جوسلين إيليا
إعلامية وصحافية لبنانية عملت مقدمة تلفزيونية لعدة سنوات في لندن وبيروت، متخصصة في مجال السياحة.
TT

جيل «الرؤوس المنحنية»

عرضت إحدى القنوات البريطانية أخيرا برنامجا وثائقيا هز المجتمع المحلي، وجعل أولياء الأمور يفكرون مرارا وتكرارا في تأثير وخطورة التكنولوجيا على فلذات أكبادهم.
القصة التي عالجها البرنامج حقيقية، وتروي لقاء شابة في مقتبل العمر مراهقا مثلها عن طريق الإنترنت، ومن ثم بدأت اللقاءات الفعلية، ولكن اللافت هو أنه في كل لقاء جرى بينهما وجها لوجه لم يقم المراهقان بالتكلم بعضهما إلى بعض، مكتفيين بالجلوس جنبا إلى جنب وتبادل الحديث عبر الرسائل الخطية، الشاب كان يغطي رأسه في كل لقاء بقبعة وكان رأسه منحنيا إلى أسفل، ولم ينطق بكلمة واحدة في أي من اللقاءات. وفي نهاية المطاف، تبين أن الشاب شخصية مزيفة وهو في الواقع فتاة، استدرجت الفتاة الأخرى لإيقاعها في شباك الغرام...
السؤال هنا، كيف يمكننا أن نحدد هوية الجيل الحالي والصاعد؟ كل حقبة زمنية، ترافقها نوعية من الأجيال بصفات معينة، أما جيل اليوم فهو يختلف تماما عن الأجيال التي سبقت، فإذا نظرت من حولك فستجد رؤوسا منحنية، فقلما ترى وجوها، لأن تلك الوجوه منغمسة في وسيلة تكنولوجية ما، إن كان الهاتف الذكي أو الكومبيوتر المحمول أو اللوائح الإلكترونية. تأثير التكنولوجيا واضح جدا على الأجيال الصاعدة منذ ازدهارها، فأصبحنا كلنا جزءا من الحركة، وأطلق العلماء مصطلح «جيل الرأس المنحني إلى أسفل» على الأشخاص الذين تراهم يدفنون وجوههم في أجهزة أذكى منهم، وهذا المصطلح دقيق جدا، لأنه يصف بالفعل ما نراه، وما يراه الغير فينا.
التكنولوجيا مهمة جدا ولا يمكننا العيش من دونها، ولكن تأثيرها السلبي واضح على العلاقات الإنسانية، فالأجيال الصاعدة والمراهقون بالتحديد يفتقدون فصاحة التكلم وهم أكثر انغلاقا على الذات من الأجيال السابقة، لا يأبهون للخروج من المنزل أو التكلم مع الغير، فتراهم منغلقين وحيدين، بعيدين كل البعد عن التحدث اللبق ويفتقدون صفة التحدث والاستماع، وفي حال نطقوا بكلمة فستكون واحدة ووحيدة. والأهم من هذا كله هو المشهد العام الذي تراه في بيوتنا اليوم، أريكة عليها أفراد العائلة وكل منهم يحمل في يده جهازه المفضل، كأنهم لا يتنفسون الهواء نفسه في الغرفة، لأنهم في أماكن مختلفة من العالم، غير آبهين بوجود الشخص الآخر بجانبهم، رؤوسهم منحنية ويشكون في مرات كثيرة من آلام في الرقبة، كيف لا وقد بين استطلاع للرأي أن نسبة تزيد على 90 في المائة من مستخدمي الهواتف الذكية يتفقدون جهازهم الذكي في أول لحظة يستيقظون فيها من النوم والنسبة نفسها تنام في السرير مع الهاتف الجوال، لتثبت التكنولوجيا مرة أنه لا مفر منها.
التكنولوجيا قوة عظمى تقود المجتمعات والأجيال والعالم، ولا يمكننا أن ننكر فضلها، ولكن لا يجوز أن تكون رؤوسنا منحنية لها وأن نصبح عبيدا لعظمتها التي لا يضاهيها إلا ابتكار تكنولوجي آخر أكثر عظمة.
أخيرا، هذا الكلام ينطبق علي ولا بد أن أقوم بإنقاذ رقبتي من الآلام..