باريس وأنقرة عازمتان على تعزيز علاقاتهما الاستراتيجية وتعاونهما الأمني

إردوغان: حصلنا على وعود كثيرة لمساعدة اللاجئين السوريين وعلى أموال قليلة

الرئيسان الفرنسي إيمانويل ماكرون (يمين) والتركي رجب طيب إردوغان (أ.ف.ب)
الرئيسان الفرنسي إيمانويل ماكرون (يمين) والتركي رجب طيب إردوغان (أ.ف.ب)
TT

باريس وأنقرة عازمتان على تعزيز علاقاتهما الاستراتيجية وتعاونهما الأمني

الرئيسان الفرنسي إيمانويل ماكرون (يمين) والتركي رجب طيب إردوغان (أ.ف.ب)
الرئيسان الفرنسي إيمانويل ماكرون (يمين) والتركي رجب طيب إردوغان (أ.ف.ب)

لم يكن لقاء أمس بين الرئيسين الفرنسي والتركي في قصر الإليزيه الأول من نوعه. ذلك أن الرجلين سبق لهما أن التقيا عدة مرات بمناسبة مؤتمرات دولية. لكنها المرة الأولى التي يأتي فيها رجب طيب إردوغان إلى عاصمة أوروبية كبرى بعد محاولة الانقلاب التي كادت تطيح به في شهر يوليو (تموز) من العام 2016، وإذا كانت برلين هي الشريك «الطبيعي» الأول لأنقرة حيث تقيم أكبر جالية تركية في ألمانيا، إلا أن توتر العلاقات بين الطرفين والاتهامات المتبادلة وإعلان المستشارة الألمانية أنه «حان الوقت» لوقف المفاوضات مع الجانب التركي حول الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فإن إردوغان «اختار» باريس لتكون بوابته إلى أوروبا. لذا، لم يخف إردوغان غبطته بهذه الزيارة، إذ لم يتردد في الإعراب عن «سعادته» بالمجيء إلى فرنسا، كما أنه وصف الرئيس ماكرون بـ«الرئيس والصديق العزيز». وعمد ماكرون إلى رد التحية بأفضل منها، ليس فقط عن طريق الترحيب بالضيف التركي ولكن عن طريق التعبير عن مواقف فيها الكثير من نقاط الالتقاء معه. إلا أن البهجة اختفت عن وجه الرئيس التركي عندما طرح عليه صحافيان فرنسيان سؤالين «محرجين» وثانيهما تضمن تنديدا بتركيا بسبب ما اعتبره الصحافي «ازدواجية» في التعامل مع التنظيمات الإرهابية، حيث استند إلى تقارير إعلامية تفيد بأن تركيا سهلت إيصال السلاح ومرور الجهاديين إلى سوريا. وكان رد إردوغان على الصحافي اتهامه بأنه «يتحدث كجماعة فتح الله غولن»، وذهب أبعد من ذلك عندما سأله لماذا لا يتحدث عن 4000 شاحنة محملة بالسلاح نقلها الأميركيون إلى التنظيمات في سوريا، ومنها إلى وحدات حماية الشعب والحزب الديمقراطي الكرديين «الإرهابيين»، وفق وصفه.
لا أحد يمكن أن يعتقد للحظة واحدة أن إيمانويل ماكرون يرأس مؤسسة خيرية. واستقباله لإردوغان رغم الحملة الشرسة التي شنتها ضده أحزاب اليسار وجمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان لاستقباله الرئيس التركي الذي تعتبره مسؤولا يدوس على حقوق الإنسان والحريات العامة إنما هو ثمرة حسابات سياسية واستراتيجية. واستبق ماكرون الزيارة بإعلان أنه «لا يريد القطيعة مع تركيا» وأنه عازم، انطلاقا من مبدأ أساسي في سياسته بلاده الخارجية، على «الحديث مع الجميع وتسمية الأمور بأسمائها»، مضيفا أنه سيقوم بذلك بـ«كل احترام» ولكن «في الوقت نفسه مع الحرص على الدفاع عن قيمنا ومصالحنا». ومن جهته، وصف وزير الخارجية جان إيف لو دريان تركيا بأنها «شريك استراتيجي في أكثر ملف: الهجرات (إلى أوروبا عبر الأراضي التركية)، الحرب على الإرهاب، البحث عن حلول للأزمات الإقليمية». وبنظر لو دريان، فإن الحوار مع تركيا «متطلب وبناء»، كما أنه «يقوم على التزامات تركيا نفسها في ملف حقوق الإنسان».
اجتماع أمس الذي بدأ متأخرا لنحو خمسين دقيقة حصل في ظل إجراءات أمنية مشددة وحضور كثيف لرجال الشرطة التي أحاطت بقصر الإليزيه وأقفلت الشوارع المفضية إليه. وكان لافتا ضخامة «البعثة» الأمنية التي رافقت الرئيس التركي والعدد الكبير من الصحافيين الذين انتقلوا معه إلى باريس.
أسفرت زيارة إردوغان عن توقيع ثلاث اتفاقيات تناولت القطاعات الدفاعية والطيران المدني (شراء الخطوط الجوية التركية 25 طائرة أيرباص) والتأمين وعن توافق الطرفين على تعزيز التعاون الاقتصادي في كافة قطاعاته وزيادة المبادلات التجارية التي تصل حاليا إلى 13 مليار يورو. وأعرب إردوغان عن رغبته بالارتقاء بها لتصل إلى 20 مليار يورو.
بيد أن أهمية الزيارة الأولى تكمن في الملفات السياسية والاستراتيجية وعلى رأسها محاربة الإرهاب. وفي هذا السياق، أعلن ماكرون عن «غبطته» بالتعاون الأمني والاستراتيجي مع تركيا ووصفه بأنه اليوم، «وبعد أن عادت الثقة»، بات «من نوعية عالية»، منوها بتبادل المعلومات بين الأجهزة الاستخبارية، ومشددا على أن البلدين يحاربان عدوا واحدا هو «داعش». ورأى ماكرون أن البلدين «يواجهان إشكاليات مشتركة على المستويات الثنائية والإقليمية والدولية».
واحتل الملف السوري حيزا بينا في محادثات الرجلين. والنتيجة العملية الوحيدة التي أسفر عنها اللقاء الذي حضره وزيرا الخارجية من الجانبين التوافق حول دعوة «أصدقاء الشعب السوري» إلى عقد اجتماع في تركيا الشهر القادم. وتضم المجموعة عشر دول هي الدول الغربية والمملكة السعودية وتركيا والأردن والإمارات العربية المتحدة. وكما فعل ذلك في كلمته إلى السلك الدبلوماسي أول من أمس، برر ماكرون سياسته «المهادنة» إزاء النظام السوري كما هاجم مساري أستانة وسوتشي، معتبرا أن الفائدة الوحيدة التي نتجت عن الأول هي مناطق خفض الصعيد التي لا يبدو أنها محترمة من جانب النظام لا في الغوطة ولا في الشمال السوري. أما بالنسبة لسوتشي فقد اعتبر الرئيس الفرنسي أنها «ليست الإطار المناسب» للوصول إلى الحل السياسي، مشددا على أهمية أن يكون الحل شاملا وأن يضمن مصالح كافة المكونات السياسية في إشارة إلى المعارضة وكذلك الأقليات وتوفير عملية انتقال سياسية. أما الهدف من ذلك فهو التوصل إلى سلام صلب ودائم يمكن من «إعادة الاستقرار إلى سوريا». وفهم من الرئيسين أن فرنسا وتركيا ستعملان معا على أفكار وطروحات. ونزع ماكرون عن الأطراف الخارجية القدرة على الحلول محل السوريين لبناء السلام، معتبرا أن الحل يجب أن يكون بأيدي السوريين أنفسهم وأن يعبروا عن خياراتهم من خلال انتخابات حرة يشارك فيها الجميع وعلى رأسهم السوريون الذين هجروا وبشكل أساسي بسبب ما قام به النظام. أما إردوغان الذي دافع عن أستانة وسوتشي، فقد عاد للتأكيد أن الهدف هو «ليس الحل مع الأسد بل من غير الأسد». وكما في كل مناسبة فقد ندد إردوغان بالحزب الديمقراطي الكردي وبوحدات حماية الشعب، معتبرا أنها تتماهى مع حزب العمال الكردستاني الإرهابي، ومعربا عن دهشته من تعامل الولايات المتحدة معها.
وفي سياق مواز، شكا إردوغان من شح المساعدات التي تصل إلى تركيا التي تستضيف كما قال أكثر من 3 ملايين لاجئ سوري. وبحسب الرئيس التركي، فإن بلاده أنفقت 30 مليار دولار على اللاجئين بينما حصلا على الكثير من الوعود والقليل من الأموال هي 900 مليون من الاتحاد الأوروبي و600 مليون من الأمم المتحدة.
كان واضحا أن إردوغان جاء راغبا بالحصول على دعم فرنسي في موضوع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وفي رأيه أن وضع تركيا فريد من نوعه لأنها «تنتظر على أبواب أوروبا منذ 54 عاما» وأنها «تعبت» من الانتظار. وشكا إردوغان من أن 16 فصلا تفاوضيا «من أصل 35» قد فتحت لكن حتى الآن لم يتم إغلاق أي منها. وإزاء هذا الوضع وبالنظر للتطورات الأخيرة التي حصلت في تركيا خصوصا منذ المحاولة الانقلابية، فقد اعتبر الرئيس ماكرون أنه من الصعب توقع حصول تقدم بين الجانبين بسبب أوضاع حقوق الإنسان في تركيا. ولذا، فإنه اقترح إعادة النظر بالمسار الحالي وبرغبة تركيا في الانضمام وأن تقوم بدل ذلك «شراكة» بين الجانبين بسب غياب الأفق، وذلك بغرض المحافظة على «انتماء» تركيا إلى أوروبا. وفي أي حال وبغض النظر عن الوضع القائم اليوم، أكد ماكرون أن «مستقبل تركيا يجب أن يكون في أوروبا».



العالم يخسر المعركة ضد الجريمة المنظمة

تتلقى امرأة المساعدة عندما أحرق مدنيون غاضبون جثث أفراد عصابة مشتبه بهم في هايتي (رويترز)
تتلقى امرأة المساعدة عندما أحرق مدنيون غاضبون جثث أفراد عصابة مشتبه بهم في هايتي (رويترز)
TT

العالم يخسر المعركة ضد الجريمة المنظمة

تتلقى امرأة المساعدة عندما أحرق مدنيون غاضبون جثث أفراد عصابة مشتبه بهم في هايتي (رويترز)
تتلقى امرأة المساعدة عندما أحرق مدنيون غاضبون جثث أفراد عصابة مشتبه بهم في هايتي (رويترز)

بينما يشهد العالم ركوداً في التجارة العالمية وتراجع الاستثمارات عبر الحدود، هناك استثناء صارخ لهذه الفوضى الاقتصادية: العصابات الدولية والجريمة المنظمة التي تشهد ازدهاراً غير مسبوق، مستغلة التكنولوجيا الحديثة وانتشار المخدرات الصناعية لتوسيع نفوذها عالمياً. وفقاً لتقرير لمجلة «إيكونوميست».

الجريمة المنظمة تنمو بمعدلات قياسية

يورغن ستوك، الذي أنهى مؤخراً فترة عمله أمينا عاما لـ«الإنتربول»، أكد أن العالم يشهد نمواً غير مسبوق في احترافية واتساع نطاق الجريمة المنظمة. وبينما أظهرت الإحصائيات انخفاضاً عالمياً في معدلات جرائم القتل بنسبة 25 في المائة منذ بداية القرن، تحذر منظمات دولية من ارتفاع هائل في أنشطة العصابات التي تتجاوز الحدود الوطنية لتتحول إلى شبكات عالمية متعددة الأنشطة.

التكنولوجيا: سلاح جديد في يد العصابات

أسهمت التقنيات الحديثة، مثل التطبيقات المشفرة والعملات الرقمية، في تسهيل عمليات الاتصال ونقل الأموال بين العصابات دون ترك أي أثر. الإنترنت المظلم بات سوقاً مفتوحاً لتجارة البضائع الممنوعة، بينما ظهرت الجرائم الإلكترونية كمجال جديد يدر أرباحاً بمليارات الدولارات.

تقديرات تشير إلى أن عائدات الاحتيال والسرقات الرقمية بلغت 7.6 مليار دولار في عام 2023، في وقت يستغل فيه المجرمون أدوات الذكاء الاصطناعي لابتكار طرق جديدة للاحتيال.

يحمل الناس أمتعتهم أثناء فرارهم من حيهم بعد هجمات العصابات التي أثارت رد فعل مدنياً عنيفاً في بورت أو برنس بهايتي (رويترز)

المخدرات الصناعية تغير قواعد اللعبة

مع التحول إلى المخدرات المصنعة كالميثامفيتامين والفنتانيل، أصبحت العصابات أقل اعتماداً على مناطق زراعة النباتات المخدرة مثل الكوكا أو الأفيون. هذه المخدرات، الأرخص والأقوى تأثيراً، ساهمت في توسيع نشاط العصابات إلى أسواق جديدة، خصوصاً في جنوب شرق آسيا، حيث زادت المصادرات بأربعة أضعاف بين 2013 و2022.

تنويع الأنشطة والانتشار الجغرافي

لم تعد العصابات تقتصر على نشاط واحد؛ فهي الآن تجمع بين تجارة المخدرات، الاتجار بالبشر، القرصنة الرقمية، وحتى تهريب الأحياء البرية. على سبيل المثال، أصبحت عصابات ألبانيا لاعباً رئيسياً في سوق الكوكايين بالإكوادور، بينما تستغل عصابة «ترين دي أراجوا».الفنزويلية أزمة اللاجئين لتعزيز أرباحها من تهريب البشر.

يستجوب السكان شخصاً ليس من الحي بعد محاولة هجوم ليلي شنتها عصابات على ضاحية بيتيون فيل الثرية ما أثار استجابة مدنية عنيفة في بورت أو برنس بهايتي (رويترز)

العصابات والسياسة: تأثير متصاعد

امتدت أيدي العصابات إلى التأثير على السياسة في بعض الدول. ففي الإكوادور، اغتيل مرشح رئاسي على يد أفراد يُعتقد ارتباطهم بعصابات كولومبية، بينما شهدت المكسيك مقتل عشرات المرشحين السياسيين في الانتخابات الأخيرة.

العالم في مواجهة تحدٍّ عالمي

على الرغم من النجاحات الفردية لبعض الدول في مكافحة الجريمة، يبقى التعاون الدولي في مواجهة العصابات محدوداً مقارنة بتوسعها السريع عبر الحدود. خبراء يؤكدون أن النهج التقليدي لإنفاذ القانون يحتاج إلى تحديث جذري لمواكبة التحديات التي تفرضها الجريمة المنظمة في عصر العولمة.