issue17199

«بيت من الديناميت» ووهم الأمن الأميركي في مشهد ختامي مروّع من فيلم «بيت من الديناميت» (إخراج كاثرين بيغلو وتأليف نوح أوبنهايم. بُث في أكتوبر/ على منصة «نتفليكس»)، تهرع مسؤولة 2025 تشرين الأول حـكـومـيـة مـتـوسـطـة المــســتــوى نـحـو حـافـلـة مُــنـتـظـرة، تحمل حقيبة قماشية على كتفها وتجر بيدها طفلا ذاهلاً. خلفها، تخرج شخصيات أخرى بملابس رسمية من مبان فيدرالية رتـيـبـة، يـتـحـرّكـون بـجـديّــة محمومة تشبه انــدفــاع الموظفين المتأخرين عن قطارهم. تخبرنا شاشة العرض أن وجهتَهم هي «مجمع جبل ريفن روك»، ذلك الملجأ المحفور تحت الجبل في بنسلفانيا، والمُعد لتمكين الحكومة الفيدرالية، منذ عهد الرئيس دوايت أيزنهاور، من إعادة تشكيل نفسِها بعد حرب نووية ماحقة. توّجه بيغلو عبر هذا الموكب الهادئ والمهيب للموظفين المُختارين والموعودين بالنجاة، أقسى نقد للقوة الأميركية يـخـرج مـن هـولـيـوود منذ ســنــوات. لـم يـحـدث منذ أن حبس ستانلي كوبريك شخصيات فيلمه «الدكتور سترينجلوف» فــي «غــرفــة الـــحـــرب»، أن قــــام مــخــرج بـكـشـف المـنـطـق العبثي للاستراتيجية النووية بهذا الشَّكل المرير. ولكن، حيث قدَّم لنا كـوبـريـك هـجـاء سـاخـرا للبيروقراطية، تصفعنا بيغلو بــعــرض واقــعــي ومــزعــج للعمليات الإجــرائــيــة الـتـي تتّبعها النخبة في حالات مماثلة، كأنَّها تصنع عملا وثائقيا بارداً، تصل فـي ختامه إلــى نهاية صـادمـة: نحن لسنا بـــإزاء فشل الـنـظـام، بـل أمـــام الـنـظـام وهــو يعمل بكامل طـاقـتـه. فالمنتج الـنـهـائـي لــدولــة الأمـــن الـقـومـي لـيـس الأمــــن، بــل نـجـاة الـدولـة الأمنية ذاتها للمستقبل. الحبكة الأساسية للفيلم، تدور حول صاروخ غير محدّد دقيقة، نعيشها ثلاث 18 الهوية يتّجه نحو شيكاغو. نمنح مرات من منظورات متداخلة، لنشاهد أقوى حكومة على وجه الأرض وهي تكتشف أن ترسانة الردع والاعتراض التي أنفقت عليها مئات مليارات الدولارات لا يمكنها إنقاذ حياة أميركي واحد. الرئيس ماركوس كول (إدريس إلبا، الذي يجسد عجزا مهيبا يـذكـرنـا بــالإعــيــاء الـــذي هيمن عـلـى بــــاراك أوبـــامـــا في ولايته الثانية) يـرأس غرفة العمليات، حيث كـل خيار متاح هو إمَّا غير مفعّل، أو غير مختبر، أو غير مرغوب فيه. بيغلو، التي رسخت مكانتَها مؤرخة سينمائية لدولة الأمن القومي الأميركية، تركز اهتمامها على ما يحدث عندما لا تـكـفـي مـاكـيـنـة الــنــظــام نـفـسـهـا. عـنـدمـا تــتــجــاوز المــدخــات والبيانات والإجراءات قدرة النظام على المعالجة، ويستوعب البشر في داخل فقاعة الإدارة أنَّهم ليسوا طيارين، بل مجرد ركـاب. وعليه، لا يرينا الفيلم مصدر الصاروخ ولا انفجاره؛ لأن الانفجار ليس هـو جوهر المحنة، بـل مـا يكشفه احتمال الانفجار عن عجز البيروقراطية أمام الأحداث الوجودية. يـأتـي فيلم «بـيـت مـن الـديـنـامـيـت» فـي لحظة خيبة أمل عملاقة يعيشها الأميركيون تمكن تسميتها «أزمـــة الكفاءة الــكــبــرى». فـثـمـة انـهـيـار واســــع للثقة الــعــامــة، لـيـس فـقـط في الـقـادة، بل في قـدرة المؤسسات الأميركية على أداء وظائفها الأساسية. تــراكــمــت هـــذه الأزمـــــة مـــن إخــفــاقــات مـتـتـالـيـة، بــــدأت مع ، ثـم الاسـتـجـابـة المتعثرة لجائحة 2008 الانـهـيـار المـالـي عــام كــــورونــــا، والانـــســـحـــاب الـــفـــوضـــوي مـــن أفـــغـــانـــســـتـــان، وفـشـل ،2023 الاســتــخــبــارات فـــي تــوقــع أحـــــداث الــســابــع مـــن أكــتــوبــر وصـولا إلى تجاهل أو فشل «الفيدرالي الأميركي» في تقدير حــجــم الـتـضـخـم ومــــــداه. كـــل حـلـقـة مـــن هــــذه الــحــلــقــات عــــزَّزت شكوكا انتقلت من هوامش الرأي العام إلى متونه العريضة، ومفادها أن الخبراء الذين يديرون مؤسسات النظام ليسوا بالكفاءة التي يدعونها. اللافت هو الطبيعة الشاملة للإدانة، وتجاوزها الانقسام الحزبي. انضم إلى اليمين «الجاكسوني» الشعبوي الذي يزدري منذ زمن نخب واشنطن، أجزاء واسعة مـــن الــيــســار الـتـقـدمـي الـــذيـــن يــــرون فـــي الـبـنـتـاغـون ووكــــالات الاستخبارات مجرد امتداد لمنطق القمع. يُجري فيلم بيغلو، فـي هـذا المـنـاخ، عملية جراحية معقدة لادعـــاءات دولــة الأمـن القومي. فالمسؤولون في غرفة عملياتها ليسوا أشـراراً. إنَّهم مهنيون أذكياء ينفذون البروتوكولات بدقة. وهـذه «المهنية الـكـفـؤة» هــي تـحـديـدا مــا يـديـنـه الـفـيـلـم. الـنـظـام لا يفشل لأن أشـــــرارا اســتــولــوا عـلـيـه، بــل يفشل لأنَّـــه «هـــو» الـنـظـام بكامل قصوره البنيوي. إلى ذلك يمثل إخلاء «ريفن روك» محاكاة ساخرة وقاتمة لمفهوم «الاصـطـفـاء»، ويـبـدد كثيرا مـن الـقـداسـة التي تحيط بفكرة الانـتـخـابـات. فالمختارون هـم أسـمـاء فـي قـوائـم أُعــدّت فـي وقــت الـسـلـم، مقاعدهم مـحـجـوزة بـمـرسـوم بيروقراطي، لـم يُــسـأل عنها أحــد، بينما يُــتـرك بقية المواطنين لمصيرهم. هــذه هـي البصيرة الأكـثـر نـفـاذا فـي الفيلم، حـيـال «حصانة الـنـخـبـة». فـهـذه الحصانة ليست فـسـادا أو مــؤامــرة، بـل هي جـوهـر التصميم المـؤسـسـي لـلـنـظـام. المــســؤولــون الـهـاربـون لا يسرقون المـــوارد، بل يتبعون بـروتـوكـولات كُتبت لضمان بقائهم هم فقط. فجأة تسوَّد الشاشة معلنة نهاية الفيلم من دون أبطال أو حلول. لا نعرف إن كان الصاروخ حقيقيا أم شبحاً. لحظة تكثيف درامية لحالة من عدم اليقين الدائم، لا طاقة لأي عمل فني على أن يقدم حلولا لها من دون أن يكذب أو يوارب. لقد صنعت كاثرين بيغلو فيلما يضاهي الأزمـــة التي يـصـفـهـا. عــمــل يـــرفـــض صــــرف الــنــظــر عـــن الـــهـــاويـــة، ويــســأل الأميركيين بوضوح بـارد ومرعب: مـاذا تنوون فعله قبل أن تسقطوا؟ نديم قطيش في متاهة اليمين واليسار من نتائج التثاقف الطويل الـذي نتائجه لا تُحصى، بين المجتمع الصناعي الغربي ومجتمعات المشرق، مفهوم اليمين واليسار، المـتـداول على نطاق واســع في النقاشات الــســيــاســيــة والـــفـــكـــريـــة الــــســــائــــدة، والمـــــحـــــدِّد نـــظـــرة الـــنـــاس وتصنيفهم لذاتهم ولبعضهم بعضا منذ أجـيـال، واليوم أيـضـا، على أســاس أن هـذا يمين وذاك يـسـار... ومـن المفيد الفرنسية 1789 التذكير بأصل هذا المفهوم، الآتي من ثورة الكبرى، حين انقسم نـواب «الجمعية الوطنية» إلـى فئتين داخل القاعة: أنصار الملكية والتمسّك بالنظام القديم الذين جلسوا جهة اليمين، والثوريون وأنصار الجمهورية جهة اليسار. وشــأنــه شـــأن جميع المـفـاهـيـم الآتــيــة إلـيـنـا مــن عملية التثاقف الوحيدة الجانب (من هناك إلى هنا، على الدوام)، ينطوي مفهوم اليمين واليسار على قدر كبير من الالتباس والغموض يسهِم في تعقيد الرؤية والخطاب وتشويههما داخـل مجتمعاتنا، العاصفة فيها كل الرياح. وتظهر هذه الـبـلـبـلـة الـفـكـريـة والــشــعــوريــة بـأبـلـغ أشـكـالـهـا فـــي الــواقــع الـلـبـنـانـي. فـلـمـا كـــان مـفـتـاح فـهـم الــتــاريــخ الـلـبـنـانـي، منذ حتى الــيــوم، هـو الـتـصـادم الـدائـم 1861 نـشـوء الـكـيـان عــام بين المشروع اللبناني التائق إلى الإفلات من هيمنة المحيط نحو أفق مختلف، والمشروع الإقليمي في لبنان الهادف إلى إعـادة دمجه في نظام المحيط، كان الاصطلاح على وصف المشروع اللبناني باليميني، والمشروع الإقليمي باليساري، مع ما تبع ذلك من نعت المشروع الأول بالمحافظ والانعزالي والرجعي، والمشروع الآخر بالتقدّمي والوطني. لـــقـــد تــــوالــــت أجــــيــــال عـــلـــى هـــــذا الــتــصــنــيــف المـــعـــهـــود، الـذي لا خـروج منه ولا حياد عنه، ما حـال دون تبي مدى خـطـئـه، ومـــدى تـعـارضـه مــع الحقيقة الــواقــعــة. وقـــد أسهم ذلك إسهاما كبيرا في إنتاج بنية فكرية مستلبة ومشوهة في فهمها وتقييمها للواقع. وما زاد في هذا الغموض أن معظم المشاريع الإقليمية في لبنان فد تبنّت آيديولوجيات «اشــتــراكــيــة» كـــرّســـت لـهـا أكــثــر فـأكـثـر صـفـتـهـا «الـيـسـاريـة التقدمية». وإذا استعرضنا مـسـار الـتـاريـخ اللبناني على مدى ، حين انطلقت حروب 1975 إلى 1861 أكثر من قرن، أقلّه من الخراب التي لم تنطفئ نارها بعد، ماذا نجد؟ نـــجـــد أن المـــــشـــــروع الـــكـــيـــانـــي الـــلـــبـــنـــانـــي، المــــوصــــوف بـ«اليميني والانعزالي والرجعي»، هو الذي حقّق الإنجازات الــنــهــضــويــة الـــفـــريـــدة فــــي المــــشــــرق، فــــي الـــثـــقـــافـــة والإبـــــــداع والاقـــتـــصـــاد ونــمــط الــحــيــاة: إســهــامــه الـكـبـيـر فـــي النهضة الـفـكـريـة المـشـرقـيـة فـــي الـنـصـف الــثــانــي مـــن الـــقـــرن الـتـاسـع عشر ومطلع الـقـرن الـعـشـريـن، دوره الــريــادي فـي التفاعل مـع الـحـداثـة والـغـرب والـعـالـم، وفــي نهوض اللغة العربية وتـــجـــديـــدهـــا، وفــــي إطـــــاق الأدب الـــحـــديـــث، وفــــي الـــريـــادة الجامعية، وفي نشر التعليم العام، وفي الفكر السياسي، وحـركـة الترجمة، وحـركـة الفن التشكيلي وسـائـر الفنون، وحـــركـــة الــصــحــافــة، وحـــركـــة الـطـبـاعـة والــنــشــر، والـنـهـضـة الـقـضـائـيـة، وفـــي الـــريـــادة الـصـحّــيـة والاسـتـشـفـائـيـة، وفـي الازدهــار الاقتصادي، وفي إرسـاء نمط عيش مميّز يجمع بـن الحريات والانـفـتـاح والعلم ونوعية الحياة البشرية، بـات هـو قِبلة الشعوب مـن المحيط إلـى الخليج، وأضحت معه بيروت «منارة الشرق». مـــن الـجـهـة الأخـــــرى، نـجـد أن المــشــاريــع الإقـلـيـمـيـة في لبنان، الموصوفة بـ«اليسارية والتقدّمية والقومية» وأخيرا «الإسـامـيـة الإيـرانـيـة»، لـم تحقّق أي إنـجـاز، ولا علاقة لها بحركة التقدّم، وأن الأنظمة الإقليمية السلطوية التي رعتها والـتـي شكّلت مثالها الأعـلـى، كانت على مـدى تلك المرحلة الـطـويـلـة مــن الــقــرن الـعـشـريـن، ولا تــــزال، مـرتـعـا لـأحـاديـة والقمع وخنق الــرأي الآخــر وتعقيم طاقات المجتمع الحيّة وسجنها وتهجيرها وسلب موارد البلاد وإفقارها... فأين هـي «الـتـقـدّمـيـة» فـي ذلــك كـلّــه؟ وحـتـى الـدعـوة إلــى مواجهة إسـرائـيـل وتـحـريـر فلسطين، لا بـل خصوصا هــذه الـدعـوة، التي تمحورت حولها على مــر الـزمـن المـشـاريـع الإقليمية، البعثية عموما والأسدية والناصرية والعرفاتية والماركسية والإسلامية الإيرانية، لم تُضعِف الدولة العبرية في شيء، بل أدت في نهاية المطاف إلى إخراجها من عزلتها وإيصالها إلى ذروة قوتها. فأين هي، هنا أيضاً، حركة التقدّم؟ مع ذلــك، وعلى الرغم من هـذه الحصيلة التاريخية المأسوية، يستمر دعـاة المشاريع الإقليمية في لبنان في عد أنفسهم يسارا يرمز إلى النهوض والتحرّر والتقدّم. ويـسـتـمـر الــكــثــيــرون فـــي وصـفـهـم بــالــيــســار. وقـــد شـــاءت سخرية القدر أن معظم فلول المشاريع الإقليمية السابقة، البعثية والـــوحـــدويـــة عـلـى اخــتــاف صيغها وأنــواعــهــا، الـعـلـمـانـيـة والاشـــتـــراكـــيـــة والــقــومــيــة والمـــاركـــســـيـــة، الـتـي وصـلـت إلــى الـطـريـق المــســدود، قـد الـتـأمـت حــول المـشـروع الإســامــي الإيــرانــي ورؤيــتــه الدينية المذهبية للمجتمع والعالم، في مزيج آيديولوجي وسياسي عجيب، أنَّى له الوصول إلى مكان. أنطوان الدّويهي OPINION الرأي 12 Issue 17199 - العدد Tuesday - 2025/12/30 الثلاثاء وكيل التوزيع وكيل الاشتراكات الوكيل الإعلاني المكـــــــاتــب المقر الرئيسي 10th Floor Building7 Chiswick Business Park 566 Chiswick High Road London W4 5YG United Kingdom Tel: +4420 78318181 Fax: +4420 78312310 www.aawsat.com [email protected] المركز الرئيسي: ٢٢٣٠٤ : ص.ب ١١٤٩٥ الرياض +9661121128000 : هاتف +966114429555 : فاكس بريد الكتروني: [email protected] موقع الكتروني: www.arabmediaco.com هاتف مجاني: 800-2440076 المركز الرئيسي: ٦٢١١٦ : ص.ب ١١٥٨٥ الرياض +966112128000 : هاتف +9661٢١٢١٧٧٤ : فاكس بريد الكتروني: [email protected] موقع الكتروني: saudi-disribution.com وكيل التوزيع فى الإمارات: شركة الامارات للطباعة والنشر الريـــــاض Riyadh +9661 12128000 +9661 14401440 الكويت Kuwait +965 2997799 +965 2997800 الرباط Rabat +212 37262616 +212 37260300 جدة Jeddah +9661 26511333 +9661 26576159 دبي Dubai +9714 3916500 +9714 3918353 واشنطن Washington DC +1 2026628825 +1 2026628823 المدينة المنورة Madina +9664 8340271 +9664 8396618 القاهرة Cairo +202 37492996 +202 37492884 بيروت Beirut +9611 549002 +9611 549001 الدمام Dammam +96613 8353838 +96613 8354918 الخرطوم Khartoum +2491 83778301 +2491 83785987 عمــــان Amman +9626 5539409 +9626 5537103 صحيفة العرب الأولى تشكر أصحاب الدعوات الصحافية الموجهة إليها وتعلمهم بأنها وحدها المسؤولة عن تغطية تكاليف الرحلة كاملة لمحرريها وكتابها ومراسليها ومصوريها، راجية منهم عدم تقديم أي هدايا لهم، فخير هدية هي تزويد فريقها الصحافي بالمعلومات الوافية لتأدية مهمته بأمانة وموضوعية. Advertising: Saudi Research and Media Group KSA +966 11 2940500 UAE +971 4 3916500 Email: [email protected] srmg.com «مدائن التراث» في موريتانيا... الاحتفاء بذاكرة المكان لـــم يــكــن احــتــفــاء مــوريــتــانــيــا هــذا العام بإحدى مدنها التاريخية مناسبة ثقافية عــابــرةً، بـل حمل دلالات أعمق كـشـفـت عــن تــحــوّل فــي طـريـقـة مـقـاربـة الـدولـة لـذاكـرتـهـا، وللأسئلة المرتبطة بـــالـــتـــمـــاســـك الاجــــتــــمــــاعــــي والـــــوحـــــدة الـوطـنـيـة. فـمـن شـنـقـيـط، الـتـي حملت الـــبـــاد اســمــهــا إلــــى المـــشـــرق الــعــربــي، مــــرورا بــولاتــة وتـيـشـيـت، وصــــولا إلـى وادان، تشكّلت هـويـة مـوريـتـانـيـا في فــــضــــاء صــــــحــــــراوي جـــمـــع بـــــن الــعــلــم والـــــتـــــجـــــارة والـــــروحـــــانـــــيـــــات، وصـــــاغ نموذجا فريدا للتعايش والتفاعل بين مكوناته الداخلية ومع الجوار. تخصيص دورة هذا العام لمدينة وادان لم يكن اعتباطياً، فالمدينة التي يُــقــال إنــهــا ربـيـبـة فــــزان فــي الـصـحـراء الليبية، والتي كانت واحة علم وتمر، شــكّــلــت المــحــطــة الأخـــيـــرة فـــي الـطـريـق الـــصـــحـــراوي الـعـظـيـم الــــذي ربـــط مـدن الــــصــــحــــراء الــــكــــبــــرى، وأسّــــــــس لـــواحـــد مـــن أقــــدم مـــســـارات الـــتـــبـــادل الــتــجــاري والعلمي في أفريقيا. ومع تحوّل طرق التجارة نحو المحيط الأطلسي، دخلت هذه المدن في عزلة طويلة، لم تكسرها سـوى مناسبات دوريــة تعيد التذكير بـــمـــكـــانـــتـــهـــا، مـــــن دون أن تُـــخـــرجـــهـــا بالكامل من الهامش التنموي. ومــــــــع تــــــراكــــــم دوراتـــــــــــــــه، لــــــم يــعــد مــــهــــرجــــان «مــــــدائــــــن الــــــتــــــراث» مـــجـــرّد احـتـفـال بــالــذاكــرة، بـل تـحـوّل إلــى أداة ذات بـعـد اجـتـمـاعـي واقــتــصــادي. فقد أســـهـــم فــــي تــنــشــيــط ســـيـــاحـــة داخــلــيــة مــحــدودة لكنها مــؤثــرة، ووفّــــر مـــوردا إضـــافـــيـــا لـــســـاكـــنـــة مـــــدن ظــــلَّــــت خــــارج مــســارات الـنـمـو، كـمـا أعــــادت الاعـتـبـار للشعر وللفنون بوصفها روافــد حيَّة لـلـهـويـة الـوطـنـيـة، لا مــجــرد تعبيرات فولكلورية موسمية. الــــجــــديــــد هـــــــذا الـــــعـــــام تــــمــــثّــــل فــي الخطاب السياسي الذي اختار الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أن يمرّره من بوابة الثقافة، فالرئيس لم يكتف بالحديث عن التراث باعتباره عنصر جـذب سياحي أو ذاكـــرة تاريخية، بل وسّـــع المــقــاربــة لتشمل ســـؤال الـوحـدة الوطنية، مؤكدا أن التنوع الاجتماعي والثقافي الذي يميّز موريتانيا يشكّل مصدر قوة، لا عامل انقسام. وفي هذا السياق، شدّد الغزواني عـلـى رفـــض كــل أشــكــال الـخـطـاب التي تـــقـــوم عــلــى الـــشـــرائـــحـــيـــة، أو تـوظـيـف الانــــتــــمــــاءات الاجـــتـــمـــاعـــيـــة والــعــرقــيــة فـي المـجـال السياسي، معتبرا أن مثل هـذه المـقـاربـات تُضعف الـدولـة وتُربك السلم الأهلي. وأكَّــد أن المواطنة تبقى الإطـــــــار الـــجـــامـــع والــــوحــــيــــد لـلـحـقـوق والــــواجــــبــــات، وأن حـــمـــايـــة الــتــمــاســك الـــوطـــنـــي مــســؤولــيــة مــشــتــركــة تشمل الـدولـة والنخب السياسية والثقافية والمجتمعية على حد سواء. ويــكــتــســب هـــــذا الـــخـــطـــاب دلالـــتـــه الـكـامـلـة حـــن يُـــقـــرأ بـوصـفـه جــــزءا من رؤيــــــــة أشـــــمـــــل، تـــســـعـــى إلـــــــى تـــرســـيـــخ الوحدة الوطنية عبر مقاربة متوازنة تجمع بين الذاكرة والتنمية، فالدعوة إلـى تجاوز الشرائحية لا تنفصل عن تــوجُّــه رسـمـي يضع تقليص الـفـوارق المجالية، وتعزيز العدالة الاجتماعية، وإعـــــادة دمـــج المـنـاطـق الـتـاريـخـيـة في الـــــدورة الاقــتــصــاديــة الـوطـنـيـة، ضمن أولـــــويـــــاتـــــه وفـــــــي صــــلــــب الـــســـيـــاســـات العمومية. من هذا المنظور، تبدو المدن التاريخية، في مقدمتها وادان، ليس فــقــط رمــــــوزا لــلــمــاضــي، بـــل فـــضـــاءات مــرشــحــة لــاضــطــاع بــــدور فـعـلـي في بـــنـــاء تــمــاســك وطـــنـــي مـــســـتـــدام، يـقـوم على المواطنة والتنمية المتوازنة بدل الانتماءات الضيقة. ولا يمكن فـصـل هـــذا الـتـوجـه عن محيط إقليمي مضطرب، شهدت فيه دول أفـريـقـيـة عــديــدة انــــزلاق الـهـويـات الفرعية إلــى أزمـــات سياسية وأمنية حــــادة، حــن فشلت فــي إدارة تنوعها الاجتماعي والثقافي. في هذا السياق، يـــبـــرز الـــخـــطـــاب المـــوريـــتـــانـــي الـرسـمـي بوصفه مـحـاولـة لـتـفـادي هــذا المـسـار، عــبــر تـثـبـيـت ســـرديـــة وطــنــيــة جـامـعـة تُقر بالتعدد ضمن الوحدة العضوية، وترفض في الوقت نفسه تحويل هذا التعدد والتنوع الثقافي والاجتماعي إلى أداة صراع سياسي أو تعبئة. لـذلـك يعيد هــذا الـخـطـاب تعريف دور المــدن التاريخية نفسها. فهي لم تـعـد مـجـرد أطـــال جميلة، أو مـخـازن لمـخـطـوطـات نـــــادرة، بــل صـــارت رمـــوزا لمـــرحـــلـــة تـــشـــكّـــلـــت فـــيـــهـــا مـــوريـــتـــانـــيـــا فـــضـــاء تــــــاق بــــن الــــعــــرب والأفـــــارقـــــة، وبين الصحراء والساحل، وبين العلم والتجارة. استدعاء هذه الرمزية اليوم هــو، فــي جــوهــره، اسـتـثـمـار فـي ذاكــرة جامعة تُستخدم لتثبيت الحاضر، لا للهروب منه. وفي المحصّلة، حملت دورة وادان مــن مـهـرجـان «مـــدائـــن الـــتـــراث» رسـالـة تتجاوز الاحـتـفـاء بـالمـاضـي، لتلامس رهــــــانــــــات الــــحــــاضــــر واســــتــــحــــقــــاقــــات المستقبل. وبين استعادة المدائن التي صــنــعــت تـــاريـــخ وهـــويـــة مــوريــتــانــيــا، والـتـأكـيـد عـلـى وحـــدة مجتمعها، بـدا أن الـــدولـــة بـــدورهـــا تسعى إلـــى إعـــادة وصــــل الـــتـــاريـــخ بـالـتـنـمـيـة، والــــذاكــــرة بـالمـواطـنـة، فـي مـقـاربـة هــادئــة، لكنَّها واضــــحــــة المــــعــــالــــم، فــــي زمــــــن إقــلــيــمــي يتجنَّب التشكيك في اللحمة الوطنية، ولا يحتمل كثيرا من الهشاشة. عبد الله ولد محمدي

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky