«فيسبوك»... عكاظ شعري معاصر؟

ارتجال «أون لاين» لا يكفي و«اللايكات» لا يعول عليها (2ـ 2)

الشاعر جمال الموساوي  -  الناقد محمد آيت العميم
الشاعر جمال الموساوي - الناقد محمد آيت العميم
TT

«فيسبوك»... عكاظ شعري معاصر؟

الشاعر جمال الموساوي  -  الناقد محمد آيت العميم
الشاعر جمال الموساوي - الناقد محمد آيت العميم

لا يمكن لمستجدات «الزمن الإلكتروني» إلا أن تثير نقاشاً بصدد شعر وشعراء «فيسبوك»، تمخضت عنه متابعات وبرامج ثقافية تسائل الظاهرة، رغبة في محاكمتها للوقوف على إيجابياتها وسلبياتها، من قبيل: «صار (فيسبوك) عكاظاً شعرياً جديداً»، أو «بات فضاءَ نشرٍ يُغني عن المجلة والديوان»، كل ذلك في علاقة بمعطى «استسهال الكتابة»، و«الاكتفاء بـ(اللايكات) المرتجلة»، بدلاً من التفاعل النقدي الجاد.
لكن، قبل ذلك وبعده، هل شعر «فيسبوك» شعر فعلاً؟ وهل نجح شعراء «فيسبوك» في تقديم قصيدة ناضجة فنياً؟ وهل أصبحوا جزءاً من المشهد الشعري العربي؟ أم إن كتاباتهم مجرد «خواطر» يبثها أصدقاء لأصدقاء؟
يعتقد الناقد محمد آيت العميم أن «فيسبوك» هو «وسيط سهل للتواصل»، وأن «ما ينشر فيه، مما يسمى مقاطع شعرية أو خواطر أو لحظات شعرية، يختلف بحسب من يكتب، إذ حينما يكتب شاعر مكرس شعره، يكون قد كتبه حقيقة على الورق، قبل أن ينقله إلى هذا الوسيط، لكي يوصله إلى جمهور كبير؛ لكن حينما يتجاسر أناس لا يكتبون الشعر حقيقة وإنما خواطر مرتبطة بأحداث، تعن لهم في اللحظة، فلا أعتقد أن مثل هذا الكلام يكون له تأثير في الحساسية الشعرية؛ لأن الشعر في عمقه ليس مرتبطاً بالوسيط، سواء أكان ورقاً أم شاشة زرقاء».
ويشدد كاتب «المتنبي... الروح القلقة والترحال الأبدي» على أن «الشعر له هويته الخاصة، بعيداً عن الوسائط، فالكتابة الشعرية هي ممارسة قديمة جداً، تراكمت فيها تجارب وجماليات متنوعة، بحيث لا يمكن لأي وسيط أن يؤثر في جوهره، وإنما قد يؤثر في تداوله».
أما الآن، يستدرك آيت العميم، فـ«هناك شعراء كبار لم تكن تصلنا دواوينهم لظروف مختلفة، أصبحنا نحاورهم حينما ينشرون نصوصهم، بعد أن صار (فيسبوك) وسيلة لإبداء الرأي، قد يكون مبنياً أو وليد اللحظة والبداهة، نتحاور فيه مع الشعراء إعجاباً وتعليقاً، وهو شيء لم يكن متاحاً».
ويرى كاتب «بورخيس صانع المتاهات» أن «من بركات (فيسبوك) أنه قرب المسافة مع شعراء كنا نقرأ لهم»، مشدداً على أن «الشعر يبقى دائماً وفياً للمسار الذي تشكل به عبر القرون، موهبة ومعرفة وإحساساً بالوجود. وبعيداً عن هذه الشروط، نجد أنفسنا، في الفضاء الأزرق، مع فيضانات لا يمكن أن نصنفها في بوابة الشعر، قد تكون خواطر أو أفكاراً».
يستحضر آيت العميم تجربته الخاصة مع الفضاء الأزرق، مشيراً إلى أن النصوص التي صادفها هي إما لشعراء مكرسين، أو فلتات لشعراء لم يستهوهم النشر الورقي، ففضلوا التواصل المباشر مع الجمهور الافتراضي، ملاحظاً أن «هناك بعض الأصوات التي نلمس فيها الموهبة وروح شاعر قادم، لكن (فيسبوك) لا يكفي، إذ لا بد من الخروج إلى عالم النشر حتى يتم تداول هذا الشعر أمام الجمهور وأمام النقد».
فيما يتعلق بـ«اللايكات»، يعتقد آيت العميم أنها «قد تكون، أحياناً، خادعة، من جهة أنها قد تكون تواطؤاً ونوعاً من المجاملات، ومن العادة التي نبديها من دون قراءة فعلية ومتأنية لما كتب، الشيء الذي يعني أن (اللايكات) لا تبدي موقفاً يعتد به، ما دامت ليست تعبيراً عن موقف نقدي، وما دام أن الإعجاب وحده لا يكفي. ولذلك يبقى من المؤكد أن (اللايكات) في (فيسبوك) لا يعول عليها».
- الموساوي: انتشار وقياس تفاعل
يرى الشاعر المغربي جمال الموساوي أن «الشاعر شاعر بغض النظر عن المكان الذي يطل منه على قرائه»، وأنه: «في هذا لا يختلف (فيسبوك) عن الصحيفة أو المجلة أو أي حامل ورقي آخر».
يستدرك الموساوي، فيقول: «هنا يمكن، ربما، الانتباه إلى وجود نوعين من الشعراء على شبكات التواصل الاجتماعي، بغض النظر عن القيمة الفنية والمعرفية لما يكتبونه. هناك شعراء كتبوا الشعر ونشروه قبل ظهور هذه الشبكات، وهناك آخرون بدأوا مباشرة في هذه الفضاءات. وهناك شعر يكتب وينشر مباشرة، وهناك شعرٌ ينشر في مجلات وجرائد ودواوين، ويعاد نشره لتأمين مزيد من الانتشار وقياس تفاعل القارئ بشكل فوري، رغم أن هذا التفاعل قد لا يعكس القيمة الحقيقية للنصوص المنشورة».
والأساسي هنا، يضيف شاعر «كتاب الظل»، هو أن «الشاعر صفة، على الإنسان أن يجتهد ليحصل عليها، سواء في (فيسبوك) أم في مكان آخر»، وأن «الشعر قيمته فيه ولا يستمدها من الحامل الذي يُنشر فيه. بمعنى آخر إن ما يتم نشره في (فيسبوك) أو غيره من الشبكات الاجتماعية يبقى خاضعاً للمعايير نفسها التي يتم بها الحكم على جودة وشاعرية قصيدة ما في المجلة أو الجريدة، مع فارق أنه لا يوجد غربال أو لجنة لانتقاء الأفضل قبل نشره. الحكم متروك للقارئ».
لكن، هل نجح شعراء «فيسبوك» في تقديم قصيدة ناضجة فنياً، أم هي مجرد «خواطر» يبثها أصدقاء لأصدقاء؟
يجيب شاعر «حدائق لم يشعلها أحد»، فيقول: «مما لا شك فيه أن من يتابع ما يُنشر يستمتع بكثير من النصوص الجميلة التي ربما ما كان ليصل إليها لولا (فيسبوك). لهذا أعتقد أن القصيدة تنضجها التجربة والرغبة. أن يصبح المرء شاعراً هو رهان مثل أي رهان أو طموح في الحياة. يحتاج إلى العمل وإلى الجهد وإلى التزود بالمعرفة من خلال القراءة. ما قد يقف عائقاً أمام تحقيق هذا الطموح أمران على الأقل: أولهما استسهال الكتابة مما يسقطها في السطحية، وثانيهما الإغراء الذي قد تمثله كثرة التفاعل والتعليقات التي تحظى بهما بعض النصوص لبعض الشعراء. عدا ذلك فإن من يشتغل على نصوصه، وكان (فيسبوك) اختيارَه للوصول إلى القارئ، سيُنضجُ قصيدته بالتأكيد مع الوقت، وسيتحول إلى اسم مؤثر في المشهد الشعري محلياً أو على نطاق أوسع. بالمقابل، في غياب هذا الاشتغال الدؤوب، وغياب الوعي بالعناصر التي تمنح للكتابة شاعريتها، لن يرقى ما ينشر كي يصبح شعراً، وبالتالي سيظل عبارة عن خواطر وبوح».
ورداً على من يرى أن الشعر هو أكثر ما ينشر على «فيسبوك»، مقارنة مع القصة، وغيرها، يقول شاعر «أتعثر في الغيمة فتبكي»: «لعل هذه الملاحظة تجد مبرراتها في طبيعة مواقع التواصل الاجتماعي، التي مهمتها المفترضة هي (التواصل)؛ بل التواصل الآني، وبالتالي يبدو الشعر أقرب لتحقيق هذه المهمة، خارج الدردشة طبعاً، وما ينشر هو في الغالب قصائد قصيرة أو مقاطع أو شذرات شعرية، وقليلاً ما نقرأ نصوصاً طويلة. ذلك أن فلسفة مواقع التواصل الاجتماعي تبدو واحدة: (ما قل ودل) يحظى بمتابعة أكبر. وهو ما يمكن أن نلاحظه بالنسبة لفيديوهات (يوتيوب)، حيث ثلاث دقائق مدة مثالية لنجاح الفيديو، ولعله السبب الذي جعل (تويتر) يحدد 140 حرفاً كأقصى حد لتغريدة. وعلى خلاف القصة القصيرة التي تبدو قليلة جداً، يمكن أن نقرأ إلى جانب الشعر قصصاً قصيرة جداً (ق.ق.ج) مثلاً؛ إلا أن حضورها يبقى أقل من الشعر».


مقالات ذات صلة

أستراليا تعتزم فرض ضريبة على المنصات الرقمية التي لا تدفع مقابل نشر الأخبار

العالم شعار شركة «ميتا» الأميركية (أ.ف.ب)

أستراليا تعتزم فرض ضريبة على المنصات الرقمية التي لا تدفع مقابل نشر الأخبار

أعلنت الحكومة الأسترالية اعتزامها فرض ضريبة كبيرة على المنصات ومحركات البحث التي ترفض تقاسم إيراداتها من المؤسسات الإعلامية الأسترالية.

«الشرق الأوسط» (سيدني)
العالم انقطعت خدمة منصة «إنستغرام» عن أكثر من 23 ألف مستخدم (د.ب.أ)

عطل يضرب تطبيقي «فيسبوك» و«إنستغرام»

أظهر موقع «داون ديتيكتور» الإلكتروني لتتبع الأعطال أن منصتي «فيسبوك» و«إنستغرام» المملوكتين لشركة «ميتا» متعطلتان لدى آلاف من المستخدمين في الولايات المتحدة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق تامونا موسيريدزي مع والدها (صورة من حسابها على «فيسبوك»)

بعد 40 سنة... سيدة تكتشتف أن والدها الحقيقي ضمن قائمة أصدقائها على «فيسبوك»

بعد سنوات من البحث عن والديها الحقيقيين، اكتشفت سيدة من جورجيا تدعى تامونا موسيريدزي أن والدها كان ضمن قائمة أصدقائها على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»

«الشرق الأوسط» (تبليسي )
العالم رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي (رويترز)

أستراليا تقر قانوناً يحظر وسائل التواصل الاجتماعي لمن هم أقل من 16 عاماً

أقر البرلمان الأسترالي، اليوم (الجمعة) قانوناً يحظر استخدام الأطفال دون سن الـ16 عاما لوسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما سيصير قريباً أول قانون من نوعه في العالم.

«الشرق الأوسط» (ملبورن)
العالم يلزم القانون الجديد شركات التكنولوجيا الكبرى بمنع القاصرين من تسجيل الدخول على منصاتها (رويترز)

أستراليا تحظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للأطفال دون 16 عاماً

أقرت أستراليا، اليوم (الخميس)، قانوناً يحظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للأطفال دون سن 16 عاماً.

«الشرق الأوسط» (سيدني)

كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
TT

كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته

الروائي والمُنَظِّر الما بعد كولونيالي، الكيني نغوغي واثيونغو، (يتوسط الصورة). يقف مائلاً بجذعه إلى الأمام، ميلاً يكاد لا يُدرك، باسطاً كفيه على كتفي ابنته وانجيكو وا نغوغي (يمين الصورة)، وابنه موكوما وا نغوغي (يسار الصورة)، كأنما ليحتضنهما أو ليتأكد من وجودهما وبقائهما أمامه، أو يتوكأ عليهما بدلاً من التوكؤ على العصا التي ربما أسندها إلى الجدار خلفه، أو في أي بقعة من المكان.

الصورة لقطة لاجتماع عائلي صغير، اجتماع ربما لا يتكرر كثيراً ودائماً ولوقت طويل بين أب يعيش وحيداً إلّا من رفقة كلبه في مدينة «إرفاين» في كاليفورنيا، وابن يقيم في مدينة «إثاكا»، حيث يعمل أستاذاً للأدب في جامعة كورنيل، وابنة استقر بها المقام في مدينة أتلانتا، حيث تعمل أستاذاً للكتابة الإبداعية في كلية الفنون الجميلة في ولاية جورجيا. شتات أسري صغير، نموذج من الشتات الأفريقي (الما بعد كولونيالي) الكبير، تتخلله لحظات مثل لحظة التقائهم في الصورة لحدث يظهر خلاله الشبه بينهم، الشبه العصي على الشتات تبديده ومحوه.

الحدث فعالية توقيع موكوما لروايته الرابعة «انبشوا موتانا بالغناء»، شخصياً أفضل «انبشوا قبور موتانا بالغناء»، وتوقيع وانجيكو لروايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر» أو «فصول في بلاد فرس النهر». لا يحتاج إلى تأكيد أن عنواني الروايتين قابلان لأكثر من ترجمة. وبقدر ما تبرز الصورة، أو الحدث في الصورة، من تشابه بين الثلاثة، تقوم بوظيفة المعادل الموضوعي البصري لهذه المقالة التي تجمعهم.

النضال باللغة الأم

لكن هنالك ما لا تظهره الصورة، ولا توحي به. أقصد المفارقة التي يشكلها حضور نغوغي واثيونغو حفل توقيع روايتين مكتوبتين باللغة الإنجليزية لاثنين من أبنائه، اللغة التي توقف عن الكتابة الإبداعية بها في أواخر سبعينات القرن الماضي؛ وكان مثابراً في الدعوة إلى التوقف عن الكتابة بها.

كان قرار نغوغي التوقف عن الكتابة بالإنجليزية والتحول إلى الكتابة بلغته الأم سبباً مباشراً من أسباب اعتقاله والزج به في سجن الحراسة المشددة، عشية السنة الجديدة في عام 1977. كان ابنه موكوما في السابعة من عمره عندما ألقت السلطات الكينية القبض عليه بعد ستة أسابيع من النجاح الشعبي المدوي الذي حققه عرض مسرحيته المكتوبة بلغة «جيكويو»: «سأتزوج عندما أريد»، مسرحية أدّاها ممثلون غير محترفين من الفلاحين، واستهدفت بالانتقاد النخبة الحاكمة الكينية، مما دفع الحكومة إلى اعتقاله تحت ذريعة تشكيله خطراً على البلاد.

في زنزانته التي تحَوَّل فيها إلى مجرد رقم (K677)، وكفعل تحدٍ للسلطة أولاً، وكأداة للمقاومة والنضال من أجل تحرير العقل من الاستعمار ثانياً، بدأ نغوغي، وعلى ورق التواليت، في كتابة روايته الأولى بلغته الأم «شيطان على الصليب». يروي أن ورق التواليت كان مكدساً رصاتٍ تصل سقف الزنزانة، ورق قاس وخشن كأنما أُرِيد أن يكون استخدامه عقاباً للسجناء.

إن توقف نغوغي عن الكتابة بالإنجليزية بعد مرور ما يزيد على عشر سنوات من انعقاد «مؤتمر ماكيريري للكُتّاب الأفارقة الذين يكتبون باللغة الإنجليزية»، وضعه على مفترق طرق في علاقته مع «الماكيريريين»، الذين آمنوا بحتمية وأهمية الكتابة باللغة الإنجليزية، وفي مقدمتهم صديقه الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي. ورغم تعكر صفو العلاقة بينهما ظل نغوغي يكنّ الاحترام لأتشيبي ومعترفاً بفضله عليه. فأتشيبي أول شخص قرأ روايته الأولى «لا تبكِ أيها الطفل» حتى قبل أن يكمل كتابتها، عندما حملها مخطوطة مطبوعة إلى مؤتمر ماكيريري أثناء انعقاده في جامعة ماكيريري في العاصمة الأوغندية كامبالا، في يونيو (حزيران) 1962. وكان له الفضل في نشرها ضمن سلسلة هاينمان للكُتّاب الأفارقة.

يقول نغوغي واثيونغو لمواطنه الكاتب كيري بركه في حوار نشر في صحيفة «ذا غارديان» (2023-6-13): «قال أتشيبي إن اللغة الإنجليزية كانت هدية. لم أوافق... لكنني لم أهاجمه بطريقة شخصية، لأنني كنت معجباً به كشخص وككاتب». أتوقع لو أن أتشيبي على قيد الحياة الآن، لعاد للعلاقة بين عملاقي الرواية في أفريقيا بعض صفائها، أو كله. فموقف نغوغي الرافض للاستمرار بالكتابة بلغة المستعمر، فَقَدَ (أو) أفقدته الأيام بعض صلابته، ويبدو متفهماً، أو مقتنعاً، وإن على مضض، بأسباب ومبررات الكتابة الإبداعية بالإنجليزية. فجلاء الاستعمار من أفريقيا، لم يضع - كما كان مأمولاً ومتوقعاً - نهاية للغات المستعمر، كأدوات هيمنة وإخضاع وسيطرة، فاستمرت لغاتٍ للنخب الحاكمة، وفي التعليم.

قرار نغوغي واثيونغو الكتابة باللغة التي تقرأها وتفهمها أمة «وانجيكو» قسم حياته إلى قسمين، ما قبل وما بعد. قِسْمٌ شهد كتاباته باللغة الإنجليزية الممهورة باسم «جيمس نغوغي»، وكتاباته بلغة «جيكويو» باسم نغوغي واثيونغو، تماماً كما قسّم مؤتمر ماكيريري تاريخ الأدب الأفريقي والرواية الأفريقية إلى ما قبل وما بعد - الموضوع الرئيس في كتاب ابنه موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية».

في نهضة الراوية الأفريقية

من البداية إلى النهاية، يرافق «مؤتمر ماكيريري» قارئَ كتاب موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية... طرائق اللغة والهوية والنفوذ» (الصادر في مارس (آذار) 2024) ضمن سلسلة «عالم المعرفة» للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت). وترجمه إلى العربية الأكاديمي والناقد والمترجم البروفسور صديق محمد جوهر. لم يكن كتاب نغوغي الابن الباعث على كتابة المقالة فحسب، وإنما المحفز أيضاً، حتى قبل البدء في قراءته، على قراءة رواية شقيقته وانجيكو وا نغوغي «مواسم في بلاد أفراس النهر»، وكانت ترقد على الرفّ لبعض الوقت في انتظار قراءة تهرب إلى الأمام باستمرار. فكان أن قرأت الكتابين في الوقت نفسه، منتقلاً من أحدهما إلى الآخر، بينما صورة نغوغي الأب، أو طيفه يحوم في أفق القراءة، ما جعلني أُسَلِّمُ بأن لا مفرَّ من جمع الثلاثة في مقالة واحدة، وقد وهبتِ الصورة نفسَها معادلاً موضوعياً بصرياً لها.

مؤتمر ماكيريري بآثاره وانعكاساته على الأدب الأفريقي هو الموضوع الرئيس في «نهضة الرواية الأفريقية». كانت المهمة الأولى على أجندة المجتمعين في كمبالا، الذين استثنوا من الحضور كل الذين يكتبون بغير الإنجليزية، تطويق الأدب الأفريقي بحدود التعريف. ولأنه لا توجد حدود دون نشوء لثنائية الداخل - الخارج، فإنهم لم يقصوا الآداب الأفريقية بلغات المستعمر الأخرى فحسب، بل أبقوا خارج الحدود كل الأعمال الأدبية المنشورة باللغات المحلية التي نشرت قبل 1962. على اعتبار أن كل ما سبق ماكيريرى من ثمانينات القرن التاسع عشر كان خطابة.

ينتقد موكوما أدباء ماكيريري على تعريفهم الضيق والإقصائي للأدب الأفريقي، ويدعو إلى أدب أفريقي بلا حدود، يشمل الكتابات المبكرة، وآداب الشتات الأفريقي، والقص الشعبي «popular fiction»، وإلى تقويض التسلسل الهرمي الذي فرضته «الإمبراطورية الميتافيزيقية الإنجليزية»، التي امتد تأثيرها إلى ما بعدَ جلاء الاستعمار، ولم يسلم موكوما نفسه ومجايلوه من ذلك التأثير، فقد نشأ في بيئة معادية للغات الأفريقية. من الأسئلة التي قد تبزغ في ذهن القارئ: ألم يمارس موكوما الإقصاء أيضاً؟ فقد انتقد «أصحاب ماكيريري»، ولم ينتبه إلى أن كتابه «نهضة الرواية الأفريقية» لم يتسع للرواية الأفريقية باللغة العربية وبلغات الاستعمار الغربي الأخرى في أفريقيا.

الأشياء لم تتغير في «فيكتوريانا»

بإزميل حاد نحتت وانجيكو وا نغوغي عالم القصة في روايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر»، فجاءت لغتها سهلة وسلسلة، توهم بأن القارئ لن يواجه أي صعوبة في قراءتها. في هذا العالم تتمدد دولة «فيكتوريانا» على مساحة مناطقها الثلاث: ويستفيل ولندنشاير وهيبولاند، ويتربع فيها على عرشه «إمبراطور مدى الحياة». تقدم الرواية «فيكتوريانا» كصورة للدول الأفريقية، التي شهدت فساد وإخفاقات النخب الحاكمة وإحباط آمال الجماهير بعد الاستقلال.

الحكاية في «مواسم في بلاد أفراس النهر»، ترويها بضمير المتكلم الشخصية الرئيسة (مومبي). تبدأ السرد من سن الثالثة عشرة، من حدث له تأثير كبير في حياتها. فبعد افتضاح تدخينها السجائر مع زميلاتها في المدرسة قبل نهاية العام الدراسي بأيام، يعاقبها والداها بإرسالها برفقة شقيقها من «ويستفيل» إلى «هيبولاند» حيث تعيش عمتها سارة.

العمة سارة حكواتية انخرطت في شبابها في حركة النضال ضد المستعمرين، وبعد الاستقلال، وظفت قصصها لبث الأمل والشجاعة وتحريك الجماهير ضد الإمبراطور. الحكاية التي ترويها مومبي هي قصة نموها وتطورها إلى «حكواتية» ترث عن سارة رواية القصص، والتدخل في شؤون الإمبراطورية، لينتهي بها المطاف في زنزانة في سجن الحراسة المشددة. هنا تتسلل خيوط من سيرة نغوغي واثيونغو إلى نسيج الخطاب السردي. إن السرد كقوة وعامل تأثير وتحريض على التمرد والتغيير هو الثيمة الرئيسة في الرواية. ولدرء خطره على عرشه، يحاول الإمبراطور قمع كل أنواعه وأشكاله.

* ناقد وكاتب سعودي