أيام «الشرق الأوسط» في مهرجان «صندانس» السينمائي (4): «عن الآباء والأبناء» فيلم سوري يفوز بجائزة صندانس السينمائي

يتحدث عن دمار الأنفس لعائلة أنضم عائلها لجماعات متطرفة

TT

أيام «الشرق الأوسط» في مهرجان «صندانس» السينمائي (4): «عن الآباء والأبناء» فيلم سوري يفوز بجائزة صندانس السينمائي

في الوقت الذي يندرج فيه فيلم «آخر رجال حلب» لفارس فياض، في سباق أوسكار أفضل فيلم تسجيلي مع احتمالات كبيرة بفوزه (أو لا تقل حجماً عن احتمالات فوز الفيلم الفرنسي «وجوه أماكن» لأغنيس فاردا)، يخرج فيلم تسجيلي سوري آخر بجائزة «أفضل فيلم تسجيلي» من مهرجان «صندانس» السينمائي في دورته الجديدة التي انتهت مساء أول من أمس (السبت).
الفيلم هو «عن الآباء والأبناء» لطلال دركي الذي نال جائزة مماثلة سنة 2014، عن فيلمه السابق «العودة إلى حمص»، ذلك الذي راقب فيه دمار مدينة شهدت ويلات الحرب الدائرة.
لكن «عن الآباء والأبناء» يختلف في أنّه ليس عن دمار مدينة بل عن دمار أنفس. ينتقل المخرج هذه المرّة إلى مدينة إدلب ويدخل صرح عائلات سورية تشهد نتائج تلك الحرب. لكن عوض أن يعرض لكل النتائج مع لفيف من النماذج، يرصد، على نحو محدد، عائلة انضم ربها إلى أحد الفصائل المتطرفة (النصرة)، وما لبث أن تطوع صغاره للفعل نفسه. يدّعي المخرج أنّه صحافي مؤيد للمتشددين ويتعرف على رجل يكنى أبو أسامة وكيف يدير شؤون حياتيه العسكرية والعائلية. والحقيقة أنّهما متلاصقتان لدرجة تثير لدى المتلقي دائرة بانورامية كاملة لا تعرف أين تبدأ إحداهما وأين تنتهي، فالرجل يلقي دروسه على أولاده (أكبرهم في الـ13 من العمر)، كما يلقيها على أتباعه من المحاربين.
الفيلم أبعد ما يكون عرضاً حيادياً للجماعات المتشددة (لو كان لما ربح جائزته)، ولا يتبنى منوالهم (وإلا لما قُبل اشتراكه في المهرجان على الأرجح)، لكنّه في الوقت ذاته لا يتعاطى والنظام. ما يهدف إليه ويشكل لبنته الأساسية هو النظر ملياً إلى وضع غير إنساني بعين إنسانية. ليس على مسافة بعيدة أو آمنة، بل على نحو تفصيلي مقرّب. يستمع المخرج إلى الأولاد حيناً وإلى الأب حيناً آخر. ينقل أفكارهم حول الحياة على الأرض وما بعدها. لا يناقش ولا يعارض، لكنّه يكوّم تلك الأفكار، ومعها بعض المشاهد المفجعة في معانيها، ليضعها أمام المشاهد لعله الآن يعرف أكثر ممّا تكتفي النشرات الإخبارية عرضه على الشاشات الصغيرة.

- الدورة رقم...
فوز «عن الآباء والأبناء» بالجائزة الأولى في مسابقة «وورلد دوكيومنتري»، في نهاية الدورة فتح عيناً على مهرجان يلعب أدواره السياسية ضمن توليفة طبيعية في بيئتها. صحيح أنّ المهرجان ذاته خلا من مواقف سياسية معلنة (في العام الماضي كال الخطباء في ليلة النتائج لدونالد ترمب وسياسته)، لكنّ عدداً من أفلامه، كهذا الفيلم، بحث في شؤون مهمّة تحيط بنا قام المهرجان بنقلها للعيان. وهي ليست المرّة الأولى. دورات المهرجان منذ إنشائه، كثيراً ما عرضت ذلك النحو من الأفلام المستقلة التي تفكر خارج الخط وبعيداً عن التقليد.
لكن أي دورة هي هذه الدورة؟ يعتمد ذلك على كيف تحسب عدد سنواته.
بسؤال أحد الإداريين عن السبب الذي لا يعلن مهرجان «صندانس» عن دوراته في ملصقاته أو في عناوينه ونشراته المختلفة، قيل للسائل إنّ هناك تاريخين للمهرجان ولا يود المهرجان أن يُلغي أحدهما. عند هذا الجواب بدأ البحث عمّا يعنيه ذلك فتبدى تلقائياً: المهرجان أسس للمرة الأولى سنة 1978، لكنّه لم يعرف باسم «صندانس» بل باسم «يوتا/ يو إس» (نسبة للولاية) ولم تكن للممثل والمخرج روبرت ردفورد علاقة مباشرة به، بل كان نتيجة الرغبة في ترويج ولاية يوتا مكاناً صالحاً لتصوير الأفلام. في عام 1984 قام روبرت ردفورد بإدارته وتحويله إلى المهرجان الأكبر والأفضل الذي ما زال قائماً حتى الآن. لذلك إذا اعتبرنا عمر المهرجان بدأ سنة 1984، فإنّ هذه الدورة تحمل الرقم 34. أمّا إذا لم نشأ إغباط حق السنوات السابقة، فالمهرجان أكمل 40 سنة على تأسيسه.
مهما يكن، فإن الدورة الحالية بإعلان جوائز شملت 28 فيلماً، برهنت على أنّ المهرجان لا يزال في عمر الشباب فعلاً. الحضور كان حافلاً ولو أنّ معظم الموجودين فيه كانوا من ذوي الأسماء الشابة والشخصيات غير المعروفة، والعروض شملت 123 فيلماً طويلاً و69 فيلماً قصيراً انتُخبت من بين رقم مهول هو 13468 فيلماً، ما يجعل المرء يتساءل عمّا قد تكون عليه الأفلام الأخرى التي لم يجرَ انتخابها وأين يمكن لها أن تتوجه بعد ذلك.
- بحر من الأفلام
على أنّ حقيقة وجود كم كبير من الأسماء الجديدة في عالم السينما لا يعني أن المهرجان لم يضم هذا العام، ككل عام مضى، بعض الأسماء التي تأسست منذ سنوات بعيدة أو حتى تلك التي ما زالت فاعلة ونشطة في سينما اليوم.
شمل الحضور، على سبيل المثال، نيكولاس كايج، وإيما روبرتس، وواكين فينكس، وإيثان هوك، وتوم هانكس، وجاك بلاك، وجونا هِل، وجين فوندا من بين آخرين. طبيعة المدينة ومقراتها المشاركة في إحياء المهرجان لا تشبه طبيعة مدينة كان أو برلين أو فينيسيا، ولا قاعات العروض الرئيسية هي ذاتها في تلك المهرجانات. هي قاعات مزوّدة بأفضل صوت وأفضل صورة، لكنّ ذلك البساط الأحمر أقل طولاً وتصرفات السائرين عليه أقل استعراضاً. هناك مصوّرون لكنّهم حفنة بالمقارنة مع الذين يصطفون على جانبي السلم الطويل في قصر المهرجانات في «كان». هناك جمهور كبير يقف بانتظار نجمه المفضل، لكن لا أحد يحضر معه كرسياً أو سلماً لينتظر فوقه قبل ساعات من موعد وصول «النجم» كما الحال في «فينيسيا» و«كان».
وفي حين أنّ «كان» و«فينيسيا» يتمتعان بطقس معتدل على الرغم من احتمالات المطر، فإن «صندانس» يلتقي و«برلين» (الذي تبدأ دورته الجديدة بعد أقل من 20 يوماً)، في أنّه يحب البرد ويلوذ به. «صندانس» الأول كان يقام في عز الصيف في أغسطس (آب) و«برلين» كان يقام في الربيع يونيو (حزيران)، وكلاهما قرّر الانتقال إلى موسم الشتاء على أساس أنّ كل ما يحتاجه المرء للتدفئة في أيام البرد هو فيلم جيد.
على كل ذلك، فإنّ أياً من هذه المهرجانات، وأياً من مهرجانات العالم كافة، معرض لتفاوت في نسبة الأعمال الجيدة من عام لآخر. وما غاص فيه «صندانس» هذه السنة، هو سيل من الأفلام الطموحة التي لم ينجز كثير منها ما يطمح إليه. وهذا يشمل الفيلم البريطاني «ماتانغي/ مايا» حول مغنية الراب الإنجليزية المعروفة بأحرف M.I.A: بيوغرافي يشمل حقباً مختلفة من حياتها في الهند، قبل أن تتحوّل إلى أيقونة معروفة بين هواة موسيقى «الراب»، وفيلم برت هايلي «القلوب تدق بصوت عالٍ» حول رب عائلة يتمنى لو ابنته الشابة تنضم إلى فرقته الغنائية و«أرنب أبيض» حول الكاتبة والممثلة الكوميدية فيفيان بانغ، من بين أخرى كثيرة.
هذه الأمثلة المذكورة ليست سوى جزء بسيط من بحر من الأفلام التي دارت حول المرأة سواء في سير ذاتية تسجيلية أو روائية أو خلال حكايات خيالية أُلّفت مباشرة للشاشة حتى لتكاد كثرة هذه الأعمال تمنح المهرجان صفة نسائية بحتة. بعض المراقبين هنا يعتبرون أنّ كثرة الأفلام التي تتناول المرأة (لجانب الأفلام التي أخرجتها نساء) هي ما أنقذ دورة هذه السنة من دورات المهرجان على أساس أنّها كانت الميزة الوحيدة له، وفي الوقت الذي خلت فيه السوق من صفقات كبيرة تطغى بأخبارها على برامج العروض ذاتها كما جرت العادة في السنوات السابقة.
- حياة مراهقة
أحد هذه الأفلام «النسائية» هو «تَلي» (Tully)، اسم مربية أطفال تدق ذات ليلة باب بيت المرأة التي آل إليها الاهتمام بـ3 أولاد بينهم طفل رضيع. في البداية نتعرف على الأم (تشارليز ثيرون)، وهي تستعد لاستقبال وليدها الجديد الذي يحضر ومعه كل ذلك الهم الإضافي المعتاد. تنظيفه وإطعامه والاستيقاظ من النوم باكياً. إنها امرأة متزوجة، لكن عليها حمل هذه الأعباء بطبيعة الحال لذلك يأتي وصول تَلي (ماكنزي ديفيز) التي تم استئجار خدماتها لمساعدة الأم. هنا ينطلق الفيلم الذي أخرجه جاسون رايتمان وكتبته ديابلو كودي (اشتغلا معاً على «جونو» و«راشدون شبان» من قبل) في سبر غور ما يبدو أنّه دعوة مبطنة لحياة بلا رجل (أقرب لنهاية «أحلام هند وكاميليا» لمحمد خان أو لفيلم رومان بولانسكي الأخير «مؤسس على قصة حقيقية»، إنّما من دون جودة الأول وترفيه الثاني)، أو لقراءة ما هو أبعد من ذلك. لكن الفيلم ينتهي من تأسيس الوضع الماثل بعد نحو نصف ساعة ويكمل من دون بنزين كافٍ لساعته التالية.
هناك تمثيل لا بأس به هنا، لكنّ هذا لم يعد فعلاً مميزاً في مثل هذه الأفلام ونرى مثيله في «رجاءً الانتظار» (Please Stand By) للمخرج الجديد بن ليفِن الذي تقوم داكوتا فانينغ ببطولته ببراعة قد تضعها في دائرة ترشيحات موسم الجوائز المقبلة في نهاية هذا العام. هي فتاة تعاني من مرض «التوحد» الذي يفسره الفيلم على أساس أنّه السبب فيما تشعر به من غضب حيال كل شيء. في يدها سيناريو تريد الدخول به في إحدى المسابقات ورغبة في إصلاح علاقتها مع شقيقتها التي كانت تركت البيت بسببها. لكنّ الفيلم يقوم على مفارقات تبدأ مسحونة بالانفعال ثم تتحوّل إلى مجرد ذكرى لحدث حُلّ في المشهد اللاحق.
على نحو شبيه يأتي «الليل يغشى» (The Night Comes On) حول حياة مراهقة (دومينيك فيشباك) ليس لديها سوى الاعتماد على نفسها بعدما قتل والدها والدتها وأصبحت مسؤولة عن شقيقتها الصغرى. على الرغم من هذا المنوال الدسم بمعطياته العاطفية فإن المخرجة جوردانا سبيرو (في ثاني فيلم لها بعد The Deuce)، تمنحه ما يحتاجه من بطانة اجتماعية. الفيلم أفضل حالاً من تلك المذكورة قبله، كونه أكثر تشابكاً مع مشكلات الحياة في القاع. ليس أنّه لا يمكن لفيلم يعالج مشكلات الحياة بين الأثرياء (كما في «تَلي») أو بين أبناء الطبقة الوسطى («رجاءً، الانتظار») غير ممكن، بل لأن المحيط الاجتماعي يفرض في «الليل يغشى» حضوراً مؤثراً رغم خفوت إيقاعه في منتصفه وحتى الدقائق العشر قبل نهايته.
- ضد الإصلاح؟
الحال هي أنّ هذه الأفلام جزء من ظاهرة واسعة ربما لم يكن ليتاح لها الظهور بهذا القدر من الوضوح لولا دورة هذا العام. المرأة وحكاياتها كانت بالفعل التميّز الأول بين كل ما يمكن جمعه من ملاحظات حول أفلام هذه الدورة. والفيلم الذي نال جائزة أفضل فيلم درامي أميركي، وعنوانه «التعليم الخاطئ لكاميرون بوست» (بطولة كليو مورتيز وإخراج ديزيريه أكافان) برهان الدورة على ذلك.
بالنسبة للبعض هنا، هو أيضاً اكتشاف مبهر، لكن بالحديث إليهم يتبين أنّ الموضوع هو الذي خطف الاهتمام وليس كيفية معالجته، كونه يتعلق بحياة فتاة شابة لديها ميول مثلية يحاول المجتمع، في أحداث تعود إلى التسعينات، إصلاح شأنها بإدخالها مدرسة خاصة. يبدأ الفيلم بتعريفنا بميول بطلته المبكرة ثم يدخل مرحلة الرغبة في إصلاحها تلك التي - وفي ظل أخلاقيات هذا العصر - تتحوّل هي إلى موضع النقد في فيلم تحاول المخرجة أن تؤكد فيه ضرورة ترك المرء يتوجه في حياته الجنسية حسبما يريد.
ويمكن ملاحظة الفارق الجسيم بين اهتمامات الأفلام الأميركية، هنا كما فيما سبق من نماذج، وما أتت به السينمات العالمية من مواضيع شتّى بداية بالفيلم الذي نال قصب السباق في مسابقة أفضل فيلم روائي عالمي (المقابل للمسابقة الذي منح «التعليم الخاطئ لكاميرون بوست» جائزته)، وهو الفيلم التركي «فراشات» لتولغ كاراشيليك. هناك بساطة ومعالجة تتسع لأكثر من حكاية الفرد الواحد في هذا الفيلم الذي يتحدث عن 3 إخوة عاشوا متفرقين ومتباعدين يعودون لحضور جنازة والدهم، حيث يبدأ كل منهم التعرف على الآخر للمرّة الأولى.
كاراشيليك سبق وحقق «آيفي»، قبل 3 أعوام، الذي عكس فيه دراية وموهبة جيدة. فيلم مدهم بقوّة موضوعه وبنقده المبطن للنظام حول كابتن باخرة شحن في طريقها إلى الإسكندرية، لكن ما لديها من وقود لن يكفي؛ لا لعودتها إلى المرفأ الذي انطلقت منه ولا لوصولها إلى المرفأ المصري الذي تقصده.
جائزة أفضل فيلم تسجيلي أميركي ذهبت إلى «كايلاش». لم تتح لي مشاهدته، لكنّه يدور حول رابح جائزة نوبل كيلاش ساتيارتي الذي أسهم في إنقاذ ورعاية أكثر من 80 ألف طفل من التجارة والرّق والعوز مؤسساً لذلك جمعية ما زالت تحارب في سبيل هذه الغابة.


مقالات ذات صلة

محمد سامي: السينما تحتاج إلى إبهار بصري يُنافس التلفزيون

يوميات الشرق المخرج محمد سامي في جلسة حوارية خلال خامس أيام «البحر الأحمر» (غيتي)

محمد سامي: السينما تحتاج إلى إبهار بصري يُنافس التلفزيون

تعلَّم محمد سامي من الأخطاء وعمل بوعي على تطوير جميع عناصر الإنتاج، من الصورة إلى الكتابة، ما أسهم في تقديم تجربة درامية تلفزيونية قريبة من الشكل السينمائي.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين رئيس في مشهد من فيلم «الفستان الأبيض» (الشركة المنتجة)

لماذا لا تصمد «أفلام المهرجانات» المصرية في دور العرض؟

رغم تباين ردود الفعل النقدية حول عدد من الأفلام التي تشارك في المهرجانات السينمائية، التي تُعلي الجانب الفني على التجاري، فإن غالبيتها لا تصمد في دور العرض.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق الفنانة الأردنية ركين سعد (الشرق الأوسط)

الفنانة الأردنية ركين سعد: السينما السعودية تكشف عن مواهب واعدة

أكدت الفنانة الأردنية ركين سعد أن سيناريو فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو»، الذي عُرض بمهرجان البحر الأحمر السينمائي، استحوذ عليها بمجرد قراءته.

انتصار دردير (جدة )
يوميات الشرق إيني إيدو ترى أنّ السينما توحّد الشعوب (البحر الأحمر)

نجمة «نوليوود» إيني إيدو لـ«الشرق الأوسط»: السينما توحّدنا وفخورة بالانفتاح السعودي

إيني إيدو التي تستعدّ حالياً لتصوير فيلمها الجديد مع طاقم نيجيري بالكامل، تبدو متفائلة حيال مستقبل السينما في بلادها، وهي صناعة تكاد تبلغ الأعوام الـ40.

إيمان الخطاف (جدة)
سينما بدء تصوير فيلم «ساري وأميرة» (كتارا)

إعلان أول فيلم روائي قطري بمهرجان «البحر الأحمر»

يأتي فيلم «سعود وينه؟» بمشاركة طاقم تمثيل قطري بالكامل؛ مما يمزج بين المواهب المحلية وقصة ذات بُعد عالمي.

«الشرق الأوسط» (جدة)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».