محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

على رسلكم

في الأسبوع الماضي أعلن في الكويت أسماء الفائزين بجوائز مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، هي من أعلى الجوائز العلمية التي تقدمها مؤسسة عربية، وعلى مدى سنوات طويلة قدمت هذه المؤسسة صفاً طويلاً من العلماء العرب المساهمين في إنتاج المعرفة الحديثة، كما أن جوائزها العلمية تخضع لسلسلة طويلة من الفحص والتمحيص، الذين فازوا بالجائزة المرموقة هذا العام كانوا ستة أساتذة من العرب، بينهم أربعة لبنانيين، واحد يعيش في لبنان، وآخر في فرنسا والآخران في الولايات المتحدة، تلك إشارة صغيرة لما يقوم به هذا البلد الصغير لبنان من مساهمة في العلوم والمعارف تفوق حجمه السكاني والجغرافي، وقد قدم سلسلة طويلة من النابهين الذين أسهموا في إثراء ثقافة أمتهم والعالم، فالعلم والثقافة في لبنان متأصل ونشاط المواطن اللبناني أين ما حل، هو نشاط ملحوظ ومساهم في تنمية الأوطان التي يحل بها، من جهة أخرى فإن كثيراً من السياسيين اللبنانيين تعبيراً عن انتمائهم إلى الوطن اللبناني، انتزعوا أنفسهم عند الاستقلال من الانتماء عبر الوطن اللبناني، بالانتماء إلى الوطن اللبناني في حالة توافق معروفة سميت الميثاق اللبناني، أي النأي عن الانتماء إلى خارج لبنان، للعودة إلى لبنان الوطن، وتوافقوا على أن تضمهم تلك الحدود كوطن نهائي ودائم، إذن الإنجاز العلمي من جهة، وتثبيت الوطن اللبناني من جهة أخرى، أصبح قاعدة ثابتة للبنان، ولن ترضى معه (اللبنانية العميقة) اليوم، مهما بدا في الظاهر، خوفاً أو استلزاماً أو إغراءً من البعض، لن ترضى أن يُرهن بلد النور العربي إلى أفكار سياسية قادمة من أساطير ومحملة بخرافات أو يسلم استقلاله إلى بلد أجنبي حتى لا تربطه معه لغة أو طموح أو هامش عصري! هكذا يجب أن ينظر إلى المسألة اللبنانية المحتدم النقاش حولها، هي في الأساس مقاومة للإلحاق والتجهيل معاً، لبنان الوطن مؤشر جيد لترمومتر التطور السياسي في المنطقة العربية والانفكاك من الأوهام في لبنان، مقدمة وأول الغيث في المشروع العربي الجديد الساعي إلى مواجهة التوسع الإيراني. لبنان بلد جميل وشعب عربي مضياف، وجزء لا يتجزأ من الفضاء العربي، وهو بسبب تفاعلاته الداخلية سريعاً مع يصاب بالخلل في توازنه الداخلي، كان هذا التوازن يختل في السابق عندما يحين انتخاب رئيس الجمهورية، وسرعان ما يشفى عند التوافق وانتخاب رئيس جديد، كان ذلك في السابق، في الأربعين سنة الأخيرة على الأقل، أصيب لبنان بفيروسات الشقاق على نطاق واسع جراء التدخل الخارجي، كان أولها الموضوع الفلسطيني الذي اعتقدت قوى فلسطينية أن ضعف لبنان يمكنها من التحكم في مساره، ولكن في الواقع العملي فإن التداعيات التي أنتجتها محاولة ذلك التحكم سرعان ما أدت إلى خروج الفلسطيني المسلح، من لبنان. ثم جاءت الهيمنة السورية التي تصورت من جديد إمكانية التحكم في مصير لبنان سياسة واقتصاداً وفساداً، ونعرف اليوم أن زمنها، كما كانت قد انتهى، بسبب نفور لبنان الوطن ولبنان التحديث من تلك الهيمنة، بقي نفوذ إيران، الذي اتخذ له مطية عملية هي «حزب الله»، فريق صغير في لبنان، ومن ثم التحالف مع بعض القوى اللبنانية الأخرى، من أجل تقاسم النفوذ، وحتى هذا لن يطول، لأن التفاعلات السياسية في لبنان تقاوم هذا النفوذ. نحن الآن في مرحلة انتقالية، وما استقالة سعد الحريري وما أثارته من ردود أفعال، إلا بداية هذه المرحلة الانتقالية، كما كان مقتل رفيق الحريري في 2005 بداية مرحلة تقليص النفوذ السوري المباشر، وكما كانت حادثة عين الرمانة في أبريل (نيسان) 1975 بداية العد العكسي للنفوذ الفلسطيني المباشر في لبنان. المراهنة على مخزون العلم وفائض التوق للحرية من شرائح كبيرة من الشعب اللبناني هما اللذان سوف تخلصان لبنان من الهيمنة الثقيلة ليد آيات الله التي تلتحف بشعارات لم تعد غامضة أو ملتبسة على كثير من اللبنانيين.
مكشوفة محاولة حرف النقاش الآن من المعركة الأساسية في المسألة اللبنانية، إلى التفاصيل غير المقنعة لشريحة الحياد أو شريحة المقاومين للنفوذ الإيراني من اللبنانيين والعرب، كان أفضل تجلياتها ما صرح به مار بشارة بطرس الراعي، بطرك الموارنة، من الرياض في زيارته التاريخية الأسبوع الماضي، بأنه يشارك في الأسباب التي ذكرها سعد الحريري في استقالته، محاولات حرف النقاش مريحة فقط للمعسكر الآخر الموالي للملالي، وهذا طبيعي. أول ما يلجأ إليه من يحاول إرجاء ديناميكية التغير في لبنان، هو القول إن سعد الحريري ليس مطلق الحرية في الرياض، وهو قول تناقضه كل الشواهد المعروفة كما يناقض الفطرة السليمة، منها تنقل الحريري واستقباله لعدد من الدبلوماسيين ومنها تأكيد قوى عالمية سواء فرنسية أو أميركية بأنه بالتأكيد حر طليق، إذن ما سبب هذه الحملة أنه (محتجز) هو تكتيك يراد به الإحراج، ومن ثم استفزاز التحدي للتكذيب المباشر والعودة إلى لبنان، وإن فعل فإن سيناريو الهيمنة، هو قبول الاستقالة ويبذل المعسكر الآخر كل جهده لإقناع طامع أو أكثر من معسكر الحريري أو من يجاوره لتسلم سدة رئاسة الوزراء تحت ذرائع مختلفة، وقد يقبل ذلك المعسكر بقليل من التضحيات الشكلية لإغراء الرئيس الجديد، ثم تسير الأمور كما كان يشتهي ذلك المعسكر، وتحويل لبنان إلى جمهورية (آيات الله)، والأمل في تحكم نهائي في مقدرات لبنان من عملاء طهران واستخدام لبنان كمنصة مجدولة في الهجوم بأسلحة مختلفة على الآخرين إكمالاً للمشروع الإيراني، هو مشروع يقاومه لبنان العلم ولبنان الحداثة. المتباكون على عودة الحريري كثير منهم يحتقر ذاكرة الناس، فيطلقون مقولات منها أن تقديم الحريري للاستقالة من الخارج غير دستورية، وأن الدستور اللبناني ينص على كذا وكذا، في محاولة لفقدان الذاكرة الإرادي، وكان هذا الدستور محترماً لا يخترق أو يعطل يومياً وشهرياً، انظر كيف جدد المجلس النيابي لنفسه أكثر من مرة، خارج الدستور، وترى مقدار احترام الدستور، وانظر إلى المهل المسوفة في انتخاب رئيس الجمهورية، ترى كم كان الدستور محترماً، بل وفي حال استقالة الوزارة، انظر ما فُعل في الحريري عندما كان رئيس وزراء، وبصفته تلك كان يتهيأ للدخول لاجتماع مع الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في عام 2011، وقتها قدم عضو مجلس الوزراء الموالي لـ«حزب الله» استقالته ففرطت الحكومة ورئيسها في الخارج! وما هو معروف أن فرط تلك الحكومة جاء على خلفية محاولة إجبار الحريري على التنازل عن المحكمة الدولية، الأمر الذي رفضه، بل بالعودة إلى صحف تلك المرحلة وقد نشرت الأسباب، أن قيل له وقتها، ادع إلى جلسة لمجلس الوزراء اللبناني وضع جدول أعمال من بند واحد هو التخلي الرسمي عن المحكمة الدولية، حتى وأنت في الخارج! وقتها لم يتباكَ من يفعل ذلك اليوم على الرئيس المتخلى عنه! النخب اللبنانية مطلوب منها اليوم استخدام العقل، والتخلي عن الصخب الإعلامي وحرف النقاش عن الأجندة الأم، وهي رفض الوصاية الإيرانية وقيام الدولة اللبنانية الحديثة، وعدم النظر لطروحات (راسبوتينية) والادعاءات التهويشية التي تطلقها ميليشيات ارتزاقية! أليس من العدل على الأقل احترام عقول شعب يبز مواطنوه تفوقاً على نسبتهم العددية، ويسبقون كثيرين في العلم والمعرفة، ويتطلعون إلى فضاء من الحرية بعيداً عن تهديد السلاح!
آخر الكلام:
كيف يمكن أن تدار معركة انتخابية في بلد، وفريق من المنافسين يحملون البندقية الموجهة إلى رؤوس ناخبيهم وناخبي منافسيهم على السواء!