سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

حرب الحرف بديلاً عن السيف

دعت جامعة اليرموك الأردنية إلى مؤتمر كلية الإعلام الثالث، الذي ناقش هذه السنة تحولات السياسة في المنطقة، وعلاقة الإعلام بها، منذ مطلع الربيع العربي - أو ما صرنا نقول عنه إنه ربيع عربي - إلى الآن! وكان من حظي أن أشارك وأشاهد.
وكان تقديري أننا إزاء موضوع يحمل هذا العنوان، نظل في حاجة ليس إلى نقطة نظام واحدة، وإنما إلى ثلاث نقاط معاً!
أما الأولى، فهي أن انعقاد مؤتمر يناقش هذه القضية في بيت من البيوت الأردنية التي يدرس فيها الطلاب علم الإعلام وصناعته من شأنه أن ينشئ حواراً بين الذين جاءوا ليتكلموا والشباب المدعو ليسمع ويرى. ولسنا كعرب أحوج إلى شيء اليوم قدر حاجتنا إلى ترسيخ قيمة الحوار بيننا، وعلى كل مستوى!
وأما الثانية، فهي معنى انعقاد المؤتمر في مقر الجامعة في محافظة إربد، التي تبعد عن العاصمة عمان ساعة ونصف الساعة بالسيارة، وليس في العاصمة. فانعقاده هناك لا بد أن يتيح اتصالاً بين المركز والأطراف، وهو اتصال من الضروري أن نحرص في كل بلد عربي على تعزيزه وتأكيده إذا كان موجوداً، وعلى استدعائه سريعاً إذا غاب!
فلا نزال نختزل دولاً عربية كثيرة في عواصمها وحدها، ولا تزال العاصمة تستحوذ على كثير من الاهتمام، دون الأقاليم ودون المحافظات ودون الولايات. وليس غريباً أن المصري - مثلاً - إذا هبط من الصعيد في الجنوب قاصداً القاهرة، قال إنه ذاهب إلى مصر، لا إلى القاهرة. وكذلك يقول ابن الشمال القادم من الدلتا في اتجاه العاصمة؛ فكأن مصر هي القاهرة، وكأن القاهرة هي مصر!
ولا يختلف الأمر مع السوري القادم من حلب في الشمال قاصداً دمشق، أو من درعا جنوباً على أمل الذهاب إلى العاصمة السورية؛ كلاهما يقول إنه ذاهب إلى الشام، لا إلى دمشق؛ فكأن دمشق أيضاً هي الشام، وكأن الشام هو دمشق!
وهكذا.. وهكذا.. أدى استحواذ العاصمة على الأضواء، وعلى القرار، وعلى الانتباه، إلى يقين لدى كثيرين من أبناء البلد بأن الحياة إنما هي هناك في العاصمة، ولا حياة خارجها!
إربد الأردنية، بمؤتمر جامعتها وكلية إعلامها، استدعت هذه المعاني أمامي، ورأيت أن كثيراً من المؤتمرات والندوات والاحتفاليات مدعوة دائماً إلى أن تخرج من العواصم العربية، سعياً إلى درجة من التواصل لا بد أن تكون قائمة بين الطرف والمركز، وإحياءً لنوع من التفاعل يجب ألا يغيب بين قلب الدولة والأطراف الممتدة في أرجائها.
ونقطة النظام الثالثة أن علينا في مؤتمر إعلام اليرموك، وفي غيره من شؤون حياتنا كلها، أن نتحلى على الدوام بمنطق سقراط في تعريف الأشياء، قبل الكلام عنها أو الحديث حولها. ففي غالب الأحيان، نكتشف بعد وقت أن كل واحد منا يتكلم عن قضية مختلفة، بعد أن نكون قد ظللنا نتكلم ونتكلم معتقدين أننا كنا معاً نقصد قضية واحدة بعينها، ودون غيرها!
سقراط كان معنياً بتوليد المعاني بعضها من بعض، ولم يكن من الممكن توليد معنى من معنى، ولا فهم معنى شيء، ما لم يكن المعنى الأول محدداً، وموضوعاً في إطار، لتأتي المعاني القائمة عليه صحيحة مبنية على أساس واقفة على أرضية لا تهتز!
ماذا، إذن، نقصد بالإعلام؟ وما وظيفة الإعلام الذي نقصده؟ هل نقصد الإعلام المكتوب باعتباره الأقدم والأبقى، أم نقصد الإعلام المسموع، أم المرئي، أم الإعلام الحديث الإلكتروني، أم نقصد هذا كله في سلة واحدة؟! فإذا قصدناه كله، دون بعضه، فما وظيفته التي نتصورها في مجتمعه؟! هل هي التسلية، أم الإخبار، أم التوعية، أم هي هذا كله في سلة واحدة أيضاً؟! إنني أقصد الإعلام بكل أصنافه حين أتحدث عنه، وأعني وظائفه كلها حين أحب الإشارة إلى مهمة له في المجتمع الذي يمارس دوره فيه، لأنه ليس من الممكن فصل صنف منه عن صنف آخر، ولا من الممكن إتاحة وظيفة من وظائفه وتغييب سواها!
والإعلام بمعناه المجمل، وبوظائفه مجتمعة، هو الذي أصبح يبدأ معارك داخل دول، وفي نطاقها، ثم بينها وبين دول أخرى، فيكسبها أو يخسرها، بغير حاجة من الدولة التي كسبت المعركة إلى الذهاب لجبهة من جبهات القتال، وبغير حاجة إلى بوارج أو طائرات!
وليس من الضروري أن تكون المعركة عسكرية، ولا أن تقع على جبهات، فالصفحات والشاشات صارت بديلاً عن الجبهات، ولولا صفحة دونالد ترمب على «تويتر»، ما كان مستقراً في البيت الأبيض هذه الأيام، ولا يزال النزال الدائر بينه وبين كيم إيل سونغ الحفيد، في كوريا الشمالية، أسير التغريدات!
وقد كان الظن في وقت مضى أن الحرب تبدأ في الإعلام، ثم تستكمل مسيرتها في المواجهات بين القوات، ولكن الزمان دار دورته لنرى حروباً مبدأها ومنتهاها الحرف بديلاً عن السيف!