حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

لبنان على مفترق طرق

ليس أمراً بسيطاً هذا الاحتضان الدولي للبنان. أكثر من خمسين دولة، ومعها أبرز المؤسسات المالية الدولية، التقت في «سيدر 1» حول لبنان، والتزمت بدعم مالي دولي (بحدود 11 مليار دولار خلال أقل من عقد)، في ما يمكن اعتباره رسالة مفادها أن موت لبنان ممنوع، رغم كل ما يعانيه من تراجع سياسي واقتصادي واجتماعي.
فرنسا، البلد المضيف لهذا المؤتمر، أمِلت بلسان رئيسها، كما أكد كل المشاركين، أن لبنان قادر على تغيير الاتجاه الانحداري، وكل شروط النهوض ممكنة، وهي بيد أهل الحكم في لبنان، ويستحيل على المجتمع الدولي المتعاطف والداعم، لأسباب وخلفيات كثيرة، الحلول مكان الطبقة السياسية الممسكة بدفة الحكم منذ عقود. تأسيساً على ما تقدم، لم يمنح لبنان شيكاً على بياض، بل جاء الدعم مشروطاً بإنجاز إصلاحات جذرية، ما قد يبشر بأن الفرصة موجودة لبدء رحلة انتشال لبنان، البلد المتعثر في كل المجالات، المثقل بديون لا وجود لرقم رسمي لها، وتقدر بنحو 100 مليار دولار، أي ضعف إجمالي الناتج القومي للبلد.
رئيس وزراء لبنان، سعد الحريري، قال إن عملية تحديث الاقتصاد اللبناني بدأت للتو، والهدف نمو مستدام وخلق فرص عمل، وغرّد على «تويتر» بأن «سيدر» أمن 9.9 مليار دولار من القروض الميسرة المشروطة، و860 مليون دولار من الهبات، بما فيها هبات لدعم القروض. بعبارة أخرى، فإن لبنان أمام حتمية ارتفاع كبير في الدين العام، وبالتالي الفوائد، يُضاف إلى التنامي المخيف في العجز السنوي للموازنة، وهو في الموازنة الراهنة لعام 2018 يلامس الـ6 مليارات دولار. وبالتالي، قياساً على ما حمله الوفد الرسمي إلى مؤتمر باريس، لم يعد من الجائز إطلاق العنان لرهانات كبيرة. ما حمله الوفد اللبناني مقلق ويثير الشفقة: موازنة عامة جرى تمنين اللبنانيين أنه تم إقرارها، بعد غياب الموازنات لأكثر من عقد، فيما هي أولى واجبات الحكم وجوهر دوره، وهي موازنة تفليسة، فيها 21 مليار دولار (من أصل 23) رواتب وخدمة دين وعجز كهرباء، وكل المطالبات الدولية بخفض العجز، ووضع ميزانية تحفز النمو، جرى الالتفاف عليها عندما التقت العبقريات على تأجيل أكثر مدفوعات الدولة عن عام 2018 إلى عام 2019، وأُرفقت الموازنة بقائمة من عناوين المشاريع التي رُتبت على عجل، وجرى نفخ أرقام تكلفتها!!
في خضم المعركة الانتخابية التي ستتم في السادس من مايو (أيار) المقبل، وفق قانون هجين أفرغ النسبية من مضمونها، وأطلق السعار الطائفي والتجييش المذهبي، تبدو الطريق معبدة أمام أكثرية القوى للعودة المظفرة إلى البرلمان، وإن كانت هناك إمكانية لخروقات موجعة ومعبرة، فإن هذا الأمر يطرح الأسئلة الحقيقية عمن سيحقق الإصلاح المطلوب، إذا كان 15 في المائة من اللبنانيين يستحوذون على نحو 60 في المائة من الناتج الوطني، وفق دراسة للبنك الدولي، وهذه النسبة هي الممسكة بمقاليد السلطة منذ نهاية الحرب الأهلية، والقابضة على القرار، والمستفيدة من الوضع الحالي، وهي مَن فرمل الإصلاح المطلوب من مؤتمر «باريس 1» لتاريخه (باريس 2، وباريس 3)، وقد لا تتورع عن إبقاء العملية الإصلاحية مجرد حبر على الورق.
بهذا المعنى، يُخشى أن يكون هاجسُ تحالف المحاصصة الحاكم الاقتراضَ للاستمرار في سياسة الفساد وهدر المال العام نفسها، والرهان على تقطيع الوقت، بانتظار بدء استخراج النفط والغاز المكتشف في المياه الإقليمية اللبنانية، مع العلم أنه حتى تاريخه لا دراسات جدوى جدية، ولا معطيات موثوقة بعد، عن الكميات والقدرة على التسويق.
والأمر ليس جديداً. ففي لبنان، تتقدم «ميزة» ارتجال القرارات، ليتقدم الهدر والنهب وغياب المحاسبة وفقدان الشفافية وتجاوز القوانين والأنظمة. وهكذا منذ «باريس واحد»، يستدين لبنان من أجل البنى التحتية، والنتيجة: الطرقات مرائب، وضياع ساعات عمل، والمياه ملوثة، وثلث الدين العام أُنفق على كهرباء غير موجودة، والنفايات طمرت البلد، والتلوث يأكل الأخضر، ولدى اللبنانيين أبطأ خدمة إنترنت، لكنها الأغلى ثمناً.
بعد «سيدر 1»، لبنان على مفترق قد لا يُتاح كثيراً، وهو الذي يكاد يكون دولة فاشلة عاجزة عن تسديد ديونها، وهذا المفترق يتطلب - كممر إلزامي - بسط سلطة الدولة على كل أراضيها، واستعادة السيادة كاملة، أي وضع شعار «النأي بلبنان» بالتطبيق الحقيقي، أي ضبط الحدود، والانسحاب الحقيقي من نزاعات المنطقة، وأولها مشاركة «حزب الله» في الحرب على الشعب السوري، والعودة إلى التزام قرارات الشرعية الدولية وتطبيقها دون اجتزاء، ولا سيما القرار 1701، لأنه بذلك فقط يتم تعبيد الطريق لاستقرار مستدام، يحفز الاستثمار والتوظيف وخلق فرص العمل، بما يكسر حصرية القطاعين المصرفي والعقاري، وما تسببا به من اقتصاد ريعي هو اليوم أمام حائط مسدود.
إنه ألف باء استعادة لبنان لعافيته، وهذا مسار يمر حتماً باعتماد سياسات جدية في مكافحة الفساد، والبداية تكون في رأس الهرم؛ عندما يتوقف الوزراء عن مخالفة القوانين، بوقف التلزيمات المشبوهة والعطاءات التي تُغذي جيوب الخاصة... وكذلك عندما تتم مواجهة الاقتصاد الموازي، أي التهريب والاستيلاء على أجزاء كبيرة من الواردات الجمركية والعائدات العامة المختلفة، التي تفوق سنوياً رقم 5 مليارات دولار، أي نحو 45 في المائة من وعود «سيدر 1». وهذا الاقتصاد الموازي لا يقتصر خطره على عمليات النهب، بل هو المقتل لكل نشاط اقتصادي يُعول عليه في بناء البلد وحمايته.
الأفق المسدود يمكن فتحه في السادس من مايو، إذا اختار المقترع من يمثل بشكل حقيقي وجعه، ويحمل همومه. ومجرد وصول حفنة من النواب من خارج لوائح المحاصصة المعلبة يُمكّن المجلس النيابي من استعادته لدوره في التشريع والمراقبة والمحاسبة، ومن هنا البداية.