محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

إذا عرف السبب بطل العجب!

قد يعجب البعض كيف يقوم نظام في بداية القرن الحادي والعشرين بإبادة شعب يدعي أنه ينتمي إليه، كما يفعل اليوم نظام بشار الأسد في الغوطة وفي غيرها، صامّاً أذنيه عن النداءات الكثيرة التي تطالب بوقف هذا النزيف البشري، بل ما زال هذا النظام يستخدم (أشكالاً من السلاح ذي التدمير الشامل) أمام أعين العالم! الضحايا في سوريا بلغوا حتى الآن مئات من البشر، رجالاً ونساء وأطفالاً، وما زالت آلة القتل الجهنمية توغل في البشر! الافتراض الرئيسي أن هذا النظام لم كان ليستطيع أن يفعل فعله إلا لسببين؛ الأول هو وقوف النظام الروسي والإيراني خلف تلك الآلة الجهنمية، تحت ذرائع لم يعد عقل سوي يصدقها، والثاني الصمت من الدول الكبرى الأخرى، التي تتحدث كثيراً عن هذه المجازر ولكنها لا تفعل شيئاً على الأرض. العلة الأساسية تكمن في كل من موسكو وطهران! تاريخ الروس أمام مخالفيهم تاريخ مليء بالوحشية، فالدب الروسي قد قتل الملايين إبان سنوات القرن العشرين، وهو اليوم في سوريا يجلب أكثر أسلحته فتكاً. جزء من هذا الموقف الروسي أنه يريد أن يثأر لهزيمته (السوفيات) في أفغانستان، وكانت بالنسبة له هزيمة نكراء، فهو بذلك يثأر من كل أولئك الذين تسببوا في الهزيمة، وأنها لم تكن بسبب ضعف في الآلة السوفياتية بل تقصير من الحكام وقتها الهرمين وغير القادرين على مواجهة الغرب، كما أن الجزء الأخير هو تحقيق الحلم القديم للسلطات الروسية، أياً كان العَلم الذي تستظل به، وهو الوصول للمياه الدافئة، تلك هي الأهداف الروسية في الاشتراك في الحرب السورية. أما الأهداف الإيرانية فتتمحور حول (فكرة واحدة) تتفرع منها كل الأفكار التي تدفع بإيران إلى الاشتراك في إبادة الشعب السوري هي في جملتها (المحافظة على حكم رجال الدين)، فالثورة الإيرانية قد تكون مثلها مثل قرن الفلفل، قد يستطيبه البعض في الفم ولكنه يمثل فتكاً بالمعدة! حكم رجال الدين في إيران واستمراره يمثل الهاجس الأوحد لكل تصرف إيراني، كبر هذا التصرف أو صغر، لذلك فإن إبقاء الحكم الحالي في سوريا، بالنسبة لإيران، هو كمثل الحفاظ على النظام في طهران.
قصة رجال الدين والسياسة في إيران قصة قديمة، كما أن قصة استخدام (الإرهاب) من قبل النظام الإيراني ليست أقل قدماً.
في أول ثورة إيرانية في القرن العشرين ضد حكم القاجار وقتها (1906 - 1911) كان لرجال الدين موقف مضاد لما أراده الشعب، وقام الشعب الإيراني وقتها بإعدام فضل الله نوري، رجل الدين الأهم في ذلك الوقت، لأنه انحاز للحكم الملكي القاجاري! وتجدد الأمر (1950 - 1953) فيما عرف بإصلاحات محمد مصدق، الذي دخل في صراع على المصالح النفطية الغربية، وكان يرغب في إقامة حكم (ديمقراطي) في إيران، تدخلت مؤسسات سرية غربية لإفشال مخطط محمد مصدق، ولم تكن قدرتهم على مواجهة إصلاحات مصدق قادرة على إيقاف المسيرة، فهرب الشاه محمد رضا إلى خارج إيران (روما) ولكن من أعاد الشاه ووقف حجر عثرة أمام إصلاحات مصدق لم يكن غير رجال الدين، الذين هيجوا الشارع وقتها بأن مصدق سوف يسلم الحكم إلى الشيوعيين، كان على رأس رجال الدين الذين حرضوا ضد مصدق آية الله حسين بروجردي وعدد من أتباعه الذين حرضوا الشارع الإيراني ضد الإصلاحات، جزئياً، لكونهم محافظين تقليديين، وجزئياً، بسبب ملكية عدد من كبارهم الأراضي الزراعية المنتجة، التي اعتقدوا أن مصدق سوف يؤممها كما فعل مع النفط! القمع الذي يتبناه رجال الدين في إيران، هو الشيء الطبيعي الذي يمارسونه ضد الشعب السوري، فهم والحق يقال منسجمون مع أنفسهم، فأي شيء وأي وسيلة تبقي نظام طهران الكهنوتي في السلطة هي وسيلة مشروعة، فيبدو أن إبادة الشعب السوري تنسجم مع ذلك المعطى التبريري. بعد وصول الخميني إلى الحكم يمكن للمتابع أن يشير إلى عدد طويل من الأفعال التي قام بها النظام الإيراني والتي تقع في إطار (الإرهاب)، فإنشاء الحرس الثوري ومن بعده فيلق القدس، كما احتضان ميليشيات في العراق وسوريا واليمن وغيرها من البلدان، هو الخط الذي رسمه دستور الجمهورية الإسلامية الذي صدق عليه في بداية عام 1980؛ حيث قال ما نصه: «واجب الجمهورية الإسلامية الدفاع عن كل المسلمين بمن فيهم من هم في الخارج، ومناصرة المستضعفين في كل بلاد العالم»، ثم يغطي ذلك النص الصريح والواضح بعبارات ملتبسة وغامضة (مع الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للشعوب الأخرى). من يمعن في نصوص ذلك الدستور يستطع أن يلحظ بسهولة ذلك التناقض بين نصوصه، التي تسمح لأي قوة في طهران أن تفسر تلك النصوص كما يحلو لها. فشل آية الله حسين بروجردي في الحصول من الشاه محمد رضا بعد عودته إلى الحكم، ما يناسب تضحيات الملالي، كان الدرس الأعمق لدى الخميني، فقرر أن الزخم الشعبي الذي كان معاديا للشاه، يجب أن يوظف نهائياً للحكم الديني أو حكم رجال الدين، فإنشاء ذراع ضاربة، هي «الحرس الثوري» الذي وظف لقمع أي تحرك مضاد للثورة في سنواتها الأولى، وكان عبارة في أوله عن (لجان) (كوميتية) على الطريقة الماركسية (أقصد التنظيم والتسمية) ثم تحول الخميني للتخلص من الطيف الليبرالي الساذج، الذي اعتقد أن ذلك سوف يقود إيران إلى الإصلاح، من مهدي بازركان إلى أبو الحسن بني صدر مروراً بمحمد علي رجائي حتى وصلت إلى أن تبقى (إيران) حكراً على أهل (العمائم)! في هذه الأثناء تم إنشاء فيلق القدس (التسمية ملتبسة، إذ هي تأخذ من مدينة القدس الاسم للتضليل) وضمه إلى المجموعات الإرهابية التي قتلت في بيروت أكثر من ثلاثمائة جندي، بجانب اختطاف عدد من الغربيين في بيروت، ثم تفجيرات باريس، من أجل الضغط لإطلاق سراح بعض السجناء، إلى اغتيال عبد الرحمن قاسملو في فيينا، وكان أحد المعارضين الأكراد الإيرانيين، عام 1989، إلى اغتيال شابور بختيار عام 1991 في باريس، إلى قتل ثلاثة معارضين أكراد في برلين 1992، إلى تفجيرات بوينس آيرس ودلهي وبانكوك وصولاً إلى تفجير الخبر شرق المملكة العربية السعودية عام 1996. الخرافة الإيرانية إذن في مناصرة المستضعفين! آن لها أن تُكشف، وما تقوم به إيران في سوريا اليوم مثل ما تقوم به روسيا، دفاعا عن مصالح لها تراها غير قابلة للتحقق دون إبادة الشعب السوري، وربما إبادة الشعب اليمني، والعراقي، فشهوة السلطة لرجال الدين في إيران الذين ركبوا حكماً ظلامياً سوف تقود - إن أمكن - إلى إبادة الشعوب الإيرانية. فإذا عرف السبب بطل العجب!