نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

خطاب عباس... قراءة للسطور وما بينها

أثار خطاب الرئيس محمود عباس أمام «المجلس المركزي»، ردود فعل أقوى بكثير من ردود الفعل التي أحدثتها قرارات المجلس، وذلك بسبب خروج الرئيس محمود عباس عن اللغة المألوفة في مخاطبة الرؤساء.
حصل خطاب عباس الناري على وصف استثنائي، أستعيره من الصحافة الإسرائيلية، التي سمت الخطاب بـ«خطاب يخرب بيتك».
المحللون السياسيون الذين يقرأون السطور وما بينها، توصلوا إلى تعريف دقيق لخطاب الرئيس عباس، وبالنسبة لي فإنني أرى أن الرجل خرج عن قواعد اللغة في مخاطبة ترمب، ليحمي التزامه بقواعد اللعبة مع الإسرائيليين والأميركيين. ومحمود عباس صانع «أوسلو» والرجل المؤثر في المسارات الفلسطينية، حتى قبل أن يصبح رئيساً، يعرف بدقة قواعد اللعبة التي شارك في تأسيسها، ويفرق بين اللغة المتشددة التي تلزم في الأزمات، ومخاطبة الهياج الشعبي، وبين المضمون المعتدل الذي يترك الأبواب مفتوحة، دون أن يغلق أي باب، أو حتى دون أن يجعله موارباً.
كان ياسر عرفات، رحمه الله، بارعاً في استخدام دبلوماسية اللعن، فقد كانت تنجيه من تحديد المواقف الحاسمة التي يترتب عليها أثمان باهظة، أما محمود عباس فلم يستخدم هذه القاعدة في أداء مواقفه، بل نحت قاعدة جديدة هي التمترس خلف ساتر اللغة المتشددة، لمواصلة اللعبة المعقدة وغير الشعبية، سواء في العلاقات مع الولايات المتحدة أو إسرائيل.
لقد طرب الفلسطينيون على «يخرب بيتك»، واعتبرت كلمة مناسبة لمن طعن الفلسطينيين في أهم ما يملكون... القدس.
غير أن «يخرب بيتك» هذه جاءت في سياق تمسك عباس بنهج المفاوضات، وادعاء ترمب بأنه لا يريد التفاوض.
لقد أفصح عباس عن أنه، وخلال اللقاءات الأربعة مع الرئيس ترمب والمكالمات المتعددة معه، أفهمه أنه لا يعترض على المفاوضات، فبدا موقف الرئيس الأميركي من المسألة غير موضوعي مع الحقيقة.
ووراء اللغة المتشددة لم يغفل عباس توجيه رسائل للأميركيين؛ يظهر فيها استعداده لعودة المياه إلى مجاريها، واضعاً شرطاً معقولاً لذلك وليس تعجيزياً، وهو إظهار موقف أميركي يتماهى مع الإجماع الدولي بحقوق الفلسطينيين في القدس الشرقية، ومن أجل توفير قرائن على عدم قطع شعرة معاوية مع الأميركيين، حتى بعد قرار ترمب بشأن القدس، إعادته لممثله في واشنطن بعد استدعائه للتشاور، ثم إيعازه لرئاسة «المجلس المركزي» بدعوة القنصل الأميركي للحضور في الجلسة الافتتاحية للمجلس، إضافة إلى ما لا يعلنه الرئيس عباس، وهو الاحتفاظ بخطوط معينة مع الأميركيين، وفق يقينه باستحالة الاستغناء عن علاقة مع الأميركيين للتأثير على مهندسي «صفقة القرن»، لعله يحرز توازناً معقولاً في هذه الصفقة، ولا يخلو الأمر من استعانة عباس بمن أمكن من العرب والأوروبيين لتحقيق هذه الغاية.
أما بالنسبة لإسرائيل، فقد وفرت اللغة العربية العبقرية مخارج مأمونة من الاضطرار لمعالجة الأمور الحساسة، مثل تعليق الاعتراف المتبادل إلى حين اعتراف إسرائيل بالدولة الفلسطينية، وتكليف اللجنة التنفيذية التي هي في واقع الأمر بلا عمل لتجسيد ذلك، وفوق ذلك إحالة موضوع التنسيق الأمني إلى اللجنة ذاتها، إضافة إلى تحقيق الاستقلال الاقتصادي للسلطة، بالتخلص من اتفاق باريس، والعمل على مستحيل اسمه إنهاء العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل، سواء في الضفة التي فيها عشرات المعابر لنقل العمال والبضائع، أو مع غزة التي أشارت آخر إحصائية إلى أن إسرائيل أدخلت إلى القطاع خلال العام الماضي أربع ملايين طن من البضائع عبر المعبر الرئيسي المسمى بكرم أبو سالم.
بديهي أن تستغل إسرائيل كل كلمة من خطاب الرئيس عباس لتحريض الإدارة الأميركية، ولتبرير إجراءاتها شديدة القسوة ضد الفلسطينيين. لقد رد نتنياهو من الهند، ولا جديد في رده لأنه لا يقترن بأي إجراء، وحتى غاباي وليفني، فقد ردَّا عليه مع البقاء على الموقف الأساسي لكل فريق.
مشكلة عباس أحياناً في ضعف موهبة كثير من مساعديه في معرفة ما يريد حقاً، وما لا يريد، فيذهبون إلى الحد الأقصى من التشدد، وهذا ما حدث قبل اجتماعات «المجلس المركزي»، وحتى في الخطابات التي قيلت خلال الجلسات، لقد رفعوا السقف عالياً جداً، وحين تُليت القرارات تبين أن اللغة لا ترفع سقفاً ولا تخفضه، فكان الجديد في واقع الأمر هو اللاجديد وهذا ما حدث.