د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

ليست الحرب الاقتصادية الأولى

تبدو العلاقات الاقتصادية في الوقت الحالي بين دول العالم في حالة عدم استقرار، هذه الأوضاع استمرت لعام على الأقل، في حالة توتر اقتصادية لم يشهد مثلها العالم في آخر عقدين على الأقل. ولم تكن هذه النزعات بين دول كبرى وصغرى كما كان الحال في كثير من النزاعات الاقتصادية، بل أصبحت هذه النزاعات بين منظومات اقتصادية عظمى، تتمثل في الولايات المتحدة الأميركية من جهة، والاتحاد الأوروبي من جهة ثانية، والصين من جهة ثالثة، بترقب جهات أخرى مثل بريطانيا وروسيا، بل حتى الأخيرتين لم تسلما من هذه الاضطرابات في ظل الحادثة الأخيرة المتمثلة في تسميم الجاسوس الروسي في بريطانيا، والتي قد تتسبب في مقاطعة سياسية واقتصادية بين بريطانيا وروسيا. والحال كما صرح مسؤول في منظمة التجارة العالمية مؤخراً بأنه لا يوجد مستفيد من الحرب الاقتصادية. تصريح هذا المسؤول بني على حوادث تاريخية لحروب اقتصادية بين دول العالم، لم تخلف وراءها إلا الخسائر للأطراف المشاركة، حتى وإن زعم أحد هذه الأطراف بانتصاره في هذه الحرب.
وبحكم موروثها الاقتصادي القديم، فإن أوروبا تعي جيدا معنى الحرب الاقتصادية. وقد سبق لإيطاليا وأن حاولت رفع التعرفة الجمركية على المنتجات الفرنسية في نهاية القرن التاسع عشر، وكأن الزمان يعيد نفسه، فقد بررت إيطاليا هذا القرار بدعم الصناعة الإيطالية وحمايتها من المنتجات الفرنسية. ولكن ما حدث حينها أن فرنسا ردت بالمثل ورفعت الرسوم الجمركية على المنتجات الإيطالية، مما تسبب في تهاوي الصادرات الإيطالية لفرنسا، وكان المتضرر الأكبر حينها هي المصانع الإيطالية نفسها، والتي اتخذ هذا القرار لأجل حمايتها، ولأن فرنسا كانت الأقوى اقتصاديا حينها، فقد تضررت بشكل أقل من إيطاليا التي تراجعت عن القرار بشكل سريع، إلا أن الفرنسيين عاقبوهم باستمرار الضرائب لعدة سنين بعد التراجع. وفي حين يرى بعض الاقتصاديين أن فرنسا ربحت في هذه الحرب، يرى البعض الآخر أن فرنسا تضررت بشكل أقل من إيطاليا، ولم تربح الحرب بشكل فعلي، خاصة أن الكثير من مصانعها تضرر بعدم بيع منتجاته لإيطاليا.
وليست الولايات المتحدة بغريبة عن الحروب الاقتصادية وتبعاتها المريرة، فقد أقرت الولايات المتحدة في عام 1930 نظام «سموت - هاولي»، الذي أقر بفرض زيادة على رسوم استيراد بعض المنتجات الأجنبية، ووصلت نسبة الزيادة إلى 40 في المائة لبعض المنتجات. وكان السبب الأول لهذا القرار هو حماية المزارعين الأميركيين (كما أن السبب الحالي لفرض الرسوم هو حماية مصانع الحديد الأميركية)، وبسبب هذا القرار، اتخذ كثير من دول العالم قرارات مشابهة، وخلال سنتين فقط انخفضت الصادرات الأميركية لأوروبا إلى ما يقارب الثلث. وفي عام 1934 أقر الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت تخفيض الرسوم الجمركية بعد أن اتضح أن القرار لم يكن في مصلحة الأميركيين. ويرى بعض الاقتصاديين أن نظام «سموت - هاولي» هو أحد الأسباب التي أدت إلى ما يسمى بـ«الكساد الأعظم» في الثلاثينيات الميلادية، وهي أكبر حالة كساد اقتصادي مرت على العالم. بل ويرى بعض المحللين السياسيين أن من الأحزاب الشعوبية من استغل هذا النظام لتقوية نفوذه في الأوساط السياسية، ولعل المقصود بذلك هو الزعيم الألماني أدولف هتلر. والفارق الأكبر بين ما يحدث في العالم الوقت الحالي من بوادر حرب اقتصادية، وما حدث سابقا، أن النزاعات الاقتصادية الحالية ليست بين طرف قوي وطرف ضعيف، بل هي نزاعات بين أطراف قوية مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين، وفي مثل هذه النزاعات، تخسر جميع الأطراف المشاركة، بل وحتى غير المشاركة بحكم الارتباط الاقتصادي المشترك بين دول العالم.
إن غالبية الأحداث المتعلقة بالحروب الاقتصادية هي أحداث سلبية، وهي حروب قل ما يربح فيها أحد، حتى وإن حاولت بعض الحكومات اللعب على وتر الشعوبية، والفخر بالانتماء الوطني، فإن من يدفع تكلفة هذه الحروب هو المواطن ذاته الذي يفتخر بفوز مزعوم لبلده في حرب اقتصادية. فالخاسر الأكبر في جميع الحروب الاقتصادية الماضية هو المستهلك، الذي يتحول من اختيار منتج من بين منتجات كثيرة متوفر ومتنافسة، إلى شراء المتوفر من المنتجات وبسعر عالٍ فرضه انعدام المنافسة بين موفري المنتجات. كما أن للحرب الاقتصادية ضررا غير مباشر، ذلك أن المصانع ومقدمي الخدمات دائما ما يطورون منتجاتهم بسبب المنافسة بينهم وبين نظرائهم في دول العالم، وفي حال الحروب الاقتصادية، ينتفي المسبب لهذا التطوير، مما يسبب رداءة المنتجات المتوفرة في الأسواق، وقد يلاحظ ذلك في الدول المعاقبة اقتصادياً بشكل كبير.