فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

الإطاحة... أساليب وأشخاص وموجبات

في مراحل من الزمن الثوري العربي الغابر في مصر والعراق والسودان وسوريا وليبيا والجزائر كنا كصحافيين نسعى لإجراء مقابلات مع وزراء نعزز بها تغطيتنا لأحداث وبالذات تلك التي تكتسب صفة الأزمات الحادة. وكثيراً ما كنا ونحن في الطريق إلى إجراء المقابلات نسمع من راديو السيارة التي تُقلنا نبأ يفيد بأن الوزير تغيَّر. وكثيراً أيضاً نستغرب ذلك لأن الوزير الذي سنقصد مكتبه في الوزارة يكون عاد قبل أربع وعشرين ساعة من جولة أجرى خلالها محادثات ولم يتسنَ له بعد إطلاع الرئيس على النتائج، كما ربما قد يكون مثلنا سمع بنبأ إطاحته وهو في سيارته متجهاً إلى مكتبه.
مناسبة استحضار هذه المستغربات من عملنا كصحافيين خلال عقود عربية مضت، أن الرئيس ترمب فعل الأمر نفسه مع وزير الخارجية ريكس تيلرسون. مباغتة الوزير سواء عن طريق بث نبأ من الإذاعة يفيد بالاستغناء عنه على نحو الأسلوب الثوري العربي الذي أشرنا إليه، أو عن طريق تغريدة من بضع كلمات بالغة الخشونة على نحو ما فعل الرئيس ترمب مع الوزير تيلرسون هي الأمر اللافت وليس أن الرئيس لدواعٍ كثيرة يرتئي إحلال شخص محل آخر في منصب ذي أهمية. أما لماذا هو لافت فلأنه يتسم بإهانة مسؤول كان من الذين يصطفون حول الرجل الأول في مقاعد الصف الأول في القمة وانتهوا في غمضة عين أو تغريدة خشنة في السفح، فضلاً عن أن الرئيس ليس هو شخصياً مَن أحاط صديقه بالإجراء الذي سيتخذه وإنما أوكل إلى أحد موظفي مكتبه إبلاغ الوزير بصيغة تغريدة. وليس واضحاً ما إذا كان هذا تعمَّد القول للوزير الذي يواصل جولة في دول أفريقية بعد جولة مماثلة قام بها رئيس فرنسا ماكرون رفع شعاراً وهدفاً لها «أفريقيا ليست قارة ضائعة»: اقطع جولتك وعُد إلى واشنطن.
وفي حالة تيلرسون مسألة مهمة ذلك أن الرجل من الذين اصطفاهم ترمب بعدما بات رئيساً للبلاد وفي تقديره كرجل أعمال بارز أن الشخص الذي يرتاح إلى إمساكه بوزارة الخارجية هو الذي من النسيج نفسه وبذلك لا تحدُث ارتباكات في الرؤية السياسية للدولة. وكان اختياره أصلاً كونه من أهل النفط رئيساً لإحدى الشركات وليس دبلوماسياً ولا حتى خاض تجربة العمل السياسي من قبل.
لا الاختيار كان طبيعياً بدليل أن التحفظات على إدارة تيلرسون للخارجية تراكمت إلى درجة أنها باتت تتقاطع مع إدارة رئيس الدولة. ولا إنهاء الخدمة كان لائقاً. وهو ربما فعل ذلك على أساس أن ما بين الاثنين علاقة صداقة وبالتالي فإن الأقل شأناً يتقبل برحابة صدر مشيئة الأعلى شأناً.
وما يلفت الانتباه أن الاستغناء عن تيلرسون رمز دبلوماسية السنة الأولى من إدارة ترمب، يحدث فيما الرئيس يتأهب للقاء قمة من المتوقع إتمامه في مايو (أيار) المقبل مع الزعيم الكوري الشمالي الذي تبادل معه على مدى خمسة أشهر مضت من التهديدات وتعابير الاستهانة ما أحدث انطباعاً بأن المواجهة بين أحد صغار الشأن النووي الباليستي وكبير الدولة النووية العظمى يمكن حدوثها في أي لحظة. ولكن عدم وصول التحديات وتوصيف ترمب «العدو اللدود» كيم الثالث بأنه «رجل الصاروخ» ورد حفيد كيم إيل سونغ عليه بالقول «إنك مضطرب عقلياً»، إلى درجة انفجار الأزمة، يعود إلى أن دبلوماسية تيلرسون أفادت على الأقل ومن خلال تحفظاته وتردده، في إبقاء عود الكبريت بعيداً عن بقعة النفط فلا تشتعل الحرائق، كما أفادت في أن العلاقة الأميركية – الروسية بقيت دون نقطة الانفجار... حتى إشعار آخر. ويبدو أن مرونة المتردد تيلرسون لن تكون واردة بعدما جيء بمَن يترأس الخارجية بعقلية تلتقي في بعض أصولها بعقلية الرئيس بوتين حيث كلاهما يأتي إلى الموقع المتقدم من تجربة العمل المخابراتي.
ما يعنينا كعرب أن التغيير الصاعق لوزير الخارجية تيلرسون حصل في وقت تعيش المنطقة وضعاً لا بد من حسْمه إيرانياً فتنحسم بالتالي بقية الحلقات فلسطينياً وسورياً ويمنياً ولبنانياً. ومنذ بضعة أسابيع يتزايد الكلام الأميركي – البريطاني - الفرنسي حول الموضوع السوري وكيف أن هذه الأطراف باتت ترى ضرورة عدم تتويج فلاديمير بوتين زعيماً أوحد على سوريا التي تقطر دماً وإيران التي تحاول معالجة إخفاقاتها وتحرشاتها وتزايُد الضجر الشعبي من الأحوال العامة التي تعيشها البلاد، بالتهديد الذي وصل إلى نقطة الخطر فيها وعليها.
وخلاصة القول إن تيلرسون أراح بقدْر ما ارتاح وإنه لن يكون طرفاً في حالة جحيمية قد نعيش فصولها على الأرض العربية وذلك في ضوء استهداف الإدارة الأميركية والحكومة البريطانية بمساندة أوروبية – عربية معلَنة ورضى صيني مستتر لجنوح الرئيس بوتين متجاوزاً حدوده جغرافياً وعلى نحو شريكه النظام الإيراني. وكلاهما يتطلعان إلى تقاسم المنطقة.
ويبقى ونحن نتأمل في إقالة الوزير تيلرسون التي هي أحدث حالات الإطاحة وستبقى حتى حدوث أُخرى «أم الإطاحات» نستحضر من الزمن العربي العباسي تلك الإطاحة من جانب الخليفة لأحد الولاة بست كلمات (أشبه بتغريدات الزمن الذي نعيشه) وهي «أيها الوالي (قُم)... قد عزلناك فقُم». وهذه الخشونة في الإطاحة كما خشونة الإطاحة بالوزير تيلرسون تندرج ما دمنا نعقد مقارنات مع الزمن العربي الغابر بخشونة معاوية في موجبات الإطاحة المباغتة أو العزل على حين غِرة الذي عبَّر عنها أو دسْترها بعبارة «نحن الزمان مَن رفْعناه ارتفع ومَن وضعناه اتَّضع» (أي خضع).
وهذه هي أقدار المناصب الكبرى. مِن السفح إلى القمة صعوداً ثم إعادة إلى السفح والبقاء فيه إلى ما شاء الله.