«فلسفة التناغم» العربية

بين الروح الدينية والثقافة القومية

TT

«فلسفة التناغم» العربية

لقد قلنا في المقالين السابقين إن هناك علاقة ديناميكية بين مفهومي القومية والروح الدينية، من خلال تحليل كتاب المفكر الفرنسي «دي توكفيل»، عبر أطروحته المهمة التي أكد فيها على أن الروح الدينية ساندت بقوة الفكر القومي في الولايات المتحدة في منتصف القرن التاسع عشر، وهو ما تناقض تماماً مع الوضع في أوروبا. كما تابعنا التشريح العلمي لمفهوم القومية الذي عرفه المفكرون باعتباره فكراً يجمع مجموعة من الأفراد على أسس مشتركة، من بينها العرق واللغة والقيم والتقاليد والدين والتاريخ... إلخ. ثم توقفنا أمام سؤال محير، وهو: بماذا نصف الدولة البازغة بوفاة الرسول (عليه الصلاة والسلام)؟ هل كانت مبنية على الروح الدينية أم الثقافة القومية العربية؟ وحقيقة الأمر أنني وقعت في هذه المعضلة الفكرية منذ أسابيع قليلة أثناء مراجعة كتابي الأخير «حي بين الأموات»، فبماذا أصف الدولة الإسلامية الفتية؟ هل بُنيت على فكر قومي أم روح دينية خاصة، مع اقتراب التماس الزمني بين انقطاع الوحي بوفاة المصطفى وإعادة بنائها وانطلاقها في عهد الصديق أبو بكر (رضي الله عنه)؟
وبعد فكر توصلت لقناعة بأنها معضلة من صنعنا نحن، استناداً على موروثات وهياكل فكرية وتاريخية وضعتنا أمام أحادية فكرية، مبنية على فرضية تدفع نحو حتمية التناقض بين المفهومين أو التوصيفين، عند مناقشة تشييد هذه الدولة العظيمة بحق، وهي حتمية خلصت إلى أنه لا داعي لها من الأساس.
حقيقة الأمر أنه لا خلاف على أن القيادة السياسية لهذه الدولة العظيمة كانت إلهية الصنع، بموجب نزول الوحي على النبي (عليه الصلاة والسلام)، فالبنيان الذي أقيمت عليه هذه الدولة واضحة شرعيته، ولا لبس فيه، وبعد وفاته فإن هذه الروح لم تزهق؛ بل أصبحت جزءاً من هذا الكيان الموحد وتكويناته المختلفة حتى يومنا هذا، فالإسلام هوية قولاً واحداً، ومع ذلك فإنه من الإجحاف أن نستبعد العنصر القومي الذي قامت عليه هذه الدولة بمركزية قريش، منذ اجتماع «سقيفة بني ساعدة» التي حسمت تماماً مسألة خلافة الرسول في الحكم وقيادة الدولة.
وإذا ما أكدنا أن الروح الدينية هي مسند الشرعية الأساسي، فإننا لا يمكننا إغفال روح القومية العربية التي كانت سائدة في شبه الجزيرة العربية، التي كانت تفتقد لسلطة مركزية نتيجة الظروف المحيطة بهذا المجتمع القبلي والنعرات المختلفة التي غشيته، وهذه هي الروح التي ساهمت بشكل كبير بمجرد تهذيبها وإخضاعها بدعوة الصادق الأمين في صهر الدولة. وفي هذا الإطار فإننا يمكن أن نرجع ملامح هذه الروح القومية إلى العناصر الرئيسية التالية:
أولاً: تسيد اللغة العربية لشبه الجزيرة، وهو ما خلق أهم عنصر من عناصر القومية التي سمحت بالانتماء والانصهار في الدولة الفتية، فاللغة الواحدة سمحت بالتفاعل والتجانس بين القبائل قبل الوحي، ولا تخفى أهمية هذا العنصر؛ بل ومحوريته في خلق روح الانتماء داخل القومية، وفقاً لتعريفات هذا المفهوم؛ بل إن القرآن الكريم ذكر هذا العنصر صراحة في الآية الكريمة: «إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون»، ولا خلاف على وجود لكنات مختلفة للعربية، ولكنها لم تكن بأي حال من الأحوال عنصراً مؤثراً على الهوية اللغوية للقبائل المختلفة.
ثانياً: لعل عنصر الدين كان أيضاً عاملاً داعماً لهذا المفهوم، فالعرب كانت لديها هوية وثنية دينية متقاربة، رغم ظهور بؤر لديانات أخرى، كاليهودية والنصرانية، قبل الإسلام، فساعد ذلك على التقارب الفكري وخلق روح الألفة بين القبائل، وهو ما يبرر مركزية مكة المكرمة في هذه المنظومة، لوجود بيت الله الحرام بها والحج، وهو ما فطن إليه قصي بن كلاب عبر جملته الشهيرة: «فوالله لا تستحل العرب قتالكم ولا يستطيعون إخراجكم، فتسودوا العرب أبداً»، وهي عبارة تدل مباشرة على وجود مفهوم العروبة والهوية القومية المشتركة لها، ودور الدين فيها؛ لأنه كان يتحدث عن قريش وسيطرتها على بيت الله.
ثالثاً: لا خلاف على أن الطبائع الاجتماعية والثقافية، رغم اختلافها، كانت عنصراً مؤسساً لهذه الهوية العربية المشتركة، فالقبائل كانت لها سننها التي تتفق عليها، مثل الكرم، والأخذ بالثأر، والموروثات، والاجتماعيات، والنكاح، وغيرها من الطبائع التي لا تخفى عن العين المجردة عند تناول أحوال العرب قبل الإسلام.
رابعاً: تجلى عنصر الروح القومية في السلوك السياسي للقبائل، رغم تناحرها أمام العدو الخارجي. ولا تفوتنا هنا حالة العرب عندما انتصرت قبيلة «بني شيبان» وحلفاؤها على الفرس، في معركة «ذي قار» الشهيرة، الذي اعتبرته كل القبائل انتصاراً عربياً جمع العرب حولها، وهو ما دفع الأعشى لكتابة أبياته الشهيرة التي انتشرت بين العرب، فقال فيها:
وجند كسرى غداة
الحنو صبحهم
منا كتائب تزجي الموت
فانصرفوا
ولكل هذه الأسباب مجتمعة، فإن روح القومية تعد عنصراً أساسياً وقوياً مساهماً في انصهار القبائل، لدفعهم نحو بناء الدولة الإسلامية العربية والقومية المركزية. ولكل هذه الأسباب خرجتُ بقناعة ضرورة التخلص من المعضلة الموروثة بأن ألقب هذه الدولة العظيمة في كتابي بأنها «الدولة الإسلامية - العربية»، فالإسلام وحّدها ومنح شرعيتها السياسية وروحها، أما القومية العربية فصقلتها في دولة قومية موحدة، وهو ما فطن إليه بشدة الأمويون، فسعوا لإبقاء هذه الهوية العربية، فما أتعس ممن يخلق المعضلة فيقع فيها.



ملتقى مصري لحماية الأراجوز وخيال الظل من الاندثار

عروض الأراجوز تشهد إقبالاً كبيراً من تلاميذ المدارس (إدارة الملتقى)
عروض الأراجوز تشهد إقبالاً كبيراً من تلاميذ المدارس (إدارة الملتقى)
TT

ملتقى مصري لحماية الأراجوز وخيال الظل من الاندثار

عروض الأراجوز تشهد إقبالاً كبيراً من تلاميذ المدارس (إدارة الملتقى)
عروض الأراجوز تشهد إقبالاً كبيراً من تلاميذ المدارس (إدارة الملتقى)

في مساعٍ لحماية الأراجوز وخيال الظل والعرائس التقليدية من الاندثار بوصفها من فنون الفرجة الشعبية بمصر، استقبل ملتقى الأراجوز والعرائس التقليدية ضيوفه، الخميس، في الحديقة الثقافية بحي السيدة زينب (وسط القاهرة) بممر يتكون من عرائس الأراجوز والتنورة، ثم افتتاح معرض «فرحة العرائسيين»، الذي تضمن كثيراً من أنواع العرائس.

وبدأت فكرة ملتقى الأراجوز والعرائس التقليدية عام 2019، عقب إدراج فن الأراجوز على قائمة الصون العاجل في «اليونسكو» عام 2018، بهدف الحفاظ عليه بوصفه فناً غير مادي قابل للاندثار، وذلك من خلال تدريب لاعبين جدد على استخدام «الأمانة»، وهي أداة الأراجوز في التحدث، ومن خلال تأصيل علمي لفن الأراجوز، وكذلك كتابة مجموعة من النمر الأراجوزية لتواكب الأجيال الجديدة من الأطفال.

ملتقى الأراجوز والعرائس التقليدية (إدارة الملتقى)

وقال الباحث أحمد عبد العليم، مدير المركز القومي لثقافة الطفل، أمين عام الملتقى، إن «فن الأراجوز المصري نشأ بوصفه حاجة أنتجتها خلاصة وعي الذاكرة الجمعية للشعب المصري على مدى آلاف السنين ليعبّر من خلالها عن ضميره ووجدانه النابض، إذ حافظ فن الأراجوز المصري على ثوابت موروثه الثقافي الشعبي، وهذا يجعل منه أيقونة جمالية تاريخية تستحق أن تُدرج ضمن قائمة اليونسكو»، وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «لو عدنا إلى أصل تسمية (الأراجوز) سنجدها مشتقة من كلمة قبطية قديمة (أرجويوس) والتي تعني صانع الحكايات».

وتضمَّن الافتتاح عدداً من العروض الفنية من بينها العروض فريق كورال «سلام» بقيادة المايسترو وائل عوض الذي قدم أغنية جديدة أُنتجت خصيصاً للدورة السادسة من ملتقى الأراجوز، وهي أغنية «تع تع» وهي كلمة شعبية بمعنى «تعالَ»، من كلمات الشاعر أحمد زيدان، وألحان وتوزيع وائل عوض، ثم عرض استعراضي لفرقة «بنات وبس» على أنغام أغنية «أراجوز المدارس» بقيادة الفنان عبد الرحمن أوسكار، ثم عرض لخريجي ورشة الأراجوز.

وأشار عبد العليم إلى أن «الأراجوز المصري هي العروسة القفازية الفاعلة رغم بساطتها لما قدمته من عروض في الموالد والمقاهي والأعياد على مدى عقود عدة، وقد شهدت بتعاقب الأزمان تحديثات على بعض عناصرها أو مقوماتها شكلاً ومضموناً، وهي تحديثات أفرزتها متغيرات العصر كي تضمن مقبوليتها لدى المتفرجين».

أحد عروض الأراجوز (منسق الملتقى المخرج ناصر عبد التواب)

وحرص الملتقى على توثيق وتطوير فن الأراجوز عبر عدد من الإصدارات، من بينها «الأراجوز المصري والعرائس»، من إعداد أحمد عبد العليم وناصر عبد التواب، و«مسرح العرائس في مصر»، من تأليف الدكتور سيد علي إسماعيل، و«حواديت أراجوزية» من تأليف مجموعة من الكتاب، منهم أحمد زيدان وأحمد جابر.

ومن بين أهداف الملتقى الذي يستمر حتى يوم 30 نوفمبر (تشرين الثاني)، الاحتفاء بلاعبي الأراجوز الشعبيين الذين حافظوا علي هذا الفن وإقناعهم بنقل خبراتهم وتدريب وتخريج جيل جديد يحمل راية هذا الفن ويمرره للأجيال التالية حتى لا يتعرض للاندثار، والأمر نفسه ينطبق على فنون الفرجة التي تعتمد على العرائس التقليدية.