أي حدث يُنظم في القصر الكبير «لو غران باليه»، الصرح الباريسي العريق، لا يمر من دون أن يجذب الانتباه. وأي معرض يقام لرسام بوزن بول غوغان (1848 - 1903) لا يمر من دون أن يستقطب عشاق الفن التشكيلي من أنحاء المعمورة. فكيف إذا اجتمع الاثنان: غوغان في القصر الكبير؟
عُرف الفنان الفرنسي بول غوغان بحسّ تشكيلي مرهف يتجلى في معظم أعماله. كما اشتهر بكثرة ترحاله وبهفواته، كرجل، ونزواته وكثرة مغامراته، ولا سيما مع فتيات يافعات من الجزر الاستوائية. لذا؛ طالما أثار غوغان الجدل الأخلاقي كإنسان. لكنه كفنان يظل من النخبة ذات التقدير. والمعرض المقام له حالياً في «القصر الكبير»، القريب من جادة «الشانزلزيه» الشهيرة، يجسد البعدين كليهما، الفني والإنساني، ويُظهر مرة أخرى كيف أن غوغان توسع في فنه فأوصله إلى أبعد الحدود، جغرافياً وتقنياً. كما يكتسب الحدث، المسمى «غوغان الخيميائي»، أهمية أخرى تتمثل في كون آخر معرض خصص له في هذا القصر ذاته يعود لعام 1989.
مثّل غوغان الفنان العبقرية العفوية أو الفطرية، تلك التي لا تنضبط ولا يهدأ لها بال. فهو لم يجد في حياته السلام والاستكانة إلا في أعماله. عاش وكأنه يروم الاحتماء بألوان لوحاته الزاهية من سواد الحياة وبياض العدم. وكان أكثر من أحبّهم وأعجب بهم هم الذين وجّهوا إليه أقسى الانتقادات ورشقوه بالملامة الأكثر إيلاماً، بدءاً من سيزان، الرسام الأكبر منه سناً، وانتهاءً بصديقه إميل بيرنار، الأصغر منه والذي اتهمه بسرقة تقنياته. وعلى ذكر التقنيات، يُجمع النقاد ومؤرخو الفن على أن غوغان، في شبابه، لم يكن على دراية كبيرة بها. وذلك ما يتجلى في لوحات الأولى التي يقدمها هذا المعرض الذي يستمر حتى 22 يناير (كانون الثاني) من العام المقبل. بعد ذلك، راح يستلهم من آخرين تقنياتهم وخبراتهم. لكن ذلك الاقتباس، أو لنقل التقليد، لم يمر مرور الكرام ولم يلق هوى في نفوسهم. لقد اعتبروه، في أفضل الأحوال، نقلاً غير نزيه، وفي أسوأها «سرقة» آثمة. ولم يكن ذلك النهل من تقنيات مبدعين آخرين المأخذ الوحيد على غوغان؛ إذ عِيب عليه أيضاً معاشرته فتيات صغيرات السن من بنات جزر تاهيتي وبولينيزيا، التي أقام فيها. كان قوي البنية؛ ما أتاح له عجن مواد العمل بيديه عجناً صارماً. وذلك ما يفسر تسمية المعرض الحالي: «غوغان الخيميائي».
يتضمن المعرض الحالي تجديداً ملحوظاً بالقياس إلى الأحداث السابقة عن إبداعات غوغان كرسام يكتنفه الغموض إنما يتسم أيضاً بالتعددية والثراء الفني. فالمعارض السابقة شددت على الرسم الزيتي على حساب الجوانب الأخرى. أما المعرض الحالي فيضم 230 عملاً، من بينها 54 لوحة زيتية، و29 قطعة سيراميك، و35 منحوتة، و14 كتلة خشبية، و67 نقشاً بالحَفر، و34 رسماً تخطيطياً. ومن التحف المعروضة، يتأمل الزائر بدهشة أول عمل خزفي أنجزه غوغان، يمثل آنية زهور، إلى جانب إبداعات متنوعة عائدة لتواريخ مختلفة من مسيرته. إنه حدث بكل المقاييس لأنه يضم معظم لوحاته الزيتية الشهيرة التي تمت استعارتها من متاحف ومجموعات شخصية عدة، ولا سيما من اليابان والولايات المتحدة الأميركية.
من تلك الأعمال، تستوقف الزائر لوحة «فلاحتان من بروتاين». فمنطقة بروتاين، أو بريتاني، تقع في شمال غربي فرنسا. لكن المثير للعجب هو أن إحدى الفلاحتين تبدو من جزر هاواي، في المحيط الهادي، بعيداً جداً عن فرنسا. إنها من المناطق التي ارتادها الرسام وأحب نساءها اللواتي كن خير موديلات للوحاته. ويجد النقاد سر ذلك «الشوق» في تاريخ اللوحة: إذ رسمها في بلدة بونتافن الفرنسية، في عام 1894، أي بعد عودته من سفرته الأولى إلى جزر المحيط الهادي وقبل سفرته الثانية إلى تلك الربوع الجذابة. ويعزو مؤرخو الفن تشبيهه مزارعات بونتافن بنساء الجزر إلى ولعه بهن ورغبته الشديدة، وقتها، بالعودة إليهن. وذلك ما أقدم عليه فعلاً. أما لوحة «في الأمواج»، التي أنجزها عام 1889، فهي مثيرة للدهشة بجدارة. إذ رسمها في ورشته في بونتافن، أيضاً، فتخطى ما كان معروفاً عنه وعن مجايليه. فهو لم يجد موديلاً من نساء المنطقة، فتخيل فتاة يبدو أنها من الجزر البعيدة، فاللوحة لا تظهر وجهها إنما ظهرها وشعرها الذي «صبغه» بلون أحمر وهاج، وترك البرتقالي الباهت يلوّن جسمها، متعارضا مع لون البحر الأخضر الداكن وزغب الموج الأبيض. كيف كان لتلك الحورية أن تتخبط في أمواج بحر المانش الباردة؟
لم يكفَّ غوغان عن الترحال. ويبدو أنه أصيب بـعدوى السفر منذ الصغر، حين رافق والديه في إقامة في بيرو دامت بضع سنوات. كأن هذا الفرنسي القح حمل عصا رجل ذي روح بدوية، طاف بالدنمارك وتزوج شابة من هناك، لكنه تخلى، لاحقاً، عن سماوات الشمال الباردة الغائمة، مفضلاً شواطئ الجزر الدافئة ونساءَها الطيبات المضيافات. وقبل ذلك، بين عامي 1886 و1889، تنقل بكثرة بين باريس وبونتافن «مقره الرسمي» في مقاطعة بروتاين، وجزيرة مارتينيك في البحر الكاريبي، ومدينة آرل، في جنوب فرنسا، حيث تجاور مع الرسام الهولندي ذائع الصيت فان غوغ. وأخيراً، حطّ الرحال في جزر أوقيانوسيا. كان عبقرياً في حل إشكالية المكان. وعبقريته تلك في فهم الفضاء الجديد جعلته يدرك ضرورة أن يتعارك مع الألوان ويعرك زيوتها أثناء الرسم. وهي قسوة إبداعية أراد منها أن ينفث اللون أبهى ما فيه فيسرّ الناظرين.
في لوحة «شبح الأموات يراقب»، المعروضة أيضاً في «القصر الكبير»، تظهر رفيقة غوغان اليافعة «تيها أمانا» متمددة على بطنها ببشرتها السمراء، تدير وجهها إلى اليمين فتبدو مهمومة، قلقة، كأنها تتهيب من كارثة وشيكة. وقد ذكر الرسام في كتابه «نوا نوا»، المتاحة مسودته الأصلية في المعرض، أن سبب قلقها كان حلماً مزعجاً رأت فيه شبحاً شريراً، وفق معتقدات التطير لدى سكان جزر ماركيز. وبالمقاييس الأخلاقية لزمننا الراهن والشروط الصارمة للتعامل مع «البيدوفيليا»، ينتاب الزائر نوع من الحرج من إمعان النظر في الموديل المرتمية على فراش أصفر. وقد يفكر بأولئك الذين انتقدوا غوغان «الرجل». لكن ذلك زمن آخر، وللفنان المبدع مثل الشاعر المبدع، قد يجوز له ما لا يجوز لغيره. فيما يخص غوغان، فهو قد ابتعد طوعاً عن الغرب وأخلاقياته وراح ينشد السعادة في تلك الجزر النائية، حيث قواميس الأخلاق مختلفة.
في شهر أبريل (نيسان) 1903، كتب غوغان إلى صديقه الشاعر شارل موريس قائلا: «أنا ممرغ في الأرض، لكنني لم أهزم بعد». وبعد شهر، في مايو (أيار) 1903، قضى نحبه عن 55 عاماً.
غوغان {الخيميائي} في ضيافة «القصر الكبير»
معرض باريسي يلقي نظرة متجددة على إبداعات الفنان الفرنسي
غوغان {الخيميائي} في ضيافة «القصر الكبير»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة