ينتظر جمعة الخلف بفارغ الصبر، والكثير من النازحين، في مخيم عين عيسى الواقع على بعد خمسين كيلومتراً شمال غربي الرقة، السماح لهم بزيارة مسقط رأسهم لتفقد ممتلكاتهم بعد انتهاء المعارك القتالية وتحريرها من تنظيم داعش، بعدما أجبروا على تركها جراء الاشتباكات العسكرية التي دامت أكثر من أربعة أشهر بين يونيو (حزيران) وأكتوبر (تشرين الأول) من العام الحالي.
جمعة (38 سنة)، كان يعمل في مهنة الحلاقة الرجالية ويسكن في حي المشلب. وبعد سيطرة تنظيم داعش على الرقة بداية عام 2014، أجبر الكثير من صانعي مهنة الحلاقة على إغلاق محالهم التزاماً بقرارات التنظيم، كان من بينهم جمعة الذي حُرِم على مدار ثلاثة سنوات من الإمساك بمقص والوقوف خلف كرسي الحلاقة.
أما اليوم، وفي خيمة صغيرة بمخيم عين عيسى تحمل شعار المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، مغطاة بألواح معدنية، عاد خلف لعمله واضعا كرسيه للحلاقة وبعض الأدوات البسيطة التي جلبها معه أثناء نزوحه قبل ستة شهور.
وبعد إعلان تحرير المدينة في 17 الشهر الحالي على يد «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، اختلطت لدى جمعة مشاعر الفرح بالحزن، وقال: «فرحت بالخلاص من (الدواعش)، لكنني أخاف على منزلي والمحل أن يتعرضا للدمار، فالمشاهد الأولى التي شاهدتها على القنوات التلفزيونية كانت صادمة لأن نيران الحرب لم تترك شيئا».
ويعم الدمار في الرقة، حيث بدا المشهد صادماً لأهالي المدينة بعد تحريرها، وبات من الصعب التفريق بين منزلٍ ومتجر؛ إذ تحول معظمها إلى جبال من الركام وتناثرت الحجارة وأنابيب المياه وأسلاك الكهرباء في قارعة الشوارع، وتكدست أكوام من النفايات، وتحتاج المدينة إلى جهود ضخمة وأشهر عدة حتى يسمح بعودة هؤلاء النازحين.
وعن أسعار الحلاقة والزبون الذي لا يملك مالاً، قال جمعة: «تسعيرة حلاقة الشعر مع الذقن هي 500 ليرة سوريا، ما يعادل دولاراً أميركياً، أما قص الشعر وحده فآخذ من الزبون 250 ليرة، أي نصف دولار، والذي لا يملك ثمن الحلاقة أقول له اجلس وسأقص شعرك بالمجان».
على غرار جمعة، تنتظر علياء (58 سنة) النازحة في مخيم عين عيسى أن تتمكن من العودة إلى مدينتها في أقرب وقت ممكن، وكانت تسكن بالقرب من دوار الدلة وسط الرقة، لكن الأبنية المحيطة بها تحولت إلى أكوام من الأنقاض، وشاهدت صوراً على هاتف أحد أقربائها الذي تمكن من الذهاب إلى المدينة بعد إعلان التحرير، لتقول: «شاهدت الصور حيث كل الأبنية المحيطة بالدوار تعرضت لدمار كلي وسويت على الأرض، منزلي يقع في الكتلة الثانية بعد الدوار، حقيقة أخشى أنه تعرض للدمار كباقي المنازل».
علياء وأثناء حديثها اغرورقت عيناها بالدموع وعبرت عن مشاعرها المشوشة، لتقول: «حتى إذا رجعنا ورأيت البيت، أين أهل المكان، ابني البكر سامر قتل بالمعارك ضد (داعش) وابني الثاني ماهر هاجر إلى أوروبا، أما بناتي الثلاث فقررنّ البقاء عند خالتهن في مدينة حلب، حتى إذا رجعنا ما راح يرجعوا أحبتنا».
في حين بدت علامات الحيرة على وجه أم حسان (42 سنة) التي كانت تقوم بحراسة حصتها الغذائية الشهرية من برنامج الأغذية العالمي أثناء توزيعها في المخيم، وازدادت تجاعيد وجهها وهي في هذه السن، تنهدت وحاولت الكلام بصعوبة وقالت: «بقينا سنين حتى عمّرنا بيتنا، لكنه تدمر بلحظة... لقد فقدنا كل شيء حتى ملابسنا وأثاث المنزل، لم أكن أتوقع أن نترك بلحظة كل شيء ويحدث لنا كل ذلك».
وتأكدت أم حسان أن منزلها الكائن في حارة البدو، التي بقي مقاتلو تنظيم داعش، يقاتلون فيها حتى اللحظة الأخيرة، إنه انهار كلياً، وتضيف: «نحمد الله أننا نجونا من موت محكم»، وهي ترفع كلتا يديها إلى السماء.
أما حسين (26 سنة) المنحدر من حي الدرعية وسط الرقة، والذي كان يجلس تحت خيمة صغيرة تتمايل مع الرياح، بادر إلى سؤال: «متى بإمكاننا العودة إلى الرقة؟»، حيث باتت العودة إلى الرقة شبه المدمرة الحلم الذي يستعجل النازحون تحقيقه، ونظر إلى جهة الشرق حيث تقع مدينته، وملامح التعب بادية على وجهه، ليقول: «كرهنا المخيم والعيش فيه، الطعام قليل، والأتربة في كل مكان، إن شاء الله عودتنا تكون قريبة».
وسئم الكثير من النازحين العيش في مخيم عين عيسى الذي بات يؤوي أكثر من 23 ألف نازح غالبيتهم من مدينة دير الزور (شرق سوريا)، بحسب جلال العياف، مدير المخيم، ويضيف: «نازحو الرقة نحو 8 ألاف يسكنون قرابة 1500 خيمة، أما الذين تم تسجيلهم هنا من مواليد الرقة فتجاوز عددهم مائتي ألف عبروا إلى المناطق المجاورة، في حين يبلغ العدد الإجمالي للمخيم حالياً 23 ألفا، غالبيتهم من مدينة دير الزور؛ لأنها تشهد حملة نزوح كبيرة بسبب المعارك الدائرة هناك».
وترفض سكينة (58 سنة) التي كانت تسكن بالقرب من الجامع الكبير، العودة إلى الرقة سريعاً حتى ولو سمحت لها، وتعزو السبب إلى كثرة الألغام التي زرعها عناصر تنظيم داعش، وتقول: «زوجي قبل أيام قال لي إنه ينوي الذهاب إلى الرقة إذا سمح له، لكنني منعته من ذلك لأنني أخاف أن يموت بلغم أرضي فقد سمعنا أن الدواعش زرعوها بكثافة».
نازحو الرقة في مخيم عين عيسى يتأرجحون بين الفرح والحزن
«الشرق الأوسط» ترصد مشاعر الهاربين من {داعش}
نازحو الرقة في مخيم عين عيسى يتأرجحون بين الفرح والحزن
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة