يرى إيغلتون أن ما فشلت به الحداثة لن تصنعه ما بعد الحداثة التي يصفها بالغلو والسطحية Issue 17194 - العدد Thursday - 2025/12/25 الخميس كتب BOOKS 17 كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟ ينطلق كتاب «بـاغـة الـكـود» للكاتب والـبـاحـث المـصـري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معان ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته، عبر تساؤل مركزي يفتتح به المؤلف أفق كتابه: «ماذا لو كان للكود لغة أعمق من مجرد المنطق الصارم؟»، وهو سؤال يُطرح بوصفه مدخلا نقديا لفهم عالم باتت بنيته قائمة على الأكــواد، لا بوصفها لغة برمجية محايدة، بل أنساق لغوية تُنتج المعنى، وتوجّه الخيال، وتُعيد عبر ذلك تشكيل الخبرة الإنسانية. من هذا المنطلق، لا يقدّم الكتاب قراءة تقنية للتطور الرقمي، بل يفتح أفقا نقديا لفهمه بوصفه خطابا معاصرا له بلاغته الخاصة وأسئلته، وتأثيره الـعـمـيـق فــي طــرائــق الـتـفـكـيـر والإبــــــداع، فــي زمـــن تحكمه الــشــاشــات وتــديــره الخوارزميات. يقترح الكتاب، الصادر أخيرا عن دار «بيت الحكمة للثقافة» في القاهرة، مقاربة مركبة تجمع بين الفكر الجمالي، وفلسفة اللغة، والتحليل الاجتماعي، ودراســــات الـوسـائـط الرقمية، كاشفا كيف أسهمت الـخـوارزمـيـات فـي إعــادة تعريف مفاهيم الإبداع والكتابة والاختيار، بل في إعادة صياغة العلاقة بين الفنان والآلة، فالكود في هذا السياق لا يعمل في الخلفية فقط، بل يتداخل مع الوعي، ويعيد ترتيب منظومات الإدراك، ويطرح سؤالا جوهريا حول إمكانية تـــزاوج «المـنـطـق» و«الـعـاطـفـة» بوصفهما درعـــا فكريا وإبـداعـيـا فـي مواجهة المخاطر المتزايدة لعصر الرقمنة. مــن هـنـا يـتـجـاوز الـكـتـاب الـنـظـر إلـــى الــخــوارزمــيــات بـاعـتـبـارهـا نقيضا للخيال، ليطرح إمكانية أن تصبح مـــادة سـرديـة جــديــدة، يمكن للكاتب أن ينسج منها حكايات لم تُــرو من قبل، تتقاطع فيها المــادة الرقمية مع الـروح الإنسانية، في محاولة لإعادة تخيل مستقبل أعمق اتصالا بالإنسان. ممارسة وجودية يضع المؤلف قارئه داخـل واقـع ينسج نفسه من ألياف «الكود» الخفية، واقــــع تـتـشـابـك فـيـه الــتــهــديــدات الـسـيـبـرانـيـة، والأســئــلــة الأخــاقــيــة المـرتـبـطـة بالتكنولوجيا، والأوبـئـة العالمية، والتأثيرات العميقة للذكاء الاصطناعي، وهو واقع لم يعد فيه السؤال الجمالي ترفاً، بل ضرورة معرفية ملحّة، فكيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع هذا التعقيد الرقمي، وهل يمكن للكود ذاتــــــه أن يـــتـــحـــول مــــن أداة لـلـضـبـط والسيطرة إلــى وسيط إبـداعـي قـادر على فتح مساحات جديدة للتعبير الإنساني؟ ويــنــطــلــق صـــفـــوت فـــي مـعـالـجـة هـــذه الأسـئـلـة مــن حـزمـة مــن الأدوات والمـــفـــاهـــيـــم الـــنـــقـــديـــة المـــتـــداخـــلـــة، مـن بينها مفهوم «الحداثة الانعكاسية»، التي تُفهم هنا بوصفها لحظة وعي نـقـدي بـالـحـداثـة نفسها، وبـآثـارهـا، وبالتحولات العميقة التي أحدثتها فـي الفنون والآداب، وبموقع الفنان ودوره داخـــل عـالـم مـشـفّــر بالمخاطر والـشـكـوك. فالفن، فـي هــذا التصور، لا يُــخـتـزل فــي كـونــه مــــرآة لـلـواقـع أو هروبا منه، بل يتحول إلـى ممارسة وجودية «ضد الموت»، وسجل حي للحياة بكل هشاشتها وتعقيداتها، داخل منظومة ثقافية يُعاد تشكيلها باستمرار عبر الأكواد. عبر فصول الكتاب الثلاثة، يطرح المـؤلـف سياقا تاريخيا ممتداً، يبدأ من صدمات الـحـروب العالمية، ويمر بتحوّلات الحداثة ومـا بعدها، وصـولا إلـى فنان العصر الرقمي، ويتتبع العلامات والمـــدارس النقدية التي حاولت فهم تـحـوّلات الـحـركـات الفنية، ومـحـاولات نحت مصطلحات نقدية جديدة تواكب التحولات الكونية الكبرى، من بينها تعبير «ما بعد الكورونولانية»؛ المصطلح الذي بدأ ساخرا في سياق جائحة «كورونا»، قبل أن يتحول إلى أداة تحليلية لفهم التحولات النفسية والثقافية التي أعقبتها. مجتمع المخاطر يتعمق صفوت في رصد تداعيات جائحة «كورونا» على المشهد الفني والأدبــــي، متتبعا تـحـولات المـمـارسـات الإبـداعـيـة، وأنــمــاط تلقي الـفـن، ودور الناقد في عالم باتت فيه التجربة الجمالية مشروطة بالوسائط والشاشات. وفي هذا السياق، يتقاطع طرح الكتاب مع مفهوم «الحداثة الفيروسية» كما تطرحه الباحثة إليزابيث أوتكا، التي ترى أن الوباء لم يكن حدثا صحيا فقط، بل عامل كاشف عن هشاشة البنى الثقافية والمعرفية، وعن سرعة انتقال القلق والخوف بوصفهما أنماطا رمزية لا تقل فاعلية عن الفيروس نفسه. كما يستفيد الكتاب من استراتيجيات ما بعد الحداثة في أعمال عدد من المفكرين، وعلى رأسهم عالم الاجتماع الألماني أولريش بيك، أحد أبرز المفكرين المؤثرين في القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، الذي انشغلت أعماله بتحليل تحوّل المجتمعات الصناعية الحديثة إلى ما سماه «مجتمعات المخاطر»، الذي يشير به إلى مجتمعات لا تواجه الخطر بوصفه استثناء، بل بوصفه بنية دائمة ناتجة عن التقدم ذاته، ويرى الكتاب في هذا الطرح مهادا سوسيوجماليا ضروريا لفهم عصرنا الراهن، وطبيعة المخاطر الجديدة التي تمثلها الرقمنة، وكيفية مقاربتها نقديا وجمالياً، لا تقنيا فقط. ولا ينفصل هـــذا المــســار عــن نـقـد أوســـع لمــا وصـفـه الفيلسوف الفرنسي جـــان بـــودريـــار بـــ«الــواقــع الــفــائــق»، حـيـث تنفصل الــعــامــات عــن مـدلـولاتـهـا، وتغدو الصور أكثر حضورا من الواقع نفسه، ويتحول المعنى إلى سلسلة من الإحالات المؤجلة، في هذا العالم لا يصبح الغموض إثراء للمعنى، بل اختزال له، وصولا إلى عتبة العدمية، ومن هنا تطرح الأعمال الفنية والأدبية أسئلة ملحّة حول العلاقة بين التخيل والواقع، وحول ما إذا كان ما نراه قائما بذاته، أم مجرد نتاج للخطابات والوسائط التي تشكل وعينا. أمـــام هـــذا الـتـفـكـك، يـرصـد الـكـتـاب تـــحــوّلات الـكـتـابـة، مــع تــراجــع نـزعـات التغريب التي ميزت كثيرا من تجارب ما بعد الحداثة، لصالح عودة الاهتمام بالبطل، وبناء التعاطف، وخلق جسور تواصل بينه وبين القارئ، في محاولة لاستعادة قـدر من المعنى الإنساني داخــل عالم متشظٍ، وهـي عــودة لا تعني الحنين إلــى الـسـرد التقليدي، بـقـدر مـا تعكس وعـيـا بـأزمـة التلقي، وحاجة القارئ إلى موقع يسمح له بالتفكير في أزماته الراهنة، لا الاكتفاء بتفكيكها. القاهرة: منى أبو النصر الناقد البريطاني يطرح أسئلة فائقة الخطورة حول المرجعيات وصناعة الأفكار تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة يـــــظـــــل ســــــــــــؤال الـــــثـــــقـــــافـــــة مــــفــــتــــوحــــا، لــكــنــه مــــتــــردد، وخــــائــــف، لـــيـــس لــحــمــولاتــه وإحــالاتــه، ولعلاقته بالمخفي مـن الأسئلة المقموعة فحسب، بـل بعلاقة هــذه الثقافة بصناعة الهيمنة، وتسويغ عنف مركزية الـعـقـل «الـلـيـبـرالـي»، وعـبـر مـنـابـر وقـنـوات الآيديولوجيا والمدرسة والإعـام والدعاية والخطاب السياسي والخوارزميات، وحتى عبر مرجعيات النظرية الأدبـيـة والثقافية الـــتـــي تُــخــضــعــه هــــي الأخـــــــرى إلـــــى المـــؤلـــف المهيمن، وترسل إلى القارئ المُستهدف. مــا طــرحــه الـنـاقـد تــيــري إيـغـلـتـون في كــتــابــه «مــــا بــعــد الــنــظــريــة» بـتـرجـمـة ثـائـر ديـــب، الـصـادر عـن «المـركـز الـعـربـي لـدراسـة )، يضعنا إزاء قضايا 2025( » الـسـيـاسـات إشـكـالـيـة تـخـص الــخــوف الـثـقـافـي والـقـلـق الثقافي، والتمثيل الثقافي، وإلى ما يدفعنا إلى الشك بجدوى النظرية، وبأن ما يجري أفقد النظريات كثيرا من صلاحياتها. الـــــــدرس الـــثـــقـــافـــي يــعــنــي فــــي جـــوهـــره درســا مفهومياً، فـي توظيفه الفلسفي، أو فـي إجـــراءاتـــه الـتـي تخص التعلّم والفهم، وفـي ما يتعلق بالإنثربولوجيات المعقدة التي كشف تشظيها عـن عالم يتمرد على المـــركـــزيـــات، بـحـثـا عـــن مـــركـــزيـــات مـــوازيـــة، أو عـن هـويـات محلية، يمكنه مـن خلالها يستأنف لعبته فـي إعـــادة إنـتـاج السلطة، والـــهـــويـــة، والـــخـــطـــاب، بــوصــفــهــا عـنـاصـر مــوجّــهــة لـلـهـيـمـنـة، ولــصــيــاغــة الــعــالــم في أفـــكـــاره ومـعـتـقـداتـه وهــويــاتــه وأســاطــيــره، عـــبـــر مــــا تــصــنــعــه الــســلــطــة مــــن ســيــاســات وثقافات، وعبر ما يجعل «النظرية» مجالا للتخيل، ولتقعيد العالم عبر القياس. مـا أثـــاره إيغلتون عـن «نهاية العصر الـذهـبـي للنظرية» يظل افـتـراضـيـا، لأن ما أســســه كــبــار المُــنـــظّــريــن تــــرك ثــقــا مـعـرفـيـا كبيراً، فـي إطــار الأطــروحــات الفلسفية، أو فــي تمثيل الـنـظـريـات الأدبـــيـــة، وحــتــى في الـسـيـمـيـائـيـات، وفـــي الاجــتــمــاع السياسي والـــتـــربـــوي، وفــــي بــنــى الــنــظــام والــخــطــاب والرقابة والقمع، لكنه بالمقابل خضع إلى كثير من التحول، والتصادم، والاختلاف، حــيــث وجـــــدت الأفـــكـــار نـفـسـهـا إزاء «واقــــع سـائـل» ليس لتمثيل علاقاتها بــ«مـا بعد الـحـداثـة»، كما يـرى زيغموند بـاومـان، بل لأن وجودها اصطدم بكثير من الفعاليات الـــتـــي تــعــمــل لـــصـــالـــح مـــؤســـســـات ومــنــابــر ومـخـابـر ومــراكــز بـحـوث وبـنـوك وعـيـادات وشـركـات عـابـرة لـلـقـارات، وهــذا هـو الوجه الـــرمـــادي لــ«الـلـيـبـرالـيـة الــجــديــدة»، رغـــم أن مـرجـعـيـات «الــنــظــريــة» لــم تـكـن بـعـيـدة عن تـــاريـــخ المــجــتــمــعــات، ولا عـــن مـــســـار تـطـور العلوم والأفكار. النظرية ورهاب الغياب القضية التي يثيرها إيغلتون حول «نهاية العصر الذهبي للنظرية» تطرح أسئلة فائقة الخطورة، حول المرجعيات، لا سـيـمـا المـــاركـــســـيـــة، الـــتـــي تــحــتــاج إلــى مراجعة، لمواجهة سلسلة من التحولات الـــــكـــــبـــــرى، بــــمــــا فـــيـــهـــا تـــــحـــــول صـــنـــاعـــة الأفكار وتلقيها، وعلاقتها بالمؤسسات والآيـــديـــولـــوجـــيـــات، وبـــأنـــمـــوذج المـثـقـف الذي تخلى عن وظيفته النقدية، لصالح الـــــقـــــوة، ولـــصـــالـــح نـــــوع مــــن «الـــواقـــعـــيـــة المتوحشة» التي أفقدت «البطل الغربي» سـحـره السينمائي، وغـوايـتـه الطبقية، وعلاقة مدنه البرجوازية بذاكرة الرواية الــــرومــــانــــســــيــــة، وبــــيــــومــــيــــات الـــقـــصـــور والحفلات الموسيقية والمـعـارض الفنية وعـــــــروض الأزيــــــــاء وإعـــــانـــــات الـــعـــطـــور، ونــــظــــم الاتــــــصــــــال الــــحــــديــــثــــة واحــــتــــكــــار المعلومات والأخبار. الـــفـــقـــد تــــحــــوّل إلــــــى رهـــــــاب نــفــســي، لأن الــغــرب لــم يـعـد مسيجا عـلـى طريقة «أثـيـنـا الـقـديـمـة»، فـالـهـجـرات والأســـواق والـــــصـــــراعـــــات الاجـــتـــمـــاعـــيـــة والــــحــــروب جــعــلــت مــــن هـــــذا الــــغــــرب إزاء مــــا يـشـبـه «الهجنة الثقافية» التي جعلت من حديث الـنـظـريـة جــــزءا مــن المــفــارقــة، ومـــن مــأزق الغرب بمفهومه الأوروبي الهيغيلي. حديث الفقد يمكن أن يكون جزءا من النسيان، ومن التباسات ثقافية، تواجه صراعا غير منضبط بين المستويات، لا سـيـمـا مـــا يـتـعـلـق بـالـثـقـافـات الشعبية، وثــــقــــافــــات الــــهــــامــــش، الــــتــــي جـــعـــلـــت مـن الـيـسـار أكـثـر انـدفـاعـا لـهـا، وتـعـبـيـرا عن ســرديــاتــهــا الـطـبـقـيـة والـــثـــوريـــة، مـقـابـل ثـــقـــافـــة الـــنـــخـــبـــة، الـــتـــي ظــــل المــحــافــظــون والتقليديون يحرصون على مغاليقها، بــوصــفــهــا جـــــزءا مـــن صـــراعـــهـــم الـطـبـقـي والوجودي. مــــا جــعــلــه تـــيـــري إيـــغـــلـــتـــون عـتـبـتـه لــلــحــديــث عـــن «المـــــا بـــعـــد» هـــو إحـسـاسـه بأن العالم لم يعد صالحا للمعنى الذي أنــتــجــه الـــيـــســـار حــــول الــــصــــراع الـطـبـقـي والعائلة والاجتماع والحقوق والعدالة والمـــشـــاركـــة، وأنــــه جــعــل الـــغـــرب يـتـغـول، حــــيــــث بـــــــدا صـــــعـــــود الــــتــــطــــرف الـــيـــمـــنـــي وموجات «أوروبا الصافية» أكثر هوسا بـالـعـنـف «الــصــيــانــي» وبــمــشــروع إعـــادة الـنـظـر بــالأفــكــار، وبـالـنـظـام الاجـتـمـاعـي وبـالـسـيـاسـات، وبطبيعة الأفــكــار الـرثـة التي فقدت فاعليتها في مواجهة «رهاب الاســـتـــهـــاك» ورهـــــاب الــعــنــف والــتــطــرف الأبــــيــــض. هــــذه الــتــمــثــات تــحــولــت إلــى مظاهر ثقافية، وإلى أطروحات إشكالية تـخـص تـعـقـيـدات الـــصـــراع الاجـتـمـاعـي، وقــــضــــايــــا أنـــثـــربـــولـــوجـــيـــة وحـــقـــوقـــيـــة، وأزمــــــــــــات اجـــتـــمـــاعـــيـــة تــــخــــص الـــعـــاقـــة بــــالآخــــر، هــــذا الآخـــــر المـــســـكـــون بــأشــبــاح الــــشــــرق، ويــــومــــيــــات الـــعـــنـــف الــســيــاســي والتلوث البيئي والحروب الأهلية، الذي صنع بالمقابل موجهات مـن المهاجرين والــــاجــــئــــن الــــــــذي اتــــخــــمــــوا «أوروبــــــــــا» وأثــــــاروا جـــدل الــنــوع والـنـمـط والـهـويـة، وهــــــو مـــــا أســــهــــم فـــــي تـــقـــويـــض مــفــهــوم «الـثـقـافـة الــعــالِــة» الـتـي تملك الـخـطـاب، والــــــقــــــدرة عـــلـــى مـــواجـــهـــة انـــهـــيـــار عــالــم مفتوح على لا نهايات عاقلة. الما بعد وأفول النظرية من الصعب عزل الثقافة عن التاريخ، وعـن التحولات الكبرى، فبقدر مـا يربط إيغلتون بين خمود النظرية وبين حركة ما بعد الحداثة، التي جعلت من «العولمة» و«الرقمة» توصيفات لنهايات إنسانية، أفــــقــــدت بـــعـــض المـــفـــاهـــيـــم جـــــدواهـــــا، مـثـل الــطــبــقــة والــتــصــنــيــع والـــجـــمـــاعـــة، مـقـابـل مــــا يـــــــراه خـــطـــيـــرا فــــي صــــعــــود «الأعــــمــــال الـتـحـويـلـيـة» ووظـــائـــف الــبــنــوك الـكـبـرى، التي تعني في جوهرها صعود «طبقة» لها سلطتها، ولها إدارتـهـا في التعاطي مــــع المـــــــال والـــــقـــــوة والــــخــــطــــاب والـــعـــمـــل، وكـذلـك مـع قيم إشكالية تخص «التحرر الجنسي» وموضوعات الجندر، والهجرة والـــهـــويـــة، وهــــي قــضــايــا ثــقــافــيــة جعلت منها «الدراسات الثقافية» مجالا واسعا لأطـروحـاتـهـا، ولتداوليتها الـتـي تخص الصراع الاجتماعي، وإعادة تعريف الغرب الــــذي لـــم يـعـد غـــربـــا، كـمـا فـــي الـتـوصـيـف الاستعماري لروديار كبلنغ، إن «الما بعد» قد يكون نقداً، وقـد يكون نفياً، وكلاهما يــدخــل فـــي ســيــاق المـــواجـــهـــة مـــع الأفـــكـــار، ومع التاريخ الطويل للنظريات، بما فيها نـظـريـات الـعـلـوم والآداب والـسـيـاسـيـات، إذ تـحـول الــصــراع حـــول جـــدوى النظرية مجالا للحديث عن جدوى الأفكار ذاتها، ومــنــهــا مـــا يـتـعـلـق بـــأفـــكـــار الاشـــتـــراكـــيـــة، والـصـراع الطبقي والـعـدالـة الاجتماعية، والبطالة والهجرات الكبيرة، وبالحروب التي لـم تعد للأفكار على طريقة الزعيم الـصـيـنـي مـــاو تـسـي تــونــغ أو تروتسكي حول مفهوم الثورة الدائمة. أفــــــول الـــنـــظـــريـــة لا عـــاقـــة لــــه بـــأفـــول الحداثة، لأن ما يجري هو تغيير لقواعد الاشـــتـــبـــاك الـــثـــقـــافـــي الـــقـــديـــم، ولـطـبـيـعـة التشكلات الطبقية، والإحــــالات الثورية، فالطبقات الوسطى فشلت في أن تصنع الـسـلـطـة، إذ اكـتـفـت بـالـهـامـش التمثيلي لــــلــــثــــقــــافــــة، ولمـــــواجـــــهـــــة عــــنــــف الـــطـــبـــقـــات الــحــاكــمــة، فـــرغـــم أن الـــحـــداثـــة فـــي الــغــرب عكست «قـوة العقل» بمفهومه الكانطي، أو أنـهـا أبـــرزت مظاهر الــصــراع الطبقي، والـــتـــحـــولات الـــصـــادمـــة الـــتـــي جـعـلـت من كافكا مسكونا بالخوف والكوابيس، حد الهروب إلى سردية المسخ، بحثا عن ذاته الـتـي ظـلـت خـالـيـة مــن الاطـمـئـنـان، إلا أن هــذه الـحـداثـة فشلت فـي مـواجـهـة تنامي أزمــة الإنـسـان ذاتـــه، الإنـسـان الــذي تحوّل إلى قربان للحروب والأزمات المفتوحة. إيغلتون وصدمة المفارقة الـتـقـويـض الآيــديــولــوجــي للنظرية لم يشأ أن يترك الـصـراع دون مقاربات، تـــخـــص الـــنـــظـــريـــة، أو تـــخـــص «صــنــاعــة الـــثـــقـــافـــة» بــتــعــبــيــر إدرنـــــــــو، إذ تــتــحــول الـصـنـاعـة إلـــى إجــــراء لمـواجـهـة التغريب والــــعــــزل، مـثـلـمـا تــتــم اســـتـــعـــادة مــاركــس الــــشــــاب الـــفـــيـــلـــســـوف، ومــــاركــــس الـكـبـيـر الاقــتــصــادي، إلـــى مـنـابـر لا تملك أدوات الاسـتـمـرار، بسبب الضآلة الثقافية من جـانـب، والخمود المؤسساتي والنظري من جانب آخر، فتذكّر مركز «برمنكهام» الإنــــجــــلــــيــــزي المــــــؤســــــس لـــــــ«الــــــدراســــــات الـثـقـافـيـة» فــي الـسـتـيـنـات، يضعنا أمــام رهــــــــاب مــــتــــاهــــة الــــغــــيــــاب المــــؤســــســــاتــــي، وصعود المؤسسات الضد، التي لا علاقة بالزمن الثقافي، ولا بسرديات الثقافة، ولا حتى بالنظرية النقدية وبمناهجها، وبما تملكه من أدوات ووسائط ومناهج تساعد على بقاء الثقافات والآداب حية وفاعلة، وعالقة بكثير من قيم الاجتماع والأخلاق والنقد والتحليل. صدمة المفارقة في مشغل إيغلتون لـــيـــســـت بــــعــــيــــدة عـــــن فـــــكـــــرة «الاغــــــتــــــراب الـــثـــقـــافـــي» فــمــا فــشــلــت بـــه الـــحـــداثـــة، لن تصنعه مــا بـعـد الــحــداثــة الــتــي يصفها إيـــغـــلـــتـــون بــالــغــلــو والـــســـطـــحـــيـــة، وأنـــهـــا المسؤولة عن صناعات أكثر رعباً، وعن إخــــفــــاقــــات واســـــعـــــة، بـــمـــا فـــيـــهـــا إخـــفـــاق «الــــنــــظــــريــــة الأدبـــــيـــــة ذاتـــــهـــــا» وعـــجـــزهـــا عـــــن إدامـــــــــة الـــــوعـــــي الاجــــتــــمــــاعــــي، وعـــن نـــقـــد الـــخـــطـــاب الـــســـيـــاســـي، إذ تــحــولــت الـــحـــداثـــة، وحــتــى مـــا بــعــدهــا إلــــى مـجـال أو سـوق للترويج للصناعات الثقافية، مـــــن مـــنـــطـــلـــق أن الــــثــــقــــافــــة ســــلــــعــــة، وأن قــانــون «الــعــرض والـطـلـب» هــو الفيصل الوجودي الذي يتحكم بالإنتاج، وبقيمة هـذه الصناعات في تعزيز قيم الإشباع والـــعـــدالـــة، ومــواجــهــة رعـــب «الــرأســمــال» الـذي جعل من الثقافة جـزءا من وظائف «رجال الأعمال» ومن مسؤوليات منتجي أفلام السينما وعروض الأزياء وغيرهم. عجز النظرية عـن مـواكـبـة «سيولة الأفــــكــــار» هـــو المُـــهـــدد الأكـــبـــر لــوجــودهــا، ولـــفـــاعـــلـــيـــتـــهـــا فــــــي الارتـــــــقـــــــاء بـــالـــوعـــي الاجتماعي - الثقافي لمواجهة مشكلات الــــواقــــع، وتــعــقــيــدات الــعــنــف الـسـيـاسـي، ولمظاهر الإرهاب والإكراهية والاستغلال والاستبداد، فضلا عن مواجهة إكراهات الـــفـــقـــد الـــعـــاطـــفـــي والـــــرمـــــزي، والــصــحــي والإنساني، فما بات واضحا في الما بعد حداثي هو «تشظي الحقيقة» أو موتها بتعبير نيتشه، وهــو مـا يعني تقوّض كـــثـــيـــر مــــن المــــركــــزيــــات الآيـــديـــولـــوجـــيـــة، والأطـــــروحـــــات المــطــلــقــة، وربـــمـــا تـقـوض الأنظمة التقليدية، مثل النظام الصحي، والــنــظــام المــصــرفــي، والــرعــايــة الصحية وقــــوانــــن الــحــمــايــة الاجـــتـــمـــاعـــيـــة، ليس للانخراط في لا مركزية ما بعد الحداثة، بــل للتعبير عــن أن الـعـالـم لــم يـعـد آمـنـا، وأن من يصنع الحرب، يمكنه أن يصنع الـشـر، وأن يعيد إنـتـاج أساطير العنف، وشخصيات العنف مثل الليدي ماكبث، كما يقول إيغلتون. تيري إيغلتون علي حسن الفواز
RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky