من الآذان ليبلغ القلب. وقبل بضعة عقود لم تكن هناك من وسيلة سوى المنابر التقليدية، سواء تمثلت في الهيئات والمؤسسات التعليمية أو المساجد، والقليل جداً من المطبوعات، حيث كانت الرقابة قادرة على فرض سيطرتها على المثلث المتقدم.
غير أن التحدي والتصدي للتطرف في زمن العولمة بات قضية صعبة، سيما مع انفجار وسائط التواصل الاجتماعي، تلك التي وصفناها غير مرة بأنها قادرة على أن تضع صيفاً أو شتاء.

«الأصولية» صناعة شبة يسيرة
باتت صناعة الأصولية في حاضرات أيامنا عملية شبة يسيرة، إذ سهّلت «الإنترنت» والفضائيات صعوبات التواصل الجغرافي، فأصبح من يمتلك موقعاً على الشبكة العنكبوتية، أو موضعاً أمام كاميرا في أقصى الأرض، قادراً وفاعلاً، بل ومؤثراً سلبياً أو إيجابياً على جماهير تبعد عنه آلاف الكيلومترات، وبهذا استطاع الخطاب الأصولي الجهادي العنيف اختراق والتحايل على أشكال المواجهة التقليدية، ما يدعو إلى التفكير الهادئ والمعمق في طرق وآليات جديدة لمكافحة طاعون القرن الحادي العشرين، أي العنف الفكري والأصولية الذهنية، التي تُنتج للعالم أبناء الإرهاب غير الشرعيين.
تشخيص ظاهرة التطرف والأصولية في حقيقة الحال يحتاج إلى كتب قائمة بذاتها، وكذا أنواع وأساليب العلاج والمواجهة. غير أن نقاطاً بعينها يمكن أن تساعدنا في الطريق، وفي المقدمة منها قضية تجديد الخطاب الديني، والتي كثر الحديث عنها في شرقنا الأوسط خلال العقدين الماضيين، وبنوع خاص منذ الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) من عام 2001 وبعد ما أطلق عليه «القاعدة»، «غزوتي واشنطن ونيويورك».
وللرد على الجماعات المتطرفة بدايةً، نشير إلى أن التجديد الذي نتحدث عنه لا يقترب من ثوابت الدين، سيما القسم الثابت من الأحكام الشرعية، التي لا تتغير ولا تتبدل، بينما المراد هو القسم الثاني المتغير الذي يبني على حسب تغير الزمان والمكان والشخص والحادثة، وهذا النوع من الأحكام المرجع فيه إلى الفقهاء في كل عصر ومصر، يجتهدون في اختيار ما يناسب حال الناس وظروفهم، وبيئتهم، مثلما فعل الإمام الشافعي عندما غيّر مذهبه القديم بالعراق إلى الجديد بمصر، بسبب تغيُّر أعراف الناس وعوائدهم، ولهذا يقول الشاعر: «والعرف في الشرع له اعتبار، لذا عليه الحكم قد يُدار».
على أن اللبنة الأولى في تقدير الكثيرين من علماء الاجتماع والنفس، عطفاً على الخبراء الأمنيين في ما خص مراجعة الخطاب الأصولي، تتصل بمؤسسات التنشئة وما يمكن أن نطلق عليه عملية «الضبط الاجتماعي»، فقد ولَّد الانفجار العشوائي للعملية التلقينية أجيالاً تراجعت كثيراً جداً عن إعمال العقل في النقل، وتوقفت عند تفسير النصوص منذ أزمنة غابرة، دون مواءمة أو ملاءمة للتنزيل مع الأزمنة المعاصرة.
الخطوة الأولى لإعادة الاعتبار لعملية المواجهة للخطاب الأصولي المتجمد تبدأ من عند النظام التعليمي؛ من دور الحضانة، وما يُعرف بـ«الكتاتيب»، ثم المدارس والجامعات، مروراً بالأندية والنقابات والتجمعات المهنية والجمعيات الأهلية.
والشاهد أن الرؤى الدينية تبقى شرقاً وغرباً المشكل الرئيس للقاعدة الثقافية، وعليه فإن أي خلل في تقديم تلك المنظومة حكماً سيصيب القيم المشتقة من الروحانيات الإيمانية ومن الفهم الواسع المرن للأديان في مقتل، ما يُنتِج لنا لاحقاً روايات يعتنقها البعض تنظر إلى المجتمعات المعاصرة على كونها فاسدة ومخترَقة من قبل تيارات تحمل عداءً تقليدياً للإسلام والمسلمين، بما في الأمر من هواجس وتزيد، وإن كانت هناك بالفعل صراعات ثقافية وفكرية طبيعية تدخل في باب «التدافع» الإنسان الطبيعي.
والثابت كذلك أن اختلال العملية التعليمية الدينية يقود إلى خطاب ديني قلق ومضطرب الملامح والمعالم، وبنوع خاص تجاه التراث الثقافي المتدفق من الماضي وقيمه، فبينما ينظر المجددون إلى أن الماضي لا ينبغي بالضرورة أن يكون كله نافعاً أو ضاراً، أيْ رفض حالة الأحادية الفكرية في الاختيار، تنزع التيارات الأصولية إلى تقديس الموروث دون مقدرة حقيقية على مساءلة الأيقونات، أو قدرة على الفرز والتمييز بين ما هو قديم يصلح لأن يكون عصرانياً، وجديد تمتد جذوره إلى ما هو خارج الأطر الثقافية المحلية والإقليمية ولا يخدم طرحاً إنسانياً أو تعايشاً إيجابياً، بل يولّد فتناً ويقود إلى كوارث مجتمعية.
يمكن القطع هنا بأن الأديان هي الركيزة الأولى لعناصر الهوية والثقافة المجتمعية، ومن هنا تتجلى أهمية أن يكون الخطاب الديني عاملاً فاعلاً في تماسك المجتمع واستقراره. وبناءً عليه فإنه لا مناص من أن تضطلع مؤسسات الضبط الاجتماعي والتي تبدأ من عند الأسرة ومنظومة التعليم وكذا منظومة الإعلام والثقافة بقضية إعادة ضبط هذا الخطاب.
في هذا الإطار الساعي لمحاربة الخطاب الأصولي، يحق لنا أن نتساءل عن الدور الخطير للمعلم، والواعظ، والإعلامي، المؤدلج بالآيديولوجيا الأصولية على اختلاف هوياتها، وعن حتمية التحقق من هويته الفكرية والحركية، وعلاقته بالمجاميع البشرية، تلاميذ وطلاباً ومريدين ومتابعين وراء الشاشات، فجميع هؤلاء يتلقون شفاهة ما يرسخ في عقولهم ولا يبرح أو يغادر أذهانهم إلى نهاية العمر، سيما أنه ليس لهم دالة من قريب أو بعيد على القراءة الواعية الناقدة، والقادرة على تخليص الثمين من الغث.
كارثة العقدين أو العقود الثلاثة الماضية لم تكن متصلة بكتاب أو موسوعة، حتى وإن كان ينتمي إلى الفكر المتشدد والمتعصب، وإنما وضحت من خلال قيادات تعليمية وإعلامية مخترَقة بالأصوليات القاتلة، وبأصوات إعلامية درجت على تقديم السم في العسل كما يقال، ما خرّج أجيالاً لا تعرف غير الاتِّباع ولا تجيد فنون الإبداع، وجماعات شعبوية بالملايين تمضي وراء «دعاة» يجيدون فنون «التجييش والحشد»، التي تجري عبر وسائل الإعلام المتلفزة، والتي يتعاملون معها بعواطفهم لا بعقولهم.
على أن هناك قضية موصولة بنوع خاص بما يمكن أن نطلق عليه «فقه النوازل أو المستجدات» تلك المتصلة بالخطاب الأصولي الواصل إلى الناس عبر وسائط التواصل الاجتماعي، تلك التي عرف «داعش» بنوع خاص تسخيرها لخدمة عملياته الإرهابية حول العالم. وعليه تبقى علامة الاستفهام الحصرية: كيف الطريق إلى التعاطي معها حتى نقطع حبل الوصل مع «داعش» جديد يُولد من رحم القديم؟
هنا وباختصار غير مخلٍّ يمكننا القول إنه إذا كان أصحاب الفكر الأصولي من مستخدمي تلك الوسائط الحديثة يحملون لأشياعهم وأتباعهم ديناً وفكراً، ثقافةً ومنهجاً للحياة، وإن كانت ثقافة موت لا حياة، تعبّر عن أفكارهم وشهوتهم للنار والدمار، فإن أضعف الإيمان أن يقابَل هذا الفكر بفكر، وأن تُقارَع الحجة بالحجة. وهنا يبقى على التربويين في عالمنا العربي دور كبير في مجال حماية الشباب وتربيتهم بطريقة حديثة تتوافق مع المستحدثات وكذا التحديات.
ولعله من نافلة القول: إن المطالبة بتجديد الخطاب الديني، دون تفكيك للخطاب الأصولي المتطرف، أمر يترك فجوات وثغرات واسعة، تجعل مجابهة الطروحات والشروحات الإرهابية أمراً لا فائدة منه ولا طائل من ورائه.
ارتبط الخطاب الأصولي عضوياً بظاهرة الإرهاب، وكلاهما خرج من أحشاء ثقافة كراهية الآخر، وهذه بدورها لم تكن نبتاً شيطانياً ظهر على حين غفلة، بل أسهمت عوامل عدة في تخليقها، وفي أولها وآخرها إشكالية الخطاب غير الإنساني وغير الحضاري الذي يحتكر الحق والصواب، وينصّب من نفسه حَكماً وقاضياً على سلوك الآخرين، أولئك الذين يمتلكون أبواب الجنة وربما مفاتيحها أيضاً.
هذا الخطاب، ومن أسف شديد، كائن وقائم في الكثير من التراث الفكري الذي يحتاج إلى مراجعة، ولا نغالي إنْ قلنا «غربلة»، ومراجعة جريئة وشاملة.
وإذا كان الحديد لا يفلّه إلا الحديد، فإن الخطاب الأصولي المتطرف ربما لا ينفع معه إلا خطاب إنساني إيجابي خلّاق، يعمل على نشر قيم التسامح والتعايش بين بني البشر، وبحيث تُعطى الفرصة الجيدة لإحياء خطاب القيم الحقيقية الحاكمة للعلاقات بين بني البشر، عبر الأخوة الإنسانية الجامعة لهم، دون أدني التفاتة أو اعتبار للفروقات الطبيعية في ما بينهم مثل اختلاف الدين أو العرق أو الثقافة أو اللغة.
أفضل مَن قدّم رؤية علمية للخطاب الأصولي مؤخراً كان البروفسور الفرنسي «برنار شوفييه» الأستاذ في معهد علم النفس المرضي في جامعة ليون الفرنسية، وذلك عبر صفحات كتابه المفيد للغاية «المتعصبون... جنون الإيمان».
وعنده أن هناك أجواء بعينها تخلق فرصاً تشجع على بروز جماعة أو جماعات من الساخطين المتعصبين والمتشددين، بقدر ما يمكن للمجتمعات من تضييق نوافذ تلك الفرص، بقدر المقدرة على الانتصار في مواجهة العنف والإرهاب، حتى وإن كان المتعصبون موجودين منذ عتمة الزمان.
ونلاحظ أن البروفسور الفرنسي يضع الوقاية قبل القمع، من منطلق الوقاية خير من العلاج، سيما وأن القمع من دون الوقاية يعزز التعصب لأنه يخلق في المقابل تعصباً أسوأ بكثير –كما بيّن لنا التاريخ– من حيث شراسته واتساعه، من العنف الذي كان ينبغي علينا القضاء عليه في البداية... على أنه تتبقى هناك ملاحظة أخيرة تتصل بحتمية وجود إرادة دولية لمحاربة الأصولية، إرادة صادقة، لا تتلاعب على الأصوليين واستخدامهم من ثمّ كخناجر في خواصر يراد بها أهداف سياسية، تخدم الاستراتيجيات الكبرى للأقطاب الدولية.
الخلاصة... التطرف لا يفيد، وأمام الخطاب الكاره للآخر لا بد من خطاب إيجابي بملامح ومعالم تعيد أنسنة الحياة البشرية.


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
TT

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)

ارت طموحات تنظيم «داعش» الإرهابي للتمدد مجدداً تساؤلات كثيرة تتعلق بطبيعة «مساعيه» في الدول خلال العام الجاري. واعتبر مراقبون أن «(أزمة كورونا) جددت طموحات التنظيم للقيام بعمليات إرهابية، واستقطاب (إرهابيين) عقب هزائم السنوات الماضية ومقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». ووفق خبراء ومتخصصين في الشأن الأصولي بمصر، فإن «التنظيم يبحث عن أي فرصة لإثبات الوجود»، مشيرين إلى «مساعي التنظيم في أفريقيا عبر (الذئاب المنفردة)، ومحاولاته لعودة نشاطه السابق في العراق وسوريا عبر تبني عمليات القتل»، موضحين أن «المخاوف من العناصر (الانفرادية) التي تنتشر في أوروبا وأميركا تتزايد، خاصة وأنها تتحرك بانسيابية شديدة داخل محيطهم الجغرافي».
وقال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «(داعش) مثل تنظيمات الإرهاب تبحث عن فرصة مُناسبة للوجود، ومن الفُرص المُناسبة، وجود أي شكل من أشكال الفوضى أو الارتباك، وعندما تكون جهود الدول موجهة لمحاربة (كورونا المستجد)، فيبقى من الطبيعي أن يسعى التنظيم للحركة من جديد، وانتظار فرصة مناسبة لتنفيذ أهدافه، خاصة أن (داعش) في تعامله مع الفيروس روج لفكرة (أن كورونا عقاب إلهي لأعدائه، على حد زعم التنظيم)، خصوصاً أن (كورونا) كبد أوروبا خسائر كبيرة، وأوروبا في الدعايا الداعشية (هذا الغرب الذي يحارب الإسلام، على حد تصور الداعشيين)، لذا فـ(داعش) يستغل هذا، في مواجهة بعض الارتكازات الأمنية، أو الأكمنة، أو الاستهدافات بالشوارع، لإثارة فازعات، ومن الوارد تنفيذ بعض العمليات الإرهابية».
وأكد عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) استغل (أزمة الفيروس) بالادعاء في بيان له مارس (آذار) الماضي، بأن الفيروس (عذاب مؤلم من الله للغرب، خاصة للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضده، على حد زعمه)، ويحاول التنظيم نشر الخوف من الوباء، والبحث عن إيجاد مصارف لتمويل العمليات الإرهابية».
ووفق تقرير سابق لمجموعة «الأزمات الدولية» في نهاية مارس الماضي، أشار إلى أن «التنظيم أبدى مع ظهور الفيروس (نبرة شماتة)، وأخبر عناصره عبر افتتاحية جريدة (النبأ) التابعة له في نهاية مارس الماضي، بضرورة استمرار حربهم عبر أرجاء العالم حتى مع تفشي الوباء... وادعى أن الأنظمة الأمنية والدولية التي تسهم في كبح جماح التنظيم على وشك الغرق، على حد قول التنظيم».
ويشير عبد المنعم في هذا الصدد، إلى أنه «بالعودة لزاوية (حصاد الأجناد) في عدد (النبأ) الأخير، زعم التنظيم أنه شن 86 هجمة إرهابية في شهر واحد، هو مارس الماضي، وهو أعلى رقم منذ نهاية نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، الذي سجل 109 هجمات، فيما عُرف بـ(غزوة الثأر) للبغدادي وأبو الحسن المهاجر اللذين قُتلا في أكتوبر (تشرين أول) الماضي في غارة جوية».
ووفق تقارير إخبارية محلية ودولية فإن «(داعش) يسعى لاستعادة سيطرته على عدد من المناطق في سوريا والعراق من جديد، وأنه يحتفظ بنحو من 20 إلى 30 ألف عضو نشط، ولا ينقصه سوى توفر المال والسلاح». وأشارت التقارير ذاتها إلى أن «التنظيم يحاول استغلال انشغال سوريا والعراق بمكافحة الفيروس، لاستعادة سيطرته على مناطق من الصحراء السورية في الغرب، إلى وادي نهر الفرات شرقاً، مروراً بمحافظة دير الزور والمناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، والتي لا يزال يوجد فيها بعض عناصره».
ويشار أنه في أبريل (نيسان) الماضي، هاجم التنظيم بلدة السخنة في صحراء حمص، وأسفر عن مقتل 18. وفي دير الزور أعلن التنظيم مقتل اثنين... وفي العراق، قتل ضابط شرطة عند نقطة تفتيش في الحويجة غرب كركوك على يد التنظيم، كما قتل اثنان من مقاتلي البيشمركة الكردية في هجوم للتنظيم أبريل الماضي، كما أسفر هجوم للتنظيم على مطار الصادق العسكري عن مقتل اثنين.
وفي هذا الصدد، قال عمرو عبد المنعم، إن «أكثر هجمات (داعش) كانت في العراق أخيراً، وشهد التنظيم نشاطاً مكثفاً هناك»، مضيفاً: «في نفس السياق دعت فتوى نشرها التنظيم على (تلغرام) للهروب من السجون السورية، وهذا ما حدث، فقد هرب 4 نهاية مارس الماضي، من سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً لتقارير إخبارية».
وسبق أن طالب أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» في سبتمبر (أيلول) الماضي، «بتحرير أنصار التنظيم من السجون ...»، وسبقه البغدادي «وقد حرض بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق».
وبحسب المراقبين «حاول (داعش) أخيراً زيادة حضوره الإعلامي على منصات التواصل الاجتماعي مجدداً، بعد انهيار إعلامه العام الماضي». ورصدت دراسة أخيرة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تداول التنظيم تعليمات لعناصره عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بالادعاء بأن الفيروس يمثل (عقاباً من الله، ويحتم اتخاذ خطوات لتكفير الذنوب)، وجعل التنظيم الإرهابي - على حد زعمه - السبيل الوحيد للخلاص من الفيروس، والقضاء عليه، هو (تنفيذ العمليات الإرهابية)، ولو بأبسط الوسائل المتاحة». اتسق الكلام السابق مع تقارير محلية ودولية أكدت «تنامي أعداد حسابات أعضاء التنظيم وأنصاره على مواقع التواصل خصوصاً (فيسبوك)، حيث تمكن التنظيم مجدداً من تصوير وإخراج مقاطع فيديو صغيرة الحجم حتى يسهل تحميلها، كما كثف من نشر أخباره الخاصة باستهداف المناطق التي طرد منها في العراق وسوريا، وتضمين رسائل بأبعاد عالمية، بما يتوافق مع أهداف وأفكار التنظيم».
ووفق عبد المنعم فإن «(داعش) يستغل التطبيقات الإلكترونية التي تم تطويرها في الفترة الأخيرة في المجتمع الأوروبي، والتي قدمتها شركات التكنولوجيا والذكاء الصناعي في أوروبا مثل تطبيق Corona-tracker لجمع البيانات عن المصابين، وتوجيه بعض الأسئلة لتحديد نسبة الخطورة، وفرض التنظيم على الأطباء والممرضين في الرقة الحضور اليومي الإجباري، ومن خالف تعرض لعقوبات شديدة».
وعن الواجهة التي يسعى «داعش» التمدد فيها خلال الفترة المقبلة. أكد الخبير أحمد بان، أن «أفريقيا هي الواجهة المفضلة لتنظيمي (داعش) و(القاعدة)، والفترة الأخيرة شهدت تصاعدا لعمليات في الغرب الأفريقي وداخل الساحل، وعمليات داخل موزمبيق، فـ(داعش) في حالة سباق لتصدر المشهد هناك، مع توفر آليات تساعده على ذلك من بينها، تهريب السلاح، وحركة العصابات». فيما أبدى عمرو عبد المنعم، تصوراً يتعلق بـ«زيادة العمليات الإرهابية في نيجيريا، وأنه طبقاً لبيانات صدرت أخيراً عما يُعرف باسم (ولاية غرب أفريقيا) أفادت بوجود أكثر من مائة مقاتل هاجروا لنيجيريا من سوريا والعراق».
وتجدد الحديث في فبراير (شباط) الماضي، عن مساعي «داعش» للوجود في شرق أفريقيا أيضاً، بعدما أظهرت صوراً نشرها التنظيم عبر إحدى منصاته تتعلق بتدريبات على أسلحة تلقاها عناصره في مرتفعات «غل غلا» الوعرة بولاية بونتلاند الواقعة شمال شرقي الصومال.
تعليقاً، على ذلك أكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) يهدف إلى السعي لمناطق بالقارة السمراء، بعيداً عن سوريا والعراق، لـ(تفريغ قدرات عناصره القتالية)، فضلاً عن تأكيد عبارة (أنه ما زال باقياً)».
تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية أشارت أيضاً إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال المراقبون إن «عودة هؤلاء أو ما تبقى منهم إلى أفريقيا، ما زالت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيراً منهم شباب صغير السن، وأغلبهم تم استقطابه عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
فيما قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «مساعي التنظيم للتمدد داخل أفريقيا سوف تتواصل عبر (الذئاب المنفردة)»، مضيفاً أن «ما يقوم به التنظيم في أفريقيا، والعراق وسوريا أخيراً، لإثبات أن لديه قدرة على تحقيق إنجازات، وأنه (عابر للحدود)، وأنه غير مُتأثر بهزائم سوريا والعراق».
وكان أبو محمد العدناني، الناطق الأسبق باسم «داعش» قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم، إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح، حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... ومن بعده دعا البغدادي إلى «استهداف المواطنين». وتوعد التنظيم عبر مؤسسة الإعلامية «دابق» بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
في ذات السياق، لفت أحمد بان، إلى أن «التنظيم يسعى لاكتشاف أي ثغرة لإثبات الوجود أو تجنيد عناصر جُدد، خاصة وأن هناك عناصر (متشوقة للإرهاب)، وعندما يُنفذ (داعش) أي عمليات إرهابية، تبحث هذه العناصر عن التنظيم، نتيجة الانبهار».
من جانبه، قال الخبير الأمني اللواء فاروق المقرحي، مساعد وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «تنظيمات الإرهاب خاصة (داعش) و(القاعدة) لن تتوانى عن سياسة التجنيد، ومن هنا تنبع فكرة الاعتماد على (الذئاب المنفردة) أو (العائدين) بشكل كبير».
وبينما رجح زغلول «حدوث بعض التغيرات داخل (داعش) عام 2020». قال اللواء المقرحي: «لا أظن عودة (داعش) بفائق قوته في 2020 والتي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي؛ لكن الخوف من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، لاستنزاف القوى الكبرى»، لافتاً إلى أن «كثيرا من العناصر (الانفرادية) تتحرك في أوروبا وأميركا بانسيابية داخل الدول، وهذا هو الخطر».