الجنود ما عادوا جنوداً... والموت صار تقنية رقمية

عن «أدب الحرب» الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة

الروايات عن  حرب العراق عكست مشاعر الرّعب والقلق عند الجنود الأميركان متجاهلة معاناة الضحايا
الروايات عن حرب العراق عكست مشاعر الرّعب والقلق عند الجنود الأميركان متجاهلة معاناة الضحايا
TT

الجنود ما عادوا جنوداً... والموت صار تقنية رقمية

الروايات عن  حرب العراق عكست مشاعر الرّعب والقلق عند الجنود الأميركان متجاهلة معاناة الضحايا
الروايات عن حرب العراق عكست مشاعر الرّعب والقلق عند الجنود الأميركان متجاهلة معاناة الضحايا

تكمن قيمة الأدب أساساً وقبل كل شيء في قدرته على نقل المشاعر الإنسانية الاستثنائية التي تنتجها تجارب عميقة في مواجهة الموت والحياة والحب والأقدار خارج إطار اليومي والعادي والمألوف. ولطالما كان أدب الحروب في الغرب مساحة رحبة وموضعاً ثرياً لاستكشاف أقصى حدود الخوف الإنساني ومعنى التجربة الوجودية برمتها، لا سيما أن مسرح الحضارة الغربية بمجمله عاش مآسي وحروباً كونية وإقليمية عديدة خلال المائة سنة الأخيرة أُبيدت خلالها أجيال كاملة وأُزيلت مدن برمتها عن وجه المعمورة أو كادت.
لكن هذا اللون الأدبي الخاص في الرواية والشعر والذي عاش عهده الذهبي خلال النصف الأول من القرن العشرين متأثراً بأجواء الحربين العالميتين والحرب الأهلية الإسبانية، يبدو هذه الأيام كأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، فالأعمال الصادرة حديثاً والتي يمكن أن تصنَّف ضمنه -وإن فاز بعضها بجوائز أدبية أو حقق أرقام مبيعات ممتازة– لا ترقى بأي حال إلى مستوى النصوص الكلاسيكية لهذا الأدب، وتكتفي بمناوشات سيكولوجية فردية تقصر عن نقل عمق التجربة المفترضة لمن شهد هذه الحروب، بل وتحول البعض منها إلى مجرد حكايات مشتقة من سردية البروباغندا الرسمية عن الحرب. فما الذي حدث لأدب الحرب حتى بدا كأنه يذهب إلى موته كجنرال قديم متقاعد، كانت له صولات وجولات لكن خدماته لم تعد تصلح في الحروب الجديدة، ولم يتبقَّ له من الحياة سوى انتظار قدره المحتم؟
لقد كانت الحرب العالمية الأولى بمثابة حرب مثقفين بامتياز حتى عدّها المؤرخون أكثر حروب البشر اشتغالاً بالأدب، وكانت حقائب الجند المقتولين لا تخلو بأي حال من كتاب أو كتابين، رواية أو شعراً أو قصصاً قصيرة، فاختلطت نصوص العهد الفيكتوري الرومانسية بالدماء والطين في الخنادق. لكن تلك اللغة المتأنقة القديمة لم تكن بقادرة على التعبير عن تجربة الجنود القاسية ومواجهاتهم اليائسة قبل الموت الأكيد، فكتب الناجون من الحرب رسائل ونصوصاً وأشعاراً تحررت من ربقة الشكل الأدبي السائد وجمود لغته، وانتهوا إلى أن أطلقوا أدباً جديداً بالكلية -سواء بالشكل وبالأدوات اللغوية أو بالمضمون- نجح في نقل أجواء الخنادق الكئيبة إلى كل بيت. أشعار كيبلنغ من تلك الفترة مثلاً تأخذ قارئها دون رحمة إلى أجواء أسلاك شائكة وأميال من اختلاط الموت بالتراب اللزج والبرد القارص والاكتئاب الأسود. كتابات تلك الفترة جبلتها تجربة الحرب بالأساطير الموروثة التي حملها الجنود معهم، وتمتماتهم الدينية ولغتهم الفجة بدت مترددة بين النثر والشعر وبين الحاضر والماضي، في حيرة جميلة ساعدتها الرموز على موازنة النص ليلامس شغاف القلوب.
بين الحربين العالميتين، عاشت إسبانيا في الفترة 1936 – 1939 ما كان بمثابة حرب عالمية صغرى اتسمت بدمويتها المفرطة ومواجهاتها القريبة وعلى نحو أهم بانخراط نخب رفيعة التثقيف لا سيما بين اليساريين الذين تدفقوا من بلاد كثيرة لإسناد الجمهوريين في مواجهتهم لعدوان جيش الجنرال فرانكو المدعوم من القوى الفاشية. كان بين تلك الأفواج من حاملي السلاح شعراء وروائيون وفنانون وحالمون كثر شُكِّلوا من خلال انخراطهم المباشر في أهوال حرب أهلية مؤلمة وتجربة إنسانية متقدمة على حدود الفجيعة والألم أنتجت بعضاً من أهم كلاسيكيات الرواية والشعر والرسائل والفن التشكيلي، وأسهمت في إعادة صياغة المناخ الأدبي الغربي برمته.
الحرب الإسبانية مع ذلك كانت آخر الحروب التقليدية المعتمدة على شجاعة المقاتلين وصلابتهم في تحمل القصف وعوامل الطبيعة ومن ثم مواجهة العدو وجهاً لوجه. فالحرب العالمية الثانية شهدت بداية سحب التكنولوجيات لزمام المبادرة من العنصر البشري في المعارك، وكسرها لكل مقياس إنساني في القتال، لتنتهي وقد أعادت تشكيل قصة الحرب بمجملها. لقد اصطدم الوعي البشري وبحدة غير مسبوقة بفكرة التقدم العبثي الذي أنتج قدرة هائلة على الإيذاء منتصراً على المسافة والجغرافيا بل وسرعة الصوت ليأخذ القتل إلى أناس أكثر في وقت أقل. غيّرت التكنولوجيا الإحساس بالحرب، إذ لم تعد مجرد معارك يخوضها الجنود، بل صارت حروب مدن يقضي فيها ألوف المدنيين ويتحكم بها علماء رياضيات وفيزياء وكيمياء لم تعرفهم معارك البشر من قبل. وقد انعكس ذلك بطبيعة الحال على أدب تلك الفترة الذي بدا سجلاً أميناً لمشاعر الذهول الجمعي والعجز وفقدان الأمل أو المعنى، إذ لم تعد الأسلاك الشائكة والخنادق تعبر عن أهوال الحرب، فهذا عصر رموزه الهولوكوستات ومعسكرات الموت الجماعي والقنابل النووية والهلع، ولم تعد الشجاعة أو النبل لتعني شيئاً.
الحرب الكورية ولاحقاً حرب فيتنام كانت بشكل أو آخر امتداداً للحرب العالمية الثانية على مستوى الوعي الإنساني، ومثّل أدبها انقطاعاً تاماً عن الماضي وتحولاً عن أدب الحرب كما عرفناه قبل 1939. ومع ذلك فإننا يمكن أن نبدأ بتلمس تطور نوعي شامل في طبيعة الحرب ذاتها بدءاً من حرب أفغانستان، ثم حرب الخليج الأولى عام 1991 والثانية 2003 لدرجة أن فيلسوف ما بعد الحداثة الفرنسي بودليارد نشر مقالة هامة شاعت وقتها كان عنوانها «حرب الخليج لم تقع»، بمعنى أن الحرب تغيرت بالمجمل، ولم تعد مطلقاً تشبه خبرتنا -حتى ذلك الحين- عن الحرب.
حرب الإمبراطورية الأميركية اليوم دخلت في أفق جديد تماماً. فتقنيات القتل الجديدة مثل «الدرون» والصواريخ الموجَّهة حصرت موضوع الموت في المقتول دون القاتل، وحوَّلت المقتول إلى مجرد إحداثيات يعتمد رصدها على شبكة تحتية من أدوات الاتصال فائقة الذكاء. لم تعد المعارك مواجهة بين طرفين، بل هي أشبه بصياد يطارد فريسته وهو يحتسي القهوة في مكتب آمن على بعد آلاف الأميال، كما لو كانت لعبة فيديو أخرى. نتيجةُ ذلك كانت عزل الإنسان عن أجواء المعركة، فبينما شارك 15% من الأميركيين مثلاً في الحرب العالمية الثانية بأنفسهم، فإن المجهود الحربي الأميركي في أثناء حرب العراق لم يحتجْ إلا إلى أقل من 1% منهم، غالبهم في مهمات مساندة لوجيستية واتصالات، وكثير منهم شاركوا في الحرب –بشكل أو بآخر– دون مغادرة مقرات عملهم في القواعد الأميركية، الأمر الذي جعل التجربة الإنسانية عن الحرب تتضاءل وتتسطح وتقتصر على عدد محدود من التقنيين، مع شبه انعدام في الخسائر البشرية مقابل كتلة ضحايا هائلة سحقها الموت على الجهة الأخرى.
النموذج المستجدّ للحرب جعل كل كتابة أدبية عنها بمثابة خداع للذات حول ادعاء فهم أبعاد التجربة الإنسانية التي ترافق أهوال الموت الجماعي هذه، ناهيك بتصور صيغة الحرب ذاتها. ولذا فإن مراجعة سريعة للأعمال الروائية الأميركية الصادرة حديثاً تحت تيمة أدب الحرب تكشف عن هزال فظيع في القيمة الإنسانية والفنية للأعمال رغم أرقام المبيعات الخادعة أحياناً. مثلاً رواية «أخضر على أزرق» (إليوت أكيرمان – 2015) التي تروي جانباً من حرب أفغانستان، تبدو كأنها نص كتبه موظفو استخبارات لا أكثر، بينما رواية «دمٌ شاب» (مات غالاغر – 2016) التي تعالج حرب العراق تبدو كرواية سيكولوجية تحبس مشاعر الرعب والقلق على المستوى الفردي المحض للجندي الأميركي، ولا تمسّ معاناة مئات الألوف من ضحاياهم، فكأنها أدب اعترافات شخصية لتاجر مخدرات في مدينة أميركية باهتة أكثر منها رواية حربٍ هائلة.
عندما جمع الشاعر البريطاني المعروف ويليام بتر ييتس كتاب أكسفورد عن النتاجات الأدبية التي أفرزتها الحرب العالمية الأولى، أخذ قصائد الشعر التي خطتها أيدي الجنود، واستبعد تلك التي كتبها الضباط وكبار القادة رغم أن بعض الأخيرة كانت قيِّمة دون شك. بالنسبة إلى ييتس، المعاناة السلبية من الخطوط الخلفية لا تؤهل صاحبها لوصف تجربة الحرب على حقيقتها.
كل أدب الحرب المعاصر ينتمي إلى مجموعة المعاناة السلبية ذاتها التي تفشل في التأهل للحديث عن عمق التجربة البشرية في هذه الحالة الاستثنائية حد التلاشي. لقد تغيرت الحرب: فالجنود ما عادوا جنوداً، والموت صار تقنية رقمية، وغدت الضحايا بالأكوام، ولن يكون آخرها «أدب الحروب».



قضية ابنة شيرين عبد الوهاب تجدد الحديث عن «الابتزاز الإلكتروني»

شيرين وابنتها هنا (إكس)
شيرين وابنتها هنا (إكس)
TT

قضية ابنة شيرين عبد الوهاب تجدد الحديث عن «الابتزاز الإلكتروني»

شيرين وابنتها هنا (إكس)
شيرين وابنتها هنا (إكس)

جدد الحكم القضائي الصادر في مصر ضد شاب بتهمة ابتزاز وتهديد الطفلة «هنا»، ابنة الفنانة المصرية شيرين عبد الوهاب، الحديث عن «الابتزاز الإلكتروني» عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وسبب انتشاره بكثافة، ومدى المخاطر التي يحملها، لا سيما ضد المراهقات.

وقضت محكمة جنايات المنصورة بالحبس المشدد 3 سنوات على المتهم، وهو طالب بكلية الهندسة، بعد ثبوت إدانته في ممارسة الابتزاز ضد ابنة شيرين، إثر نجاحه في الحصول على صور ومقاطع فيديو وتهديده لها بنشرها عبر موقع «تيك توك»، إذا لم تدفع له مبالغ مالية كبيرة.

وتصدرت الأزمة اهتمام مواقع «السوشيال ميديا»، وتصدر اسم شيرين «الترند» على «إكس» و«غوغل» في مصر، الجمعة، وأبرزت المواقع عدة عوامل جعلت القضية مصدر اهتمام ومؤشر خطر، أبرزها حداثة سن الضحية «هنا»، فهي لم تتجاوز 12 عاماً، فضلاً عن تفكيرها في الانتحار، وهو ما يظهر فداحة الأثر النفسي المدمر على ضحايا الابتزاز حين يجدون أنفسهم معرضين للفضيحة، ولا يمتلكون الخبرة الكافية في التعامل مع الموقف.

وعدّ الناقد الفني، طارق الشناوي، رد فعل الفنانة شيرين عبد الوهاب حين أصرت على مقاضاة المتهم باستهداف ابنتها بمثابة «موقف رائع تستحق التحية عليه؛ لأنه اتسم بالقوة وعدم الخوف مما يسمى نظرة المجتمع أو كلام الناس، وهو ما يعتمد عليه الجناة في مثل تلك الجرائم».

مشيراً لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «أبناء المشاهير يدفعون أحياناً ثمن شهرة ومواقف ذويهم، مثلما حدث مع الفنانة منى زكي حين تلقت ابنتها حملة شتائم ضمن الهجوم على دورها في فيلم (أصحاب ولاّ أعز) الذي تسبب في موجة من الجدل».

وتعود بداية قضية ابنة شيرين عبد الوهاب إلى مايو (أيار) 2023، عقب استدعاء المسؤولين في مدرسة «هنا»، لولي أمرها وهو والدها الموزع الموسيقي محمد مصطفى، طليق شيرين، حيث أبلغته الاختصاصية الاجتماعية أن «ابنته تمر بظروف نفسية سيئة للغاية حتى أنها تفكر في الانتحار بسبب تعرضها للابتزاز على يد أحد الأشخاص».

ولم تتردد شيرين عبد الوهاب في إبلاغ السلطات المختصة، وتبين أن المتهم (19 عاماً) مقيم بمدينة المنصورة، وطالب بكلية الهندسة، ويستخدم حساباً مجهولاً على تطبيق «تيك توك».

شيرين وابنتيها هنا ومريم (إكس)

وأكد الدكتور سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع، أن «الوعي لدى الفتيات والنساء هو كلمة السر في التصدي لتلك الجرائم التي كثُرت مؤخراً؛ نتيجة الثقة الزائدة في أشخاص لا نعرفهم بالقدر الكافي، ونمنحهم صوراً ومقاطع فيديو خاصة أثناء فترات الارتباط العاطفي على سبيل المثال»، وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «كثيراً من الأشخاص لديهم وجه آخر صادم يتسم بالمرض النفسي أو الجشع والرغبة في الإيذاء ولا يتقبل تعرضه للرفض فينقلب إلى النقيض ويمارس الابتزاز بكل صفاقة مستخدماً ما سبق وحصل عليه».

فيما يعرّف أستاذ كشف الجريمة بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بمصر، الدكتور فتحي قناوي، الابتزاز الإلكتروني بوصفه «استخدام التكنولوجيا الحديثة لتهديد وترهيب ضحية ما، بنشر صور لها أو مواد مصورة تخصها أو تسريب معلومات سرية تنتهك خصوصيتها، مقابل دفع مبالغ مالية أو استغلال الضحية للقيام بأعمال غير مشروعة لصالح المبتزين».

ويضيف في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «مرتكب الابتزاز الإلكتروني يعتمد على حسن نية الضحية وتساهلها في منح بياناتها الخاصة ومعلوماتها الشخصية للآخرين، كما أنه قد يعتمد على قلة وعيها، وعدم درايتها بالحد الأدنى من إجراءات الأمان والسلامة الإلكترونية مثل عدم إفشاء كلمة السر أو عدم جعل الهاتف الجوال متصلاً بالإنترنت 24 ساعة في كل الأماكن، وغيرها من إجراءات السلامة».

مشدداً على «أهمية دور الأسرة والمؤسسات الاجتماعية والتعليمية والإعلامية المختلفة في التنبيه إلى مخاطر الابتزاز، ومواجهة هذه الظاهرة بقوة لتفادي آثارها السلبية على المجتمع، سواء في أوساط المشاهير أو غيرهم».