الثقافة CULTURE 18 Issue 17200 - العدد Wednesday - 2025/12/31 الأربعاء من حكمة «بيكون» إلى مئوية الحداثة ... حارسة الذاكرة الثقافية 2025 بريطانيا عام فــــي روزنـــــامـــــة المــمــلــكــة 2025 لا يــــبــــدو المــتــحــدة الــثــقــافــيــة مـــجـــرد مـحـطـة اعـتـيـاديـة لطي صفحة عام وفتح أخرى. ففيه، تتواطأ الـــتـــواريـــخ لـتـجـمـع فـــي ســلــة واحــــــدة حـصـاد قـــرون مـتـبـاعـدة: حكمة الــقــرن الـسـابـع عشر التأسيسية، ورومانسية القرن الثامن عشر الاجتماعية، وانفجار الحداثة في الربع الأول من القرن العشرين، وصولا إلى أسئلة الذكاء الاصطناعي في راهننا المعاصر. الـــجـــزيـــرة الــبــريــطــانــيــة كـــانـــت أقـــــرب ما يكون إلى مختبر مفتوح، يعيد قـراءة هوية الغرب الثقافية عبر رموزها الأكثر رسوخاً. هـنـا، نــحــاول رســـم خـريـطـة بـانـورامـيـة لهذا المشهد، حيث يتجاور «فرانسيس بيكون» مع «جين أوســن»، وتتصالح ضبابية لندن «فـيـرجـيـنـيـا وولــــــف» مـــع صــخــب بــــرادفــــورد عاصمة الثقافة الجديدة في الشمال. ربع ألفية جين أوستن... أيقونة متجددة الــــحــــدث الـــــــذي يُـــلـــقـــي بـــظـــالـــه الــرقــيــقــة والـــســـاخـــرة عــلــى المــشــهــد الأدبــــــي مـــع نـهـايـة الـــعـــام، هــو الاحــتــفــال بــمــرور ربـــع ألـفـيـة على مـــيـــاد الـــروائـــيـــة الإنــجــلــيــزيــة الأشــــهــــر، جين ) الــــتــــي تـــحـــولـــت عـبـر 1817-1775( أوســـــــن العقود إلى «ظاهرة ثقافية» عابرة للأزمنة، أو مـا يصطلح عليه مـؤرخـو الفكر بـ«هوس أوستن». مقاطعة هامبشاير، حيث يقع منزلها فـي قـريـة «تـشـوتـون»، صـــارت قبلة للحجيج الأدبي، وتجاوزت الاحتفالات حيز الجغرافيا لتستعيد «اللحظة الأوستينية» في التاريخ. فـقـد دفـعـت دور الـنـشـر الـبـريـطـانـيـة العريقة مثل «بـنـغـويـن» و«فـيـنـتـج» بطبعات خاصة مــن الـــروايـــات الـسـتـة الــخــالــدة، ونــشــرت عـدة دراســــات نـقـديـة جــديــدة تفكك ســر بـقـاء هـذه الــنــصــوص طـــازجـــة فـــي زمــــان «الــتــيــك تـــوك». وأصــــــــدرت دار «فـــيـــرســـو» ســـيـــرة غـرافـيـكـيـة مميزة رسمتها كيت إيفانز. مدينة «بــاث» التاريخية، التي خلدتها أوســـــــن فــــي «ديـــــــر نــــورثــــانــــجــــر» و«إقـــــنـــــاع»، تحولت شوارعها الحجرية إلى متحف حي، وغـــدا المـهـرجـان الـسـنـوي للاحتفاء بها أكبر من مجرد كرنفال للأزياء التاريخية من فترة مـــا قـبـل الـعـصـر الــفــيــكــتــوري، لـيـكـون منصة لإعادة الاعتبار للروائية بوصفها «النسوية الـــصـــامـــتـــة» و«الــــنــــاقــــدة الاقـــتـــصـــاديـــة» الــتــي وظفت أدوات الأدب لرصد حركة المال والزواج فــــي مــجــتــمــع مـــتـــغـــيـــر. إنـــــه وقـــــت لاســـتـــعـــادة الــحــبــكــة المــحــكــمــة والـــســـخـــريـــة المـــهـــذبـــة الـتـي تضمر تحتها نقدا حادا للطبقية. قرون على «مقالات» فرانسيس بيكون 4 إذا كــانــت أوســــن تـمـثـل تــيــار الـشـعـور يحمل 2025 ودقة الملاحظة الاجتماعية، فإن ذكـــرى تمتاز بالرصانة والـصـرامـة الفكرية. إنه العام الذي وافق مرور أربعة قرون كاملة عـــلـــى نـــشـــر الـــطـــبـــعـــة الـــثـــالـــثـــة والمـــكـــتـــمـــلـــة مـن » لـلـفـيـلـسـوف ورجــــل الــدولــة 1625- «المـــــقـــــالات فرانسيس بيكون. نشر بيكون تلك الطبعة قبل عام واحد مـن وفـاتـه، مـودعـا فيها خلاصة تجربته في الـسـيـاسـة والــحــيــاة. المـؤسـسـات الأكـاديـمـيـة، من كامبريدج إلـى أروقــة المكتبة البريطانية في «سانت بانكراس»، نظمت نـدوات أعادت قـــراءة مقالاته الشهيرة مثل «فـي الحقيقة»، «في الموت»، و«في الفتن والقلاقل». تـكـمـن أهـمـيـة هـــذه المــئــويــة الــرابــعــة في استعادة اللغة البيكونية؛ تلك اللغة المكثفة، المـتـمـاسـكـة، الــتــي أســســت لـلـنـثـر الإنـجـلـيـزي الـحـديـث. ويـتـم تسليط الـضـوء على أعماله بــصــفــتــه أبـــــا لــلــمــنــهــج الـــتـــجـــريـــبـــي الــعــلــمــي، ومـــهـــنـــدســـا لـــلـــســـيـــاســـة الــــواقــــعــــيــــة، ومـــفـــكـــرا اسـتـشـرف مبكرا عـاقـة «المـعـرفـة» بــ«الـقـوة». الاحتفاء ببيكون اليوم احتفاء بالعقل المجرد فـــي مـــواجـــهـــة فـــوضـــى الـــعـــواطـــف الـسـيـاسـيـة وحروب الشعبويات. مئوية الحداثة: «السيدة دالواي» تشتري الزهور بـالانـتـقـال مــن الــقــرن الـسـابـع عـشـر إلـى ،1925 : الـعـشـريـن، يـواجـهـنـا تــاريــخ مفصلي الــذي يُــعـرف فـي النقد الأدبـــي بعام «المعجزة الــحــداثــيــة»، وفــيــه، نــشــرت فيرجينيا وولــف روايـتـهـا الـتـي غـيـرت مـسـار الــســرد الــروائــي: «السيدة دالواي». «قــالــت الـسـيـدة دالـــــواي إنـهـا ستشتري الــزهــور بـنـفـسـهـا». هـــذه الجملة الافتتاحية الـشـهـيـرة تــــرددت أصـــداؤهـــا فــي أرجــــاء لندن ، ونـظـمـت المــؤســســات الـثـقـافـيـة، 2025 طــــوال بالتعاون مع «الصندوق الوطني»، مسارات أدبــــيــــة تــقــتــفــي أثـــــر «كـــاريـــســـا دالـــــــــواي» فـي شوارع وستمنستر وبوند ستريت. تخطى الاحتفال بوولف فضاء السياحة الأدبـيـة ليكون تكريسا لمــرور قـرن كامل على تـقـنـيـة «تـــيـــار الـــوعـــي». وشـــهـــدت الـجـامـعـات والمــــاحــــق الــثــقــافــيــة مـــراجـــعـــات نــقــديــة لإرث «مـجـمـوعـة بـلـومـزبـري» - حلقة غـيـر رسمية مــــن الأصـــــدقـــــاء والأقــــــــــارب (كـــــتـــــاب، فـــنـــانـــن، فـاسـفـة) عـاشـوا وعـمـلـوا وتـجـادلـوا بالقرب مـن منطقة «بـلـومـزبـري» بـوسـط لـنـدن جـوار المتحف البريطاني خــال النصف الأول من القرن العشرين - وتأثيرها في تحطيم القالب التقليدي لـلـروايـة الفيكتورية الكلاسيكية. كما فتح هـذا اليوبيل الـبـاب واسـعـا لمناقشة قـــضـــايـــا الـــصـــحـــة الــنــفــســيــة، والـــعـــزلـــة داخــــل المـديـنـة الـكـبـيـرة، وهــي ثيمات سبقت وولـف إلــــــى تـــشـــريـــحـــهـــا وتــــظــــل شـــــديـــــدة الـــراهـــنـــيـــة للإنسان المعاصر. وفي سياق متصل بـ«المعجزة الحداثية»، يجدر ذكر مئوية قصيدة «الرجال الجوف» لـ ت. إس. إلـيـوت، وروايـــة «غاتسبي العظيم»، لفرنسيس سكوت فيتزغيرالد - التي تعد عند كثير من النقاد الرواية الأميركية الأهم -، ما جعل من العام الحالي فترة لاستعادة «القلق الجميل» الـذي ميز فترة ما بين الحربين في مجمل العالم الأنجلوسكسوني. : الشمال يكتب سرديته 2025 برادفورد بـــعـــيـــدا عــــن مـــركـــزيـــة لــــنــــدن الـــعـــاصـــمـــة، اتـــجـــهـــت الـــبـــوصـــلـــة الـــثـــقـــافـــيـــة شــــمــــالا نـحـو «يوركشاير»، وتحديدا إلى مدينة برادفورد، التي توجت بلقب «مدينة الثقافة في المملكة ». هـــذا الــلــقــب، الــــذي تتنافس 2025 المــتــحــدة عـــلـــيـــه المـــــــدن الـــبـــريـــطـــانـــيـــة بــــشــــراســــة، وضـــع برادفورد تحت المجهر طوال اثني عشر شهراً. بــــــــرادفــــــــورد، تـــلـــك المــــديــــنــــة الـــصـــنـــاعـــيـــة الـعـريـقـة، تـمـثـل، بـريـطـانـيـا، بـوتـقـة انـصـهـار اجـتـمـاعـي وتـــاريـــخـــي. وبـكـونـهـا أول مدينة لـلـيـونـسـكـو فـــي مـــجـــال الــســيــنــمــا، وبـقـربـهـا مــن «هــــــاوورث» (مــوطــن الأخــــوات الـروائـيـات برونتي)، تمتلك إرثا ثقافيا ثقيلاً. وتـضـمـنـت الأنــشــطــة المـــرافـــقـــة للتتويج أكـــثـــر مــــن ألـــــف فــعــالــيــة فـــنـــيـــة، تــــراوحــــت بـن المـعـارض البصرية المعاصرة في «كارترايت هـــــــــول»، وعـــــــــروض المـــــســـــرح الـــتـــجـــريـــبـــي فـي المــصــانــع الـقـديـمـة المــعــاد تـأهـيـلـهـا وغـيـرهـا، كرهان على قدرة الثقافة على قيادة التغيير الاقتصادي والاجتماعي، وتقديم بـرادفـورد أنــــمــــوذجــــا لــلــمــديــنــة الـــبـــريـــطـــانـــيـــة الــحــديــثــة المتعددة الأعراق والهويات، التي تصنع الفن من قلب التنوع. معرض لندن للكتاب: سؤال الورق والرقائق الإلكترونية ،1971 ، وكعادتها منذ 2025 في ربيع كانت قاعة «أوليمبيا» بغرب لندن مسرحا للحدث الأهــم فـي صناعة النشر العالمية: مـــعـــرض لـــنـــدن لــلــكــتــاب. واكــتــســبــت دورة أهــمــيــة خـــاصـــة فـــي ظـــل الــتــحــولات 2025 التكنولوجية العاصفة. تـــجـــاوز الـــحـــديـــث فـــي الأروقـــــــة صـفـقـات حقوق الترجمة والبيع، ليشتبك مع هواجس الــنــاشــريــن ومـنـتـجـي المــحــتــوى تــجــاه تــغّــول الذكاء الاصطناعي، ونظمت نــدوات ساخنة حـــول مستقبل الـكـتـابـة الإبـــداعـــيـــة: إمـكـانـيـة كتابة الآلـــة لـلـروايـة، وسـبـل حماية القوانين لحقوق المؤلفين من «تغذية» النماذج اللغوية بأعمالهم. الجوائز الأدبية والفنون التشكيلية فــــي الـــخـــلـــفـــيـــة، تـــظـــل الــــجــــوائــــز الأدبــــيــــة الـــبـــريـــطـــانـــيـــة الـــكـــبـــرى هــــي الـــضـــابـــط لإيـــقـــاع نـبـض الـحـيـاة الـثـقـافـيـة فــي المـمـلـكـة. وذهـبـت جــائــزة بـوكـر الأدبــيــة المـرمـوقـة لديفيد زالاي ) الـتـي وصـفـت بأنها عمل Flesh( » عـن «لـحـم مـحـفـوف بـالمـخـاطـر حـــول الـضـعـف الـبـشـري، بينما توجت الهولندية يائيل فان دير بودن بـجـائـزة أدب المــــرأة لـلـروايـة عــن عملها الأول ) الذي The Safekeeper( » المذهل «مستودع آمن استعاد أجواء ما بعد الحرب العالمية الثانية، وحـــصـــد سـتـيـفـن ويــــت لــقــب كـــتـــاب الـــعـــام من جريدة «فاينانشال تايمز» عن «الآلة المفكرة» ) الــــذي أرخ لرحلة The Thinking Machine( صعود شركة «إنفيديا» والذكاء الاصطناعي، ونـــال الآيـرلـنـدي دونـــال رايـــان جـائـزة أورويـــل لـــلـــروايـــة الـسـيـاسـيـة عـــن «فـلـيـسـكـن قـلـبـك في )، وأخيراً، توجت Heart, Be at Peace( » سـام المـــــؤرخـــــة هــــانــــا دوركــــــــن بــــجــــائــــزة ولـــفـــســـون لــلــتــاريــخ عـــن كـتـابـهـا الـتـوثـيـقـي «الـــنـــاجـــون» ) الـــــذي تـتـبـع بـــدقـــة قــصــص آخــر Survivors( أسرى سفن تجارة الرقيق عبر الأطلسي. وفــــــي الــــفــــنــــون الـــتـــشـــكـــيـــلـــيـــة فـــتـــح «تـــيـــت مودرن» والمتحف البريطاني أبوابهما لمعارض استعادية ضخمة، تسعى للخروج من عباءة المـــركـــزيـــة الأوروبـــــيـــــة، وتــســلــيــط الـــضـــوء على فنون الجنوب العالمي، لتصفية الحسابات مع المـاضـي الاستعماري عبر الفن والـجـمـال. لقد ، عـبـر هـذه 2025 قـدمـت بـريـطـانـيـا نفسها فــي الفعاليات، حارسة للذاكرة الأدبـيـة، ومختبرا للمستقبل الثقافي الغربي في آن واحد. إنه عام ثري، ذكرنا، وسط ضجيج التكنولوجيا، بأن الكلمة المكتوبة تظل هي الأداة الأقوى لصياغة وعـــي الـبـشـر، وأن دواء الـــحـــروب الـثـقـافـيـة في البحث عن الهم الإنساني المشترك. لندن: ندى حطيط من الاحتفالات بمرور ربع ألفية على ميلاد جين أوستن تكمن أهمية هذه المئوية الرابعة في استعادة اللغة البيكونية؛ تلك اللغة المكثفة، المتماسكة، التي أسست للنثر الإنجليزي الحديث عيد رأس السنة بين التأمل الخلاق والصخب الهستيري لـــم يــكــف الــبــشــر عــبــر تــاريــخــهــم الـطـويـل عــــــن الاحـــــتـــــفـــــال بــــمــــحــــطــــات زمــــنــــيــــة دوريـــــــــة، يستولدونها من حاجتهم الملحة إلى التحلق حــــول رمــــوز ومــعــتــقــدات جــامــعــة، تـــتـــوزع بين الــــديــــنــــي والــــوطــــنــــي والاجــــتــــمــــاعــــي. وهــــــم إذ يـسـمـون هـــذه المــحــطــات أعـــيـــاداً، يـقـيـمـون لها احتفالات وطقوسا متباينة المظاهر والدلالات، ويحولونها إلــى مـسـاحـات للفرح أو الـحـزن، للصخب أو التأمل. اللافت أن التطور المتعاظم الذي أصابته المجتمعات على الصعد العلمية والـتـقـنـيـة لــم يـفـض إلـــى تقليص الــظــاهــرة أو إلـغـائـهـا، بــل تـضـاعـف منسوبها مـــرات عــدة، بعد أن اتخذت طابعا تكريميا لبعض الفئات والـــشـــرائـــح المــهــمــلــة. وهــــو مـــا وجــــد شـــواهـــده المـــثـــلـــى، فــــي ابـــتـــكـــار أعــــيــــاد وأيـــــــام لــاحــتــفــال بالمعلم والعامل والأم والطفل والأب، وصـولا إلى قيام المنظمات الدولية بإعلان معظم أيام السنة، مناسبات للاهتمام بالفئات المهمشة، أو بالتحديات المستجدة الـتـي تـواجـه سكان الأرض. ومــــــع أن الـــتـــقـــالـــيـــد والــــــعــــــادات المـــرافـــقـــة للأعياد ظلت تتأرجح على الـــدوام بين الفرح الاحــــتــــفــــالــــي والـــــحـــــزن الــــــحــــــدادي والـــخـــشـــوع الإيــــمــــانــــي الــــصــــامــــت، تـــبـــعـــا لــطــبــيــعــة الــعــيــد ودلالاتــــــــه، فــــإن «الـــــبـــــراءة» الـــتـــي تــمــيــزت بها الأعياد في العصور السابقة، سرعان ما أخلت مكانها للمظاهر المتكلفة والصخب السطحي. ففي ظل التغيرات الدراماتيكية التي أصابت الحياة المعاصرة فـي ظـل النظام الرأسمالي، تم تحويل الأعياد إلى مناسبات «باخوسية» للتسوق الباذخ والترف المفرط والتهالك على الملذات. ووسـط تكاثر الأعياد وازدحامها، يبدو عيد رأس السنة المحطة الزمنية الأكثر اتصالا بواقع البشر وهواجسهم ووجدانهم الجمعي. وقـد يكون هـذا العيد أحـد أكثر الأعـيـاد قِدماً، رغم أن تعيينه الزمني قد اختلف من عصر إلى آخر. فقد احتفل به البابليون قبل أربعين قرناً، فــي شـهـر مــــارس (آذار)، تــزامــنــا مــع الاعــتــدال الربيعي وتـجـدد الــزراعــة وطـقـوس الخصب. واحتاج الأمر إلى قرون عديدة لاحقة، قبل أن يـقـرر الـحـاكـم الـرومـانـي يـولـيـوس قيصر نقل الاحتفال به إلـى مطلع يناير (كانون الثاني) من كل عام، تكريما ليانوس، إله البدايات عند الرومان. ثم أخذت رقعة العيد الاحتفالية في الاتساع بشكل تدريجي، ليطول في وقت لاحق سائر شعوب الأرض وقومياتها وأعراقها. وإذا كـــان مفهوما أن يتخذ عـيـدا الحب والمـــيـــاد طابعهما الاحـتـفـالـي المـفـعـم بالفرح والنشوة، باعتبار أن الأول مرتبط بالمشاعر الإنــســانــيــة وغـــريـــزة الــبــقــاء، والــثــانــي بميلاد السيد المسيح، وما يعنيه من بهاء الرمز وقوة الــدلالــة، فــإن مـن المـفـارقـات المثيرة للدهشة أن يتم الاحـتـفـاء بـــرأس السنة بكل هـذ الـقـدر من الــضــجــيــج والانـــتـــشـــاء والـــصـــخـــب الـكـرنـفـالـي الكوني، في حين أن انقضاء سنة من أعمارنا المــــحــــدودة يـسـتـوجـب «الــتــشــيــيــع الــــحــــدادي » للعام الــذي خسرناه، أكثر من الابتهاج بعام قادم لسنا متأكدين من ربحنا له. والأرجح أن إحـداث البشر لهذا الضجيج الصاخب ما هو إلا محاولة يائسة لتمويه هواجسهم الفعلية، وتبديد قلقهم الوجودي، وتشتيت خوفهم من فكرة الموت. لــكــن اتـــجـــاه الـــكـــثـــرة الـــكـــاثـــرة مـــن الــنــاس لمــواجــهــة هــــذه المــنــاســبــة المـلـتـبـسـة بــالارتــمــاء في حمأة المتع الحسية الجمعية، لا يصرفنا عــــن مـــاحـــظـــة الـــجـــانـــب الآخــــــر مــــن الــــصــــورة، حيث يؤثر البعض الانـفـراد بأنفسهم بهدف المـــكـــاشـــفـــة الــــذاتــــيــــة، وإجـــــــــراء جـــــــردة حــســاب مفصلة مع النفس، وتؤثر العائلات أن تتحلق حــول نفسها لكي يـواجـه أفــرادهــا بالتضامن والتكافل مخاوفهم المشتركة من غـدر الزمن، فــيــمــا يـــغـــرق المـــتـــوحـــدون والانـــطـــوائـــيـــون في وهدة الإحباط والأسـى، وصـولا إلى الانتحار في حالات الكآبة القصوى. وحيث لا يبدو مستغربا أن يجد كتاب الـعـالـم وفـنـانـوه فــي هـــذا الاسـتـحـقـاق الزمني فرصتهم الملائمة لمراجعة علاقتهم بأنفسهم، أو لـــطـــرح الأســئــلــة المـتـعـلـقـة بـــشـــؤون الـحـيـاة واســـتـــحـــقـــاقـــاتـــهـــا الــــداهــــمــــة، كـــقـــضـــايـــا الــحــب والحرب والصراع على البقاء والتبدل السريع للمصائر، فإننا نعثر في نتاج هـؤلاء الكثير من الشواهد والأمثلة الدالة على ذلك. فالشاعر الأميركي روبرت لويل، المولود في أوائل القرن المنصرم، الذي عايش حربين عالميتين، لا يرى فــي بــدايــات الأعــــوام ســـوى مـنـاسـبـات متكررة لتجديد عهد البشر مع صقيع الضغائن ولهب الــحــروب الــدامــيــة، فيكتب فــي قصيدته «يــوم رأس السنة»: مرة بعد مرة يولد العام في الجليد والموت ولا يجدينا التواري خلف نوافذ العاصفة قرب الموقد بينما الجليد المدّي الرقيق يتآكل فما دمنا أحياء نحن نعيش لنشم دخان الضحايا أمـــا الــشــاعــرة الأمــيــركــيــة سيلفيا بـــاث، التي ارتبطت بعلاقة زوجية صعبة مع الشاعر الـبـريـطـانـي تـيـد هــيــوز، فـقـد رأت فــي نهايات الأعــوام المناسبات النموذجية لتجديد العقد مع مشقات العيش وآلامـه. وهي إذ تشبّه ثقل السنين بالمكابس، كما بحوافر الخيول وزئير الـــنـــمـــور، تـــبـــدو وكـــأنـــهـــا تـــرهـــص بـانـتـحـارهـا الـاحـق الــذي لـم يتأخر كثيرا حـدوثـه، فتعلن ًفي قصيدتها «السنون»: الأبدية التي تملُّني لم أُردها يوما ما أحبه هو المكبس في حركته روحي تموت قبله وحـوافـر الخيول شبيهة بالخض القاسي الــذي لا يرحم أهو نمِر هذا العام، هذا الزئير على الباب؟ وإذ يـــمـــهـــد الـــشـــاعـــر الـــــروســـــي فـــالـــيـــري 1905 بريوسف لقصيدته «على أبـــواب الـعـام الجديد»، بالقول: «في المهد الحديدي والرعب يولد العام الجديد»، يتضح أن الرعب المشار إلـــيـــه هــــو ذلـــــك الـــنـــاجـــم عــــن غـــــرق الأرض فـي الكراهية والعنف الدموي. كما يبدو واضحا أن الـــقـــصـــيـــدة مـــكـــتـــوبـــة بـــتـــأثـــيـــر مــــن الـــحـــرب الـــضـــروس الــتــي قــامــت بـــن روســـيـــا والــيــابــان عــشــيــة ذلـــــك الــــعــــام بـــــالـــــذات. وفـــــي ذلـــــك يــقــول الشاعر: «مضى عام بتمامه كمنام دمـوي، أو كـابـوس خـانـق أصــم، وعـلـى الغيم بـريـق كأنه حمم بركان. اشرأب العام الجديد ماردا عنيفاً، يمسك في كفه الصارمة ميزان خفايا الأقدار». بالانتقال إلى الشعر العربي، لا يرى نزار قباني أن في نهايات الأعوام ما يوجب الغرق في التشاؤم والرؤى القاتمة، أو طرح الأسئلة المؤرقة المتعلقة بأحوال النفس والعالم. فهو لم يكن يجد الوقت لمثل تلك المكابدات، بخاصة في ذروة شبابه، حين كان عشقه للنساء يعفيه من أي مهمة مينافيزيقية بعيدة الغور. وإذا كان له أن يجري، كغيره من المشتغلين بالشعر والــفــن، جـــردة حـسـاب سـريـعـة مــع الــعــام الــذي انصرم، فهي جردة تتعلق بمستحقات الحب وأكلافه. لذلك فهو في مجموعته «هكذا أكتب تـاريـخ الـنـسـاء» يخاطب المـــرأة الـتـي يعشقها بالقول: «اثنا عشر شهرا وأنـا أشتغل كـدودة الــــحــــريــــر، مـــــرة بــخــيــط ورديّ، ومــــــرة بـخـيـط برتقالي. حينا بأسلاك الذهب، وحينا بأسلاك الـــفـــضـــة، لأفـــاجـــئـــك بــأغــنــيــة، تـضـعـيـنـهـا على كتفيك كشال الكشمير، ليلة رأس السنة». أما الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، فلا تـرى في انقضاء الـعـام، ما يوجب الحداد عليه أو استرجاع محطاته وأطيافه، بل هي تشيح بوجهها عنه لتلتفت إلـى مـا يمكن أن يحمله العام الذي يليه من هدايا الحب ووعود الـــخـــصـــب والــــتــــجــــدد، فـــتـــقـــول فــــي قـصـيـدتـهـا «صلاة إلى العام الجديد»: ْما الذي تحمله من أجلنا، ماذا لديكْ؟ ْ أعطِنا حبا فبالحب كنوز الخير فينا تتفجر ْ أعطِنا حبا فنبني العالم المنهار فينا من جديد ونعيد فرحة الخصب لدنيانا الجديبة وإذا كـــــانـــــت طــــــوقــــــان تــــســــتــــخــــدم فــي قصيدتها ذات النبرة التموزية ضمير المتكلم الــجــمــعــي، فــــإن الأمـــــر مــرتــبــط بــأمــريــن اثــنــن، يـــتـــصـــل أولـــهـــمـــا بـــانـــتـــمـــائـــهـــا إلــــــى فــلــســطــن، التي يـواجـه أهلها أشـكـالا عاتية مـن العسف والاضطهاد ومصادرة الأرض، ما يدفعها إلى ربـط أمنياتها بقضايا الوطن وشجونه، أما الثاني فيتمثل فـي كــون الـشـاعـرة التي عانت كـثـيـرا مــن وطــــأة الـتـقـالـيـد المـحـافـظـة، وصـــولا إلــى فشلها المـتـكـرر فـي الـحـب، قـد اتـخـذت من أمنيات شعبها الـرازح تحت وطأة الاضطهاد والـتـشـرد، ذريعتها الملائمة لإعــان تعطشها الشخصي إلى الحب والحرية والتجدد. وقــــد تــكــون قــصــيــدة الــشــاعــر الــســودانــي مـحـمـد عـبـد الـــبـــاري «لـيـلـة رأس الــســنــة»، هي أفــضــل مـــا أخـتـتـم بـــه هـــذه المــقــالــة، لـيـس فقط لأنــهــا تـكـشـف عـــن الــجــانــب الأصـــيـــل والمــشــرق مــن تــجــارب الــشــعــراء الــعــرب الــشــبــان، بــل لأن صاحبها يجانب الاسـتـسـام لأفـخـاخ العزلة الـــكـــابـــوســـيـــة مــــن جــــهــــة، ولـــصـــخـــب الـــجـــمـــوع الهذياني من جهة أخرى، ليجعل من المناسبة فـــرصـــة ثـمـيـنـة لاســتــنــطــاق الــصــمــت، والــلــقــاء الخلاق مع الذات، فيكتب قائلاً: ٌسقطت أوراق التقويم فعلّق تقويم العام الآتي ِ المسرح دائرة والوقت هو الفاصل بين البدء وبين البدء فأوقف ساعتك العمياء وفكّر في الأمر قليلاً.. واتركني أكمل هذي الليلة وحدي لأفتش عن ذاتي شوقي بزيع روبرت لويل نزار قباني
RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky