سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

كفاءة إنفاق الرياض

ما إن تقرأ شيئاً في سيرة ريتشارد ثالر، الأستاذ في جامعة شيكاغو الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد، هذا العام، حتى يتبدى أمامك ملمح مهم من ملامح «الرؤية 2030»، التي جرى إعلانها في الرياض قبل فترة من الآن!
فالعاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز، ومن ورائه الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، يريدان الوصول إلى يوم في هذه «الرؤية»، تستطيع فيه المملكة أن تعيش على موارد كثيرة، ليس من بينها البترول.
والوصول إلى مثل ذلك اليوم، ليس سهلاً طبعاً، أو شيئاً مجانياً، لكنه رغم هذا كله ممكن بشيء من العزم، وشيء مثله من الحزم، وكلا الشيئين حاضر بين ثنايا «الرؤية»، وظاهر!
فما علاقة ثالر بالموضوع؟!
علاقته أنه أستاذ تحليل اقتصادي، وقد حاز نوبل هذه السنة لأنه أنجز أشياء مهمة في تحليل السلوك الاقتصادي، على مستويين معا؛ مستوى الفرد في أي سوبر ماركت، ثم مستوى الدولة في أسواق المال، وبالطبع في غير أسواق المال!
وهو تحليل يراد به القول لكل صاحب سلوك اقتصادي، إن سلوكه في اتجاه معين، يمكن جداً أن يكون أفضل من السلوك نفسه في اتجاه آخر، من حيث العائد الذي سيتحقق على صاحب السلوك، سواء كان صاحبه فرداً، أو كان كياناً عاماً في صورة دولة!
وبمعنى آخر، فإن الهدف هو أن تنفق مبلغاً من المال أقل، فتحقق عائداً يحققه آخرون بمبلغ مُضاعَف، أو بمبلغ أكبر في أقل القليل!
وهو مبدأ أطلق عليه الأمير محمد: كفاءة الإنفاق!
وقد اتضح أن هناك آخرين فهموا فكرة تحليل السلوك الاقتصادي، لدى ثالر، بشكل مختلف، وجربوا ما فهموه في بلادهم، ونجحوا فيه إلى حد كبير فعلاً!
فالدكتور يوسف بطرس غالي، كان وزيراً للمالية في مصر، خلال السنوات السابقة على 25 يناير (كانون الثاني) 2011، وفي ذلك الوقت صمم حملة إعلامية وإعلانية لإغراء الناس بأداء ضرائبهم المستحقة، وما حدث أنه حقق من ورائها عوائد لم يحققها وزير في مكانه من قبل، رغم أنه كان قد قرر قبل تطبيق الحملة، النزول بنسبة الضرائب، لنسبة أقل مما كان معمولاً بها قبل أن يصبح هو وزيراً!
كان المتوقع، بل المؤكد، أن تقل الحصيلة الإجمالية التي ستعود على الخزانة العامة للدولة، ما دامت النسبة التي سيجري التحصيل على أساسها، هي 20 في المائة‏ مثلاً، بدلاً من 25 في المائة‏، لكن الذي حدث أن الحصيلة ارتفعت، ولم يكن لارتفاعها من تفسير، سوى أن الوزير المسؤول قد درس السلوك الاقتصادي للممول، ثم اشتغل على هذا الأساس... أساس القرار المدروس!
ولا تزال قصة يوسف بطرس غالي مع الضرائب في مصر، مضرب الأمثال حتى اليوم، كلما جاءت سيرة للضريبة، ولا يزال الذين تابعوا القصة في وقتها يذكرون تماماً كيف أن شعار حملة الضرائب في ذلك الوقت، كان على النحو التالي: الضرائب... مصلحتك أولاً!
وكان معنى الشعار لكل ممول من ممولي الضرائب، أنه وهو يؤدي ما عليه من ضرائب مستحقة، إنما يحقق مصلحة شخصية له هو نفسه، قبل أن يسدد ما عليه للدولة... وتلك قصة طويلة أخرى... غير أن المهم فيها أن تستطيع الدولة إقناع مواطنيها بأن ضرائبهم عائدة إليهم في النهاية، في صورة خدمات عامة لا بديل عن أن تقدمها كل دولة لأبنائها بمستوى معين!
وكان من حظ بريطانيا أن رئيس وزرائها الأسبق، توني بلير، استلهم من نظرية ثالر في دراسة السلوك الاقتصادي، شيئاً يتفق مع ما استلهمه يوسف بطرس في شيء، ويختلف معه في شيء آخر!
كان يتفق معه في أن تعظيم العائد من الضرائب، مسألة لا غنى عنها لأي دولة راغبة في أن تقدم لرعاياها خدمات عامة تليق بها، وتليق بهم، غير أن جمع أكبر قدر ممكن من الحصيلة الضريبية، إذا كان أمراً مهماً، وهو كذلك دون شك، فالأهم منه هو كيف ننفق هذه الحصيلة بكفاءة أعلى!
ولم يكن ولي العهد السعودي بعيداً عن هذا الإطار، في كل مرة تكلم عن 2030، وإنما كان في القلب منه كإطار حاكم لإنفاق المال العام في المملكة!
كان في القلب منه؛ لأنه أراد للكفاءة، بصفتها معياراً، أن تكون حاكمة لكل ريال من الميزانية العامة؛ ولأنه يريد بنصف ما هو مخصص من مال للميزانية، مثلاً، تحقيق ما كان مُخططاً له أن يتحقق بالميزانية كلها!
ومن أجل هذا الهدف، أنشأ جهازاً له مهمة واحدة، هي مراجعة كل المشروعات المُدرجة على الميزانية العامة للدولة السعودية، ليضمن أن الكفاءة في الإنفاق حاضرة فيها، وليُثبت أنه من الممكن تنفيذ ثلاثة مشروعات، بدلاً من مشروعين، وبالمواصفات نفسها المطلوبة ابتداءً... لكن بميزانية أقل!
ولسنا في حاجة هنا إلى شيء، قدر حاجتنا إلى تصريحات منشورة في فبراير (شباط) من هذا العام، لوزير المالية السعودي، محمد الجدعان، وفيها كان يدلل بالرقم، على أن مبدأ كفاءة الإنفاق أثبت فعالية كبيرة على الأرض، وأنه في عام 2016 وحده، قد وفر للخزانة العامة كذا... وقد كان كذا هذا، بمليارات الريالات!
ولا يبدو مشروع نيوم الضخم، الذي أعلن عنه الأمير محمد مؤخراً، في مؤتمر الرياض حول مستقبل الاستثمار، بعيداً عن مبدأ كفاءة الإنفاق.