د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

النظر إلى الخلف والأمام

لا يزال هناك من يهتم بالصراع العربي - الإسرائيلي على الأقل في مؤسسات أكاديمية ومراكز بحوث تحاول أن تبقي الاهتمام قائماً بصراع تغلبت عليه صراعات أخرى في منطقة الشرق الأوسط. وهذا العام تجمعت ثلاث مناسبات جعلت الاهتمام به نوعاً من التذكرة بمسألة مهمة لا يجوز نسيانها؛ لأنها كانت حاكمة في رسم تاريخ المنطقة، ومن يعلم مستقبلها أيضاً. مرور 100 عام على وعد بلفور، و70 عاماً على قرار التقسيم، و50 عاماً على حرب يونيو (حزيران) 1967 وضعت الصراع مرة أخرى على مائدة ندوة في جامعة «برانديز» الأميركية كان عنوانها «النظر إلى الخلف والنظر إلى الأمام». السؤال الصعب كان «هل من الممكن الآن أن نقدم هذه المحاولة بينما العالم والدنيا بأسرها تتغير بسرعة مخيفة؛ وهل بات هناك بال في المنطقة للنظر في قضية كانت يوماً ما مركزية؟»... الظن أن الأمر كله يحتاج إلى تفكير مختلف عن كل ما سبق من تفكير دار بين العرب كما دار بين الفلسطينيين والإسرائيليين أيضاً، ودار في معظم الأحيان حول ثلاث مدارس فكرية: الأولى بحثت في القيم، مثل العدالة وحق تقرير المصير، وحرية الشعوب والهوية التاريخية للجماعات؛ والثانية ركزت على القانون والقرارات الدولية؛ بحثاً عن شرعية كامنة أو ظاهرة؛ والثالثة نسميها واقعية، حيث الجغرافيا السياسية تفرض البحث في توازنات القوى وترتيب الأولويات القومية.
وعد بلفور كان كما وصفه الرئيس جمال عبد الناصر في رسالة إلى جون كنيدي عام 1960 وعد من لا يملك (البريطانيون) لمن لا يستحقون (اليهود) دون موافقة المالكين والمستحقين (الفلسطينيون). لكن ذلك لم يكن المعضلة الوحيدة؛ فالوعد كان متنافساً مع وعود أخرى وزعتها بريطانيا ذات اليمين والشمال، فوعدت العرب بمملكة واليهود بدولة واليونانيين بأرض والفرنسيين بمستعمرات؛ كانت أراضي الإمبراطورية العثمانية كافية لرشوة الجميع بما يكفي لانتصار بريطانيا في الحرب العالمية الأولي. فاعلية الوعود كانت تأتي من الموعودين، ومدى قدرتهم على خلق الحقائق على الأرض، سواء كانت هذه الحقائق بشراً أم مؤسسات أم قوة بأشكالها المختلفة. وما حدث فعلياً ليس فقط أن اليهود أقاموا هذه الحقائق بأسرع وأكفأ مما فعل العرب والفلسطينيون منهم، بل أكثر من ذلك، فإن مشروع النهضة والتحديث الذي بدأ في القرن التاسع عشر وبرز في أكثر من دولة عربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين سرعان ما ابتلعه الصراع. «الصهيونية» باعتبارها التعبير عن «القومية اليهودية» مهما كانت علمانية القائمين عليها، فإنها سرعان ما وجدت مقابلها في قومية «إسلاموية» سرعان ما ظهرت وتوالدت في أشكال مختلفة بدأت مع الإخوان ولم تنته مع «داعش».
درس آخر برز من النظر إلى الخلف، وهو أن القوة العسكرية مهما بلغت من بأس لها حدود، ولم يكن في مقدورها حسم الصراع؛ وفي بعض الأحيان المنتصرة فإنها جعلت الأمن مهدداً بأكثر مما كان قبل الانتصار. في عام 1982 غزت إسرائيل لبنان حتى احتلت أول عاصمة عربية، بيروت، وطردت منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس، لكن نتيجة استخدام القوة كان ظهور «حزب الله» ووصول إيران إلى البحر المتوسط والحدود الإسرائيلية. تغير شكل الصراع من طابعه «الوجودي» إلى حالة من التعايش عندما جرت المفاوضات المباشرة بين الأطراف؛ لكن عندما طرحت مبادرة السلام العربية فإن إسرائيل لم تتحملها على الأقل حتى الآن. كان الصراع في كل الأحوال يتكيف مع التغيرات الجارية في النظام الدولي، سواء كان في عهد الاستعمار أم التحرر من الاستعمار، وفي زمن القطب الأوحد (بريطانيا قبل الحرب الأولى وأميركا بعد الحرب الباردة) أو وقت الأقطاب المتعددة، وعصر القطبية الثنائية. تبدل النظام الدولي وتغير وكان مولد الدول القومية كما كان ظهور «العولمة»، وفي كل مرة كان الصراع يتكيف مع علاقات جديدة، لكن جوهره ومحتواه بقي على حاله. الخلاصة في النهاية، أن المناعة العامة للإقليم ضعفت بسبب الصراع، فبات مرتعاً للقوى الدولية والإقليمية الواقعة على أطرافه، مثل إيران وغيرها.
النظر إلى الأمام يبدأ من إدراك حقيقة ملموسة، وهي أنه بعد 100 سنة من الصراع و70 عاماً على التقسيم و50 عاماً على احتلال إسرائيل لكافة الأراضي الفلسطينية، فإن هناك 12 مليوناً من البشر يقيمون بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، ونصفهم من الفلسطينيين والنصف الآخر من الإسرائيليين. ورغم العداء والكراهية والمرارة القائمة، والعدوان الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية، فإن هناك حالة من الاعتماد المتبادل الذي لا يمكن تجاهله. ففي هذه المساحة من النهر إلى البحر تستخدم عملة نقدية رئيسية وهي «الشيكل»، وهناك نظام ضربي وجمركي تشترك فيه إسرائيل مع السلطة الوطنية الفلسطينية، ومع الانتقال اليومي لـ150 ألف فلسطيني للعمل في إسرائيل، والاعتماد الأمني المتبادل فإن وضعاً جديداً في العلاقة بات لا يمكن تجاهله. حسين أغا وأحمد الخالدي نشرا مقالاً في صحيفة «نيويوركر» الأميركية تحت عنوان «نهاية الطريق: التدهور في الحركة الوطنية الفلسطينية» طرحا فيه أمرين: أولهما أن الحركة الوطنية الفلسطينية التي قامت على أكتاف ياسر عرفات وفتح ومنظمة التحرير الفلسطينية وسلطتها الوطنية قد فقدت قوة اندفاعها، ولا يوجد هناك من يحل محلها. والآخر، أنه رغم هذا الوضع المحزن فإن الفلسطينيين الإسرائيليين الذين تعلموا التعامل مع الواقع السياسي الإسرائيلي أصبحوا يقدمون منحى جديداً للوطنية الفلسطينية يشكل «تحولاً ملحوظاً» في طبيعتها السياسية. الكاتب الإسرائيلي يوسي ألفر كتب في مؤسسة «بروكينجز» الأميركية مستنكراً، لكنه يقرر واقعاً أنه «مع عام 2017 فإن إسرائيل وفلسطين انزلقا على منحدر زلق في اتجاه كيان سياسي واحد». كلا الطرفين على طريقته الخاصة كان عليه مواجهة واقع إقليمي تغير بعنفوان عنيف خلال السنوات السابقة، سواء بسبب «الربيع العربي»، أو الراديكالية المتأسلمة، أو الحروب والصراعات الأهلية، أو التمدد الإيراني والتركي؛ وكلاهما بات عليه التعامل مع ما سوف يترتب على كل ما جرى ويجري في العراق وسوريا ولبنان من نتائج.
النظرة إلى الأمام تفضي إلى مراجعة لما استقر عليه العرف الدبلوماسي والسياسي في المنطقة، فهناك مجال سياسي واقتصادي وأمني يجمع الفلسطينيين والإسرائيليين؛ هذا المجال ليس موضع اتفاق لا بين الفلسطينيين، ولا بين العرب في عمومهم، ولا إسرائيليين بالطبع، لكن هذا المجال يفرض نفسه ويتعمق كل يوم حتى وهو يتعايش مع واقع العداء والرفض وحتى الخوف من احتمالات العنف ونشوب الحروب. التفاعلات الواقعة على الأرض تفرض واقعاً جديداً ترسخ بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والسعار الاستيطاني الإسرائيلي، وحروب غزة الثلاثة، وسعي السلطة الوطنية لفرض قيام دولة فلسطينية من خلال الأمم المتحدة والمجتمع الدولي. الواقع يشكل مجالاً موحداً يظلل تقسيماً لا يمكن تجاهله؛ وفي كل الأحوال فإنه يدعو إلى أنواع جديدة من التفكير.