كريستوفر وايلي... نجم المصادفة والتكنولوجيا

صنعت شهرته فضيحة «كمبريدج آناليتيكا» وتداعياتها العالمية

كريستوفر وايلي... نجم المصادفة والتكنولوجيا
TT

كريستوفر وايلي... نجم المصادفة والتكنولوجيا

كريستوفر وايلي... نجم المصادفة والتكنولوجيا

سرّب محلل البيانات الكندي كريستوفر وايلي، أخيراً، معلومات مثيرة وغاية في الخطورة عن تورّط شركة استشارات سياسة في التأثير على آراء الناخبين وفقا لملفاتهم في الشبكات الاجتماعية، وذلك خلال الانتخابات الأميركية السابقة واستطلاع الرأي الخاصة بالاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ومن خلال ما قاله وايلي، كان بين الأطراف الضالعة في الفضيحة - بجانبه - كل من شركة «كمبريدج آناليتيكا» البريطانية والمجموعة المالكة لها «إس سي إل»، وستيف بانون المستشار السابق للرئيس الأميركي دونالد ترمب، وألكساندر نيكس المدير الحالي لـ«كمبريدج آناليتيكا»، والملياردير روبرت ميرسر أحد كبار داعمي الرئيس ترمب و«حزب استقلال المملكة المتحدة» UKIP، والباحث الروسي ألكساندر كوغان، وشركتا «أغريغيت آي كيو» الكندية و«بلاك كيوب» الإسرائيلية، ورئيس UKIP نايجل فاراج وشركة «فيسبوك».
ولقد طالب الكونغرس الأميركي ومجلس العموم البريطاني سماع إفادة وايلي، وكذلك مارك زوكربيرغ، مؤسس «فيسبوك» حول ملابسات ما حدث، مع استمرار كشف وايلي المزيد من تفاصيل ما حدث إبان فترة عمله في «كمبريدج آناليتيكا».
فجّر الشاب الكندي كريستوفر وايلي Christopher Wylie مفاجأة «عالمية» من العيار الثقيل خلال شهر مارس (آذار) حول عملية تحايل على نظام «فيسبوك» بهدف سرقة بيانات ملفات ملايين المستخدمين للتأثير على رأي الناخبين الأميركيين إبان الانتخابات الرئاسية السابقة، واستطلاعات الرأي المتصلة بالاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ولكن من هو هذا الشاب الذي أصبح اسمه متداولا بين ليلة وضحاها، وكيف استطاع الحصول على هذه المعلومات الخطيرة؟
- النشأة وبداية المسيرة
كريستوفر - أو «كريس» - وايلي شاب كندي يبلغ من العمر 28 سنة. والده هو الدكتور كيفن وايلي ووالدته الدكتورة جوان كاروثرز. ولقد نشأ في مدينة فيكتوريا عاصمة ولاية بريتيش كولومبيا في أقصى غرب كندا، لكنه مرّ بمرحلة صعبة في المدرسة، حيث أزعجه الكثير من الطلبة المتنمّرين، واعتدى عليه شخص مختل عقلياً عندما كان عمره 6 سنوات فقط، وأخفت مدرسته هذا الأمر ولكنه استطاع الحصول على تسوية بقيمة 290 ألف دولار كندي في العام 2000، وإبان طفولته شخصت معاناته من متلازمة عسر الكلام واضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط، ليترك المدرسة بسبب كرهه لها وغضبه من النظام التعليمي عندما كان لا يزال في سن الـ16 من دون أي مؤهلات تساعده في الحياة.
مع ذلك، عمل الشاب الموهوب العديم الخبرة مع السياسي الكندي الليبرالي السابق مايكل إغناتييف عندما كان عمره 17 سنة، وتعلم بعد ذلك علوم البيانات من كين ستراسما، الاستراتيجي السياسي للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. ومن ثم علّم نفسه البرمجة عند بلوغه سن 19 سنة، واستطاع بفضل فطنته الواسعة الحصول على عمل في حزب الأحرار الكندي الليبرالي (الحاكم حالياً) كخبير رقمي قبل أن ينتقل إلى بريطانيا في سن العشرين، ويدرس الحقوق في إحدى أشهر جامعاتها، مدرسة لندن للاقتصاد.
عمل وايلي حزب الديمقراطيين الأحرار البريطاني في العام 2012، وساعد الحزب يومذاك في ترقية نظام قواعد بياناته وآلية استهداف الناخبين. واليوم يصف وايلي نفسه بأنه «نباتي، ومثلي الميول الجنسية، وينتمي إلى حزب الأحرار الكندي وحزب الديمقراطيين الأحرار البريطاني».
- أول السلّم... صعوداً
عندما كان عمره 23 سنة، برزت أهميته حين سعى للحصول على شهادة في التنبؤ بنزعات الأزياء، واستطاع ابتكار طريقة تحلّل البيانات الضخمة والشبكات الاجتماعية لاستهداف الناخبين في الانتخابات. ومن ثم تعرف على مجموعة «إس سي إل» SCL التي أسست شركة «كمبريدج آناليتيكا» البريطانية للاستشارات السياسية. وبدأ حينذاك يفكر بكيفية استخدام ما يفضله الأفراد للتنبؤ بتصرّفاتهم السياسية، ولم يلبث أن عرض عليه ألكسندر نيكس، مدير شركة «كمبريدج آناليتيكا»، عملاً في الشركة وفرصة لتطبيق أفكاره الجنونية. وبالفعل، باشر وايلي العمل في الشركة التي كانت تعمل مع وزارات الدفاع الأميركية والبريطانية في مجال حروب البيانات، ولتبدأ عندها مرحلة «عمليات المعلومات» التي نالت إعجاب الاستراتيجيين السياسيين، بمن فيهم ستيف بانون.
بانون، المستشار السابق للرئيس الأميركي دونالد ترمب، كان حلقة الوصل بين «كمبريدج آناليتيكا» وحملة الرئيس الأميركي - إذ كان بانون يترأس «كمبريدج آناليتيكا» في السابق - التي يموّلها الملياردير اليميني المتشدد روبرت ميرسر، المؤيد لدونالد ترمب، إذ يعتبر ميرسر أكبر المستثمرين في «كابريدج آناليتيكا» بـ16 مليون دولار أميركي. ومن جهة ثانية، تعاون بانون مع باحث علوم نفسية روسي في جامعة كمبريدج البريطانية العريقة، اسمه ألكسندر كوغان، من خلال شركة الباحث «غلوبال ساينس ريسيرتش» Global Science Research التي قدّمت البيانات إلى «كمبريدج آناليتيكا». وما يزيد الأمر سوءاً أن كوغان هذا تعاون مع شركة نفط روسية مقرّبة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان بالادعاءات السائرة في الولايات المتحدة بأن الحكومة الروسية تلاعبت بالانتخابات لصالح ترمب، والذي قد يعني أن عملية انتخاب الرئيس الأميركي ليست شرعية.
- الصلة مع «فيسبوك»
وايلي ادعى أن «كمبريدج آناليتيكا» استغلت آلية في «فيسبوك» لجمع معلومات من ملفات الناخبين المستهدفين من خلال تطبيق خاص أطلقه الباحث كتجربة علمي، ثم تكوين ملف نفسي متكامل لكل منهم وفقا لما يحبّونه ويكرهونه من المنشورات ومّن هم أصدقاؤهم. وبعد ذلك بوشر العمل على إيجاد سبل للوصول إليهم والتأثير عليهم وتطوير الدراسات لتحليل بيانات الأفراد المستهدَفين في «فيسبوك» من خلال التطبيق الذي يتطلب الدخول إليه ما يعرف في عالم البرمجة بواجهة برمجة التطبيقات Application Programming Interface API.
هذا الأمر يتيح لأطراف غير تابعة لـ«فيسبوك» بالحصول على بيانات من مستخدمي «فيسبوك»، وليس فقط من يستخدم التطبيق المخادع، مثل جميع من يتواصل معهم في الشبكة، وذلك بهدف إيجاد نماذج للشخصيات واستغلال ما يفضلونه وما يؤثر بهم لبناء الحملات الانتخابية واستهدافهم بشكل أفضل. كذلك نشرت الشركة أخبارا مزيفة للتأثير في قرارهم الانتخابي. ولقد ضم فريق العمل مصممي رسوم وكتّاباً ومنتجي أفلام ومصورين عكفوا على إنتاج محتوى مضلل بأشكال عديدة حسب اهتمامات المجموعات المستهدفة.
- مرحلة عمل جديدة
كريستوفر وايلي ترك العمل في «كمبريدج آناليتيكا» عام 2014، وتواصل مع «فيسبوك» وأخبرهم بما تفعله الشركة. وقدم أخيراً مجموعة رسائل بريد إلكتروني ووثائق تثبت أن شركة «كمبريدج آناليتيكا» استطاعت سرقة معلومات من حسابات «فيسبوك» تابعة لملايين الناخبين المستهدَفين في حملتي الانتخابات الأميركية والاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. من جهة ثانية، ذكر وايلي أيضاً، أن شركة «أغريغيت آي كيو» الكندية المرتبطة بـ«كمبريدج أناليتيكا» عملت أيضاً للمساعدة في استهداف البريطانيين لتحفيزهم على التصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ذلك أنه كان للحملة الرسمية لدعم التصويت لصالح الخروج إمكانية الوصول إلى البيانات التي سبق جمعها بطريقة غير مباشرة من مستخدمي «فيسبوك»، وأن «أغريغيت آي كيو» اعتمدت على قواعد بيانات «كمبريدج آناليتيكا» لعملها في استفتاء الاتحاد الأوروبي. وأوضح بأن «أغريغيت آي كيو» طوّرت برنامج كومبيوتر اسمه «ريبون» واستخدمته لتحديد هويات الناخبين المحتملين من خلال تحليل بياناتهم في «فيسبوك». وللعلم، كان روبرت ميرسر أحد كبار داعمي «حزب استقلال المملكة المتحدة» الذي قاد حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي، ولقد قدّم جميع خدمات «كمبريدج آناليتيكا» مجاناً إلى نايجل فاراج رئيس ذلك الحزب، الذي لم يبلغ السلطات البريطانية عن هذا الأمر.
- الزاوية التقنية
كيف حدث ما حدث، من الزاوية التقنية؟
وفق المعلومات التي أدلى بها وايلي، استخدم الباحث الروسي ألكسندر كوغان تطبيقاً خاصاً كتجربة اجتماعية ونفسية على مئات الآلاف من المستخدمين الذين كان يجب عليهم مشاركة بياناتهم الخاصة بـ«فيسبوك». ومن ثم، استطاع التطبيق معرفة عادات المستخدمين ورغباتهم، وجمع المزيد من البيانات عنهم وعن أصدقائهم دون علمهم أو موافقتهم. وفيما بعد، قدّم هذه البيانات إلى شركة «كمبريدج آناليتيكا» لتحليلها واستنباط شخصية كل مستخدم، وإعداد إعلانات وأخبار ملفقة للتأثير على رأيهم الانتخابي، وذلك - حسب زعمه - بهدف مساعدة المرشح الجمهوري يومذاك دونالد ترمب على الفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية بمطلع نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2016 من خلال مستشاره السابق ستيف بانون. وفي بريطانيا، أمر شبيه بذلك حدث مع قضية التأثير على نتيجة الاستفتاء الخاص بمسألة خروج بريطانيا من أسرة الاتحاد الأوروبي.
- بخاري... وواينشتين
وفي السياق ذاته، ولكن في مواضع أخرى، زعم وايلي خلال شهادته أمام البرلمان البريطاني بأن «كمبريدج آناليتيكا» استعانت بشركة استخباراتية إسرائيلية خاصة اسمها «بلاك كيوب» لاختراق حسابات الرئيس النيجيري محمد بخاري والوصول إلى سجلاته الطبية ورسائل البريد الإلكتروني الخاصة به. وحسب زعمه، جرى التعاقد بين «كمبريدج آناليتيكا» و«بلاك كيوب»، من خلال شركة «أغريغيت آي كيو»، لاستخدام البيانات التي حصلت عليها «بلاك كيوب» لنشر عروض فيديو معادية للمسلمين على «فيسبوك» بهدف الإضرار بحملة الرئيس بخاري. وأضاف أن «كمبريدج آناليتيكا» سعت أيضاً للتأثير على العديد من الحملات الانتخابية في دول نامية بشكل منتظم.
وبعيداً عن السياسة، أشار وايلي إلى أن شركة «بلاك كيوب» الإسرائيلية قدّمت خدماتها للمنتج الهوليوودي المعروف هارفي واينستين لردع النساء اللواتي اتهمنه بالتحرّش أو الاعتداء الجنسي خلال عقود من الإساءة في أروقة هوليوود الفنية. وكان موظفان يعملان في «بلاك كيوب» قد أدينا بتهمة التجسس على أعلى مسؤول لمكافحة الفساد في رومانيا في العام 2016.
هذا، ويصف صحافيون في صحيفة «الأوبزرفر» البريطانية كريستوفر وايلي بأنه شخص ذكي وصاحب روح دعابة، كما أنه يتذمر كثيراً وحديثه مليء بالكلمات النابية، وهو فضلاً عن ذلك نهم ثقافيا ويحب تعلم المزيد، وبارع في سرد القصص وماهر في السياسة وعلوم البيانات. واليوم، يدعو وايلي إلى إصلاح «فيسبوك» وليس حذفه، قائلا بأن التواصل مع الآخرين بات مستحيلاً من دون هذه المنصات، ولكن لا بد من وضع ضوابط لها.
- يمكن متابعة «كريستوفر وايلي» في «تويتر» في حسابه @ChrisInSilico
كيف تكتشف حجم ما يخزنه «فيسبوك» عن حياتك؟
- تستطيع معاينة أرشيفك الذي يخزنه «فيسبوك» ويعرفه عنك بتحميل ملفك منه عبر متصفح الإنترنت للكومبيوتر الشخصي، وذلك بالذهاب إلى أيقونة المثلث أعلى صفحة «فيسبوك» والنقر عليها واختيار «الإعدادات» Settings، ومن ثم النقر على رابط «تحميل نسخة من بياناتك في «فيسبوك» Download a copy of your Facebook data، ومن ثم الضغط على زر «البدء بتحميل أرشيفي» Start My Archive وإدخال كلمة السر الخاصة بحسابك في «فيسبوك».
ويجب الانتظار قليلا ريثما ينتهي «فيسبوك» من تجميع بياناتك، وسيخبرك بعد قليل بأن العملية قد تمت. ويجب بعد ذلك الضغط على زر «تحميل الأرشيف» Download Archive لتحصل على نسخة مضغوطة بامتداد Zip من حياتك الرقمية في «فيسبوك» منذ انضمامك إليه.
ويمكن بعد فك ضغط النسخة معاينة كل ملف حدة لاكتشاف تفاصيل حياتك الرقمية التي قد تكون نسيتها، مثل ملفات الصور وعروض الفيديو وجميع الرسائل المتبادلة والفعاليات التي شاركت بها وكل إعلان ضغطت عليه والمنشورات التي أعجبتك والتطبيقات التي حملتها والمناوشات الطريفة مع الآخرين عبر زر «الوخز» Poke وعروض الفيديو والصور التي نشرتها ومنشورات جدارك، وغيرها من التفاصيل الأخرى.


مقالات ذات صلة

بعد 40 سنة... سيدة تكتشتف أن والدها الحقيقي ضمن قائمة أصدقائها على «فيسبوك»

يوميات الشرق تامونا موسيريدزي مع والدها (صورة من حسابها على «فيسبوك»)

بعد 40 سنة... سيدة تكتشتف أن والدها الحقيقي ضمن قائمة أصدقائها على «فيسبوك»

بعد سنوات من البحث عن والديها الحقيقيين، اكتشفت سيدة من جورجيا تدعى تامونا موسيريدزي أن والدها كان ضمن قائمة أصدقائها على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»

«الشرق الأوسط» (تبليسي )
العالم رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي (رويترز)

أستراليا تقر قانوناً يحظر وسائل التواصل الاجتماعي لمن هم أقل من 16 عاماً

أقر البرلمان الأسترالي، اليوم (الجمعة) قانوناً يحظر استخدام الأطفال دون سن الـ16 عاما لوسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما سيصير قريباً أول قانون من نوعه في العالم.

«الشرق الأوسط» (ملبورن)
العالم يلزم القانون الجديد شركات التكنولوجيا الكبرى بمنع القاصرين من تسجيل الدخول على منصاتها (رويترز)

أستراليا تحظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للأطفال دون 16 عاماً

أقرت أستراليا، اليوم (الخميس)، قانوناً يحظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للأطفال دون سن 16 عاماً.

«الشرق الأوسط» (سيدني)
يوميات الشرق يحمل مشروع القانون الأسترالي منصات التواصل الاجتماعي المسؤولية القانونية في حالة فشلها  في منع الأطفال من امتلاك حسابات (أ.ف.ب)

«النواب الأسترالي» يقر مشروع قانون لحظر وسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال

أقر مجلس النواب الأسترالي، اليوم، مشروع قانون يحظر على الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 16 عاماً استخدام وسائل التواصل الاجتماعي

«الشرق الأوسط» (ملبورن)
تكنولوجيا شعار شركة «ميتا» يظهر على شاشة جوّال (أ.ف.ب)

المفوضية الأوروبية تغرّم «ميتا» نحو 800 مليون يورو بتهمة تقويض المنافسة

أعلنت المفوضية الأوروبية، الخميس، أنها فرضت غرامة قدرها 798 مليون يورو على شركة «ميتا» لانتهاكها قواعد المنافسة.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.