أحمد محمود عجاج
TT

انتخابات لبنان ومأزق الاستقلال الجديد

أعلن مثقفون بزعامة فارس سعيد ورضوان السيد مبادرة وطنية هدفها استعادة الاستقلال اللبناني الحقيقي؛ العنوان العريض للمبادرة يدل، بمفهوم المخالفة، على أن الاستقلال قد ضاع، أو في طور الضياع. لكن السؤال: هل بالفعل ضاع الاستقلال؟
يركز أصحاب المبادرة على أن الفاعل في السياسة اللبنانية هو «حزب الله»، وأنه تمكن بقوة السلاح من فرض إرادته، وبفضل هذه القوة الزائدة تمكن من إخضاع السياسيين إلى مشروعه، وكان من ثمار هذا الإخضاع قانون الانتخاب النسبي التفضيلي الذي سيسمح، حسب قول أصحاب المبادرة، بتشريع سلاح «حزب الله»، ويؤمن هيمنته الدستورية على الوطن. هذه الهيمنة الدستورية مع رديفها العسكري ستحول لبنان عمليا إلى «دولة حزب الله»! لا شك أن «حزب الله» تمكن بالمناورة، واستطاع بالحنكة، وبظروف إقليمية ودولية، من تجريد معارضيه من حيثيات المعارضة، وكذلك جرهم مرغمين إلى ملعبه تحت شعار حماية البلد، والاستقرار، وكذلك الاستقلال! ولنعترف أن «حزب الله» كان الأقدر على فهم تداخلات السياسة الداخلية وتعقيدات الخارج، ولذلك تمكن من القفز فوق مطباتها، فخرج منها سالماً داخلياً، وها هو ذا يبدو أنه سيخرج سالماً من تداعياتها الخارجية وبالتحديد في سوريا.
مقابل هذا النهج المدروس لـ«حزب الله» نرى نهج المعارضة، الذي يمثل 14 آذار، بأن الظروف الإقليمية والدولية، وقدرة «حزب الله» العسكرية الداخلية، تحتم عليها التنازل من أجل حماية البلد، واستقراره، مع أن المعارضة كانت تقارع «حزب الله» على مدار السنوات الماضية منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري تحت شعار استعادة الاستقلال وحماية البلد؛ لكن المعارضة، لم تقل لجمهورها: لماذا عزفت عن مقارعة الحزب؟ وما هي التغيرات التي جعلتها تنكفئ؟ أو كيف ستنقذ البلد ما دام أن سياستها تمكن «حزب الله»، من التفرد بالقرار السياسي والدستوري! الرد الوحيد هو أن المعارضة تحاول إنقاذ البلد، وأن «حزب الله» «لم يستخدم سلاحه في الداخل، وأن سلاح الحزب هو قوة للبنان»؛ هذا الرد بذاته تجسيد حقيقي للقبول الطوعي أو القسري بلبنان الذي يريده «حزب الله».
توجد قناعتان لدى تيار المعارضة في لبنان؛ التيار الاستقلالي الصرف (المبادرة الوطنية)، يرفض هيمنة «حزب الله» مهما كانت النتائج، وتيار الاعتدال يقبل بهذا الوضع ريثما تحدث انفراجة إقليمية أو دولية؛ وبهذا الاختيار أخرجت المعارضة نفسها من مواجهة «حزب الله»، وأعطته مطلبه الأوحد: القبول به شريكا وازنا في المعادلة الداخلية، وفريقا مستقلا، في السياسة الخارجية، عن الدولة، له سياساته الإقليمية وحساباته الخارجية! هذا الرضا من المعارضة المعتدلة يشكل شرخاً كبيراً للاستقلال، ودافعا قويا لولادة «المبادرة الوطنية» لإنقاذ الاستقلال، وبالطرق السلمية، وتحشيد الرأي العام.
كتب أحد مؤسسي تيار «المبادرة الوطنية» رضوان السيد مؤخراً عن أزمة الاستقلال والفساد في لبنان، فقال إنه بسبب قانون الانتخاب، وتعثر الأداء النيابي والسياسي، سيكون فريق 14 آذار أكبر الخاسرين.
إزاء هذه القتامة السياسية جاء اقتراح المبادرة الوطنية التي ترى أنه رغم فداحة المشهد السياسي، واختلاله، لا بد «من فتح منفذ في الحائط الشاهق، وذلك من طريق تحالفات بين القوى السياسية المعارضة للتسوية ونشطاء المجتمع المدني والقوى المحلية التي تعرضت للإفقار والتهميش» على أمل إيصال البعض إلى الندوة البرلمانية. ولعل رد فعل القوى المعارضة للمبادرة يؤكد مدى استشعارها لهذا الخط الاستقلالي الوليد.
قد يسأل سائل: ماذا بوسع بضعة نواب معارضين أن يفعلوا في البرلمان؟ الرد أن وصول معارضين للتسوية هو بذاته صفعة للمراهنين على عقم الشارع، وغباء الناخب، وأن تأثير وصولهم سيكون مثل كرة ثلج كلما تدحرجت ازداد حجمها ووزنها في المشهد السياسي؛ كما أن وصولهم يمثل خرقاً لمسلمات سياسية بأنه لا يمكن الوقوف أمام المحادل الانتخابية وسيمثلون انتصار الإرادة الشعبية رغم التخذيل والتخويف. كما أن وصولهم سيردف المنادين بالاستقلال الحقيقي بصوت برلماني يدافع وينافح عنهم داخليا، وخارجيا. إن الانتخابات البرلمانية القادمة لن تكون انتخابات عادية، لأنها انتخابات قد تكرس شرعية السلاح، وقد تقود إلى تصادم الأجندات الإقليمية والدولية، وتكرس أيضا أزمة الاستقلال.
كل الدول تمر بمراحل صعبة، ولبنان يمر بأصعبها ويحتاج من الذين يؤمنون باستقلاله، ومستقبله، ألا يأخذوا دور المتفرج، بل عليهم، كما يقول الفيلسوف اللبناني الأصل نسيم طالب في كتابه الجديد «Skin in the Game»، أن من لا يخاطر لا يستحق أن ينال ما يطلبه، عليهم النزول إلى ميدان العمل السياسي والكفاح، لينالوا ما يستحقونه، وألا يثنيهم التشاؤم، لأن الثابت في تاريخ الإنسان أنه كلما اشتد التشاؤم ازداد الأمل، وبالأمل ينبلج استقلال جديد.