خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

يا دجلة الخير

بغداد هي القلب النابض للعراق، ونهر دجلة هو الشريان الدافق لبغداد. لهذا اختار الخليفة المنصور ضفاف دجلة لبناء العاصمة الجديدة، مدينة السلام. ومن يوم ولادتها ظل هذا النهر الخالد مصدر الحياة فيها. على ضفافه وعلى جسوره يقضي البغداديون معظم فعالياتهم؛ حفلاتهم وسهراتهم ونزهاتهم. وعلى ضفافه بنوا مساجدهم، وأقاموا مقاهيهم وحدائقهم ومدارسهم، وغنوا أغانيهم ونظموا روائع شعرهم.
يا دجلة الخير...
حييت سفحك من بعد فحييني
يا دجلة الخير يا أم البساتين
إني وردت الماء صافية
نبعاً فنبعاً فما كانت لترويني
لا نهر التيمس في إنجلترا، ولا السين في فرنسا، ولا الراين في ألمانيا، نبعاً فنبعاً فما كانت لتروينا...
يا أم بغداد من ظرف ومن غنج
مشى التبغدد حتى في الدهاقين
عندما بنى المنصور عاصمته الجديدة بدلاً من الكوفة، أقامها على الجانب الجنوبي الغربي من نهر دجلة، لتشكل البادية خلفاً له، ويكون النهر حاجزاً أمام الأعداء في الشمال. بيد أن تكاثف السكان اضطرهم لعبور النهر، فانتقلوا إلى ما يسمى صوب الرصافة على الشمال الشرقي. سرعان ما اضطر الخلفاء إلى ربط الجانبين، الكرخ إلى الجنوب والرصافة شمالاً، بجسر عائم يربط الجانبين. وأصبح هذا الجسر ظاهرة حيوية مهمة في حياة العاصمة. يتنزهون عليه ويسوقون حاجاتهم على الجانبين. وأوحى ذلك للشعراء والكتاب لبث مشاعرهم وأفكارهم.
كان ابن بطوطة من أول من كتبوا عن هذا الجسر، فوصفه بإعجاب كبير عند زيارته لبغداد. وتغنى الشعراء، فقال علي بن الجهم هذا البيت الشهير:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
غناه كثيرون، ومنهم فهد مشعل الشاطري. وكتبت روايات مختلفة، منها رواية كمال السيد «على الجسر ببغداد».
وقد أخذ جسر بغداد أسماء كثيرة، فسمي جسر الوالي في العهد العثماني، وجسر مود في عهد الإنجليز، وجسر الشهداء بسبب ما جرى عليه من مصادمات وقتولات. فأنشد المتظاهرون هوسة: «عالجسر، عالجسر، الدقة صارت عالجسر».
دجلة الخير، والخير لا يحبه صدام حسين، بادر لبناء قصوره، وكل قصر أخذ مساحة من ضفافه. منع الناس من المرور أمامها والزوارق فوق مياهها. وبذلك أهملت الزوارق وتلفت، ومعها ماتت تقاليد السفرات النهرية وحفلات المسقوف على شواطئها. لم يبق من صيادي السمك غير اثنين أو ثلاثة. ولكن النهر الخالد ظل يجري ويجري. وراح الشاعر الجواهري يهيب به ويستحثه لينتفض:
يا دجلة الخير كم من كنز موهبة
لديك في القمقم المسحور مخزون
لعل تلك العفاريت التي احتجزت
محملات على أكتاف دولفين
لعل يوماً عاصفاً جارفاً عرماً
آت فترضيك عقباه وترضيني
وجاء ذلك اليوم، وانتفضت دجلة الخير، وتحررت من عبوديتها وأسرها، وفر شياطين الأذى من أرصفتها.