سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

سادات فلسطين

تأبى نيكي هيلي، مندوبة الولايات المتحدة لدى منظمة الأمم المتحدة، في نيويورك، إلا أن تعيدنا في كل مرة تخاطب فيها العالم من موقعها، إلى وقت أن كان يجلس في مكانها رجل اسمه جون بولتون، ليمثل إدارة بوش الابن في المنظمة ذاتها.
تأبى هي إلا أن تفعل ذلك، رغم أنها بالتأكيد تعرف أن بولتون كان في مكانها، ذات يوم، وتعرف أنه كان يرى ويعلن أن إزالة 10 طوابق من 38 طابقاً، تمتلئ بمكاتب الأمم المتحدة في مقرها الرئيسي، لن يغير من واقع الحال شيئاً، ولا من بنيان هذه المنظمة الدولية الكبرى في شيء.
وهي تعرف قطعاً كذلك أن الممثل الأسبق لبلادها، في المكان الذي تجلس فيه، لم يكن يقصد بالطبع «إزالة» بمعناها المادي للطوابق العشرة، ولكنه كان بعبارته التي ذاعت عنه، يُظهر عدم اعتبار للأمم المتحدة، وكان وهو يردد عبارته ينقل بالضرورة إلى العالم رؤية إدارة بلاده الحاكمة في تلك الأيام... لا رؤية شخصية على مستواه.
وليس من المُجدي، الآن، الخوض في شكل أداء السيدة هيلي، بصفتها ممثلة لإدارة ترمب، وقت عرض قرار الرئيس الأميركي الخاص بالقدس، على الدول الأعضاء في المنظمة، سواء في الجمعية العامة، أو في مجلس الأمن، فلقد رأينا جميعاً، وسمعنا، وتابعنا، وكنا في كل الحالات نرى حجم اللامبالاة منها، أو بالأدق من إدارة بلادها، إزاء موقف غالبية من الدول أيدت وقت عرض القرار عليها، ولا تزال تؤيد، حق الفلسطينيين، ليس فقط في أن تقوم لهم دولة على أرضهم المحتلة، وإنما حقهم أيضاً في أن تظل القدس الشرقية عاصمة لهذه الدولة الفلسطينية حين تقوم، اليوم، أو غداً.
وقد وقفت الغالبية من الدول ضد قرار ترمب في الحالتين؛ حالة عرضه على مجلس الأمن، وحالة عرضه على الجمعية العامة.
وبمثل ما رأت المندوبة هيلي في موقف تلك الغالبية من الدول، خصوصاً في حالة مجلس الأمن، «إهانة لا تُنسى» لبلدها، عادت من جديد إلى ترديد النغمة نفسها، عندما تحدثت أمام إحدى جلسات المجلس، قبل أسبوع، ورأت في موقف الرئيس الفلسطيني محمود عباس، إهانة للرئيس ترمب!
وكأن التعبير عن رفض الموقف الأميركي المنحاز إلى إسرائيل، أصبح تُهمة، وبالإجمال إهانة لرئيس الولايات المتحدة! أو كأن المطلوب من الجميع عدم الاعتراض على القرار، وعدم الإعلان عن رفضه، حتى لا تتم ملاحقتهم بهذه التهمة العجيبة التي تُطلقها هيلي!
ولا بد أن هذه من المرات النادرة، التي سيسجل عنها التاريخ، فيما بعد، أن استخدام الرئيس الفلسطيني حقه في رفض موقف إدارة الرئيس الأميركي غير المسبوق، من قضية جوهرية مثل القدس، قد جرى النظر إليه على أنه إهانة لساكن البيت الأبيض.
وهي تعود أمام الجلسة نفسها لتنعى على عباس تمسكه بموقفه، وتراه غير قادر على التحلي بالشجاعة الواجبة، على نحو ما كان السادات شجاعاً.
إنها باختصار تبحث عن «سادات» آخر في فلسطين. وتراه، لو ظهر، قادراً على أن يأخذ خطوات شجاعة في اتجاه الحل، وفي اتجاه القفز فوق الماضي والتطلع نحو المستقبل، فالجانب الإسرائيلي حين أحس بهذا، من السادات، في أواخر سبعينات القرن الماضي، فإنه في تقديرها قد أقدم على تقديم تنازلات مؤلمة، أرغمته عليها شجاعة الرجل الذي بادر بالذهاب إليه.
والقصة هكذا تمتلئ بالمغالطات.
أما أول مغالطة، فهي تصوير الجانب الفلسطيني على أنه المسؤول عن تأخر التسوية في القضية، وهذا غير صحيح بالمرة؛ لأن عباس لا يظهر في أي مناسبة، إلا ويعرض السلام في مقابل الأرض، وهذا بالضبط ما كان السادات قد ذهب يعرضه على الإسرائيليين في الكنيست، مع فارق لا يجوز أن يفوتنا؛ هو أن السادات عرض السلام في مقابل أرضه كلها، لا تنقص شبراً، بل وأرض العرب المحتلة معها، بينما يعرض عباس، السلام، صادقاً، في مقابل 22 في المائة من أرضه؛ أي أقل من ثلثها. ومع ذلك، فالأمر لا يخلو، كما نرى، من تأنيب يتلقاه من السيدة هيلي، ولا من إعراض إسرائيلي، قبل هيلي، عما يعرضه ويقدمه.
والمغالطة الثانية أنها تُصور نزول إسرائيل عن سيناء، في وقت السادات، تنازلاً، وهذا بدوره غير صحيح، لأن قبول الحكومة الإسرائيلية بإعادة ما تبقى من الأراضي المصرية، فيما بعد انتصار أكتوبر 1973، لم يكن تنازلاً منها، بقدر ما كان إقراراً بأن للأرض أصحاباً، وأنها لا بد من أن ترجع إليهم.
ولا تختلف الحال بالنسبة للأراضي الفلسطينية التي لا تزال محتلة، عن الأراضي المصرية التي كانت محتلة، ثم عادت بالحرب مرة، وبالسلام مرة أخرى.
والثالثة هي كلامها عن أن بلادها لا تزال مستعدة لرعاية مفاوضات سلام بين الجانبين. أما وجه المغالطة هنا، فهو أن الذي يرعى سلاماً بين متنازعين اثنين، لا ينحاز إلى أي منهما علناً، ثم يتكلم عن رعاية، أو عن استعداد منه لها، أو عن جاهزيته للإتيان بالطرفين على طاولته... فكيف تمارس الولايات المتحدة دور الراعي، وكيف تدعو طرفي القضية، أو بالأدق طرفها الفلسطيني تحديداً، وهي ابتداءً قررت أن القدس للطرف الآخر؟!
إن عملية السلام التي لا بديل عن السير فيها إلى نهايتها، إذا كانت أقرب إلى رقصة «التانغو»، فلا بد لها من طرفين يؤديان معاً، بحيث يكمل أداء كل طرف منهما ما يقوم به الآخر، من أجل الهدف ذاته، ولا يمكن لراقص واحد أن يؤديها بمفرده، وإنْ حاول وحاول، لأنها ستظل ينقصها شيء. وليس من الواضح أن الطرف الإسرائيلي يريد أن يرقص رقصة السلام.
وإذا كانت الولايات المتحدة تفتش عن «سادات» في فلسطين، فهو بالتأكيد موجود، ولكن المشكلة أنه في حاجة إلى وجود شبيه مناحم بيغن في تل أبيب، وفي حاجة إلى وجود شبيه جيمي كارتر في واشنطن.
وليس من الظاهر أنهما موجودان، وإلا؛ فإن وجودهما في حاجة هو الآخر إلى دليل يشير إليه بأطول بنان.