تفهم مـن الـتـجـاوب الـروسـي - الصيني مع فــنــزويــا فـــي مـعـركـتـهـا مـــع الــرئــيــس تـــرمـــب، أنـه يخوض المعركة هناك لسبب آخر بخلاف السبب المعلن. فـــهـــو يـــتـــحـــدث عـــــن مــــــخــــــدرات تـــتـــســـلـــل مـن الأراضـي الفنزويلية إلى بـاده، ويقول إن هدفه وقــف هــذا التسلل، ويـتـشـدد كـل يــوم فـي دعوته الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو إلى التنازل عن السلطة. وفي هذا السبيل لا يجد حرجا في مصادرة ناقلات النفط الفنزويلي واختطافها، وقــد بلغ عــدد الـنـاقـات الـتـي اختطفها الجيش الأميركي وصادرها ثلاث ناقلات! ولـكـن الــواضــح أن الـرئـيـس الأمـيـركـي داس عـلـى مـوطـئ قـــدم روســيــة وصينية وهـــو يتقدم في هذا الاتجاه، وهذا المعنى تجده في البيانات الرسمية الصادرة عن بكين مرة، ثم عن موسكو مرة ثانية، وقد وصل التأييد الروسي لفنزويلا إلــــى حـــد أن ســيــرغــي لافـــــــروف، وزيـــــر خــارجــيــة روسيا، أعلن أن دعم بلاده لفنزويلا «كامل»، وقد قصد أن يضع كلمة كامل بين أقواس. ولـــــم تـــكـــن الـــصـــن أقـــــل تــــشــــددا فــــي دعــمــهــا المـــبـــذول لـلـرئـيـس مــــــادورو، وهــــذا المـعـنـى تجده أيضا فـي البيان الـصـادر بعد اتـصـال بـن وزيـر الـــخـــارجـــيـــة الـــصـــيـــنـــي ونـــظـــيـــره فــــي الــعــاصــمــة الفنزويلية كاراكاس. وإذا افترضنا أن الصين وروسيا تعنيان ما تقولان، وهما تتكلمان عن دعم كامل للحكومة في فنزويلا، فإن السؤال هنا لا يكون عن وجود الدعم من عدمه، ولكن عن الحدود التي يمكن أن يذهب إليها البلدان في وقوفهما بجوار مادورو؟ فـالـرئـيـس تـرمـب يـتـحـرك فــي المـلـعـب الفنزويلي مــدفــوعــا بـإيـمـانـه بـمـبـدأ مــونــرو الـشـهـيـر، وهـو مـبـدأ كــان الرئيس الأمـيـركـي جيمس مـونـرو قد ، ثـم بقي مـن بـعـده مبدأ 1823 أســس لـه فـي عــام في انتظار الإدارات الأميركية التي تستطيع أن تبعثه إلـــى الـحـيـاة، أو أن تعتمده فــي حركتها على خريطة العالم. المـــــبـــــدأ مـــــعـــــروف ومــــشــــهــــور ويــــحــــمــــل اســــم صــاحــبــه، وهـــو يــرســم مـــجـــالا حـيـويـا لـلـولايـات المتحدة، ثم يدعوها إلى أن تتحرك في حـدوده، وأن تــطــرد مـنـه كـــل طـــرف آخـــر يـمـكـن أن يـزاحـم الأمـيـركـيـن فــي الــنــفــوذ، أو فــي الـتـأثـيـر، أو في السطوة والهيمنة. ولم يكن حديث ترمب عن جزيرة غرينلاند الــدنــمــاركــيــة حـلـمـا رآه فـــي مــنــامــه، ثـــم استيقظ يـــرويـــه لـلـدنـمـاركـيـن أو ســـواهـــم، ولــكــن المــجــال المرسوم على أساس مبدأ مونرو يضم غرينلاند فيما يضم. وعندما بدأ الرئيس الأميركي حديثه عن هذه الجزيرة الدنماركية المتمتعة بحكم ذاتي بــدا الأمــر غريباً، فلما سكت لفترة عـن الحديث فـي المــوضــوع، تخيل المتابعون أنــه قـد أقـلـع عن الـتـفـكـيـر فــيــه تــحــت ضــغــط الـــرفـــض الــدنــمــاركــي والأوروبــي. ولكن المفاجأة لم تكن فقط أنه جدد الــكــام فــي شـــأن غـريـنـانـد، وإنــمــا عـــن مبعوثا أمـيـركـيـا يــــروح إلـيـهـا ويـــجـــيء مـنـهـا، فـكـأنـه قد انـــضـــم إلــــى بـقـيـة المــبــعــوثــن الأمــيــركــيــن الــذيــن يتجولون في أنحاء الأرض! ومـن خـال نظرة على الخريطة سـوف ترى أن المــــجــــال الـــحـــيـــوي المــــرســــوم يـــضـــم غــريــنــانــد فـي أقـصـى الـشـمـال، بمثل مـا يضم فنزويلا في أقـصـى الـجـنـوب، ومـــن هـنـاك فــي غـريـنـانـد إلـى هنا فـي فنزويلا ترتسم حــدود المـجـال الحيوي في النصف الغربي من الكوكب، ويتحرك ترمب مع أركان إدارته في أفق المجال المرسوم، ولا يهمه كرئيس أو يهمها كإدارة أن يصادفه أو يصادفها بـشـر يـعـيـشـون فـــي داخــــل المـــجـــال، ولا أن يـكـون لهؤلاء البشر رأي فيما يقال أو يذاع! فــالــرئــيــس مـــــــادورو الـــــذي يـــدعـــوه الـرئـيـس تـــرمـــب لـــلـــتـــنـــازل عــــن الــســلــطــة رئـــيـــس مـنـتـخـب، والمــفــارقــة أن الـــولايـــات المـتـحـدة الـتـي تتكلم مع العالم عن الديمقراطية التي هي حُكم الشعوب، لا تبالي وهـي توجه هـذه الـدعـوة العجيبة إلى رئـــيـــس مـنـتـخـب. مـــن المــمــكــن طـبـعـا أن يـــقـــال إن الانتخابات شابها ما شابها، قد يقال هذا، وقد يـكـون صـحـيـحـا، ولـكـن صــاحـب الـحـق فــي مـدى دقـتـه أو صحته هـو الشعب الفنزويلي وحــده، وما عدا ذلك اعتداء على حق أصيل لشعب على أرضه. المفارقة الأخرى، أن الشعب الفنزويلي يبدو فـــي عــمــومــه صــامــتــا، ولـــكـــن حــتــى لـــو صــــح هــذا المدخل في تفسير الصمت الشعبي الفنزويلي، فــالأمــر يـخـص الــنــاس فــي فـنـزويـا ولا يتجاوز حدود بلدهم. وفـي غياب الفنزويليين كطرف فاعل يبقى الـــرهـــان عـلـى الـطـرفـن الـــروســـي والـصـيـنـي؛ لأن حـديـثـهـمـا عـــن دعــــم «كـــامـــل» ســــوف يـــوضـــع في اختبار كلما تفاقمت الأزمة. ولـــيـــس مـــن المـسـتـبـعـد أن تــتــحــول فـنـزويـا صــفــقــة ثـــاثـــيـــة، فــيــقــايــض بـــهـــا تـــرمـــب الـــــروس فـــي مـلـف أوكـــرانـــيـــا، ثـــم يـقـايـض الـصـيـنـيـن في ملفات لا حصر لها بين الصينيين والأميركيين، ويكتشف الرئيس مادورو أن الدعم الكامل ليس هـكـذا بالضبط، وأنــه دعــم لا يصمد إذا تعرض لاختبار المقايضة. لقد جاء يوم على ترمب قايض فيه الحكومة في بكين شيئا بشيء، فحصل منها على المعادن النادرة، وسمح في المقابل للطلبة الصينيين بأن يتلقوا تعليمهم في الجامعات الأميركية. ولأن ما بينه منذ ولايته الأولى وبين حكومة الرئيس شي جينبينغ كثير، فإن استدعاء مبدأ المقايضة الأثير لديه، من المربع الــذي انعقدت فيه صفقة الطلبة والمـــعـــادن، إلــى الـخـانـة الـتـي تقع فيها الأزمـــة مع فنزويلا، هو استدعاء قائم، وربما غالب. Issue 17194 - العدد Thursday - 2025/12/25 الخميس كــــان طـبـيـعـيـا أن تـنـشـغـل المـــجـــالـــس الــســودانــيــة بــــالمــــبــــادرة الـــتـــي قـــدمـــهـــا رئـــيـــس الـــــــــوزراء الـــســـودانـــي الدكتور كامل إدريـــس أمــام الجلسة الخاصة لمجلس الأمـن الدولي مطلع الأسبوع الحالي. ذلك أن المبادرة حــوت رؤيــة الحكومة السودانية لإنـهـاء الـحـرب التي طال أمدها وتراكمت معاناتها، وفي وقت تتسارع فيه التطورات والتحركات بشأنها. المـــبـــادرة، فــي جــوهــرهــا، طـرحـت رؤيـــة الحكومة الـسـودانـيـة لإنــهــاء الــحــرب عـبـر حـزمـة مــن الإجــــراءات الأمـنـيـة والـسـيـاسـيـة، تــبــدأ، لا بـهـدنـة قـصـيـرة لثلاثة أشهر كما جاء في مبادرة الرباعية، بل تقفز مباشرة إلــــى وقــــف شـــامـــل لإطـــــاق الـــنـــار تــحــت رقـــابـــة أمـمـيـة وعربية وأفريقية، يتزامن معه انسحاب «قوات الدعم السريع» من المناطق التي تسيطر عليها، وتجميعها فـي معسكرات مـحـددة تحت رقـابـة دولــيــة، وتسجيل وفرز مقاتليها لاستبعاد العناصر الأجنبية، وصولا إلـــى نـــزع الـــســـاح والــتــســريــح والـــدمـــج وفـــق الــشــروط والــضــوابــط المـتـعـامـل بـهـا فــي مـثـل هـــذه الـــحـــالات، مع الـتـأكـيـد عـلـى المـحـاسـبـة والــعــدالــة. وتـتـنـاول المــبــادرة تــســهــيــل الــــعــــودة الآمــــنــــة لـــلـــنـــازحـــن والـــاجـــئـــن إلـــى مناطقهم، وإعـــادة الإعـمـار، وعقد مؤتمرات لترسيخ الــســلــم المــجــتــمــعــي، وانـــتـــهـــاء بـعـقـد حـــــوار ســـودانـــيســـودانـــي لـلـتـوافـق عـلـى كيفية إدارة الـــدولـــة تمهيدا لانتقال ديمقراطي عبر انتخابات عامة بمراقبة دولية. غـــيـــر أن ردود الـــفـــعـــل الـــتـــي واجــــهــــت المـــــبـــــادرة، خصوصا مـن الـقـوى المناوئة للحكومة والجيش، لم تنصرف إلى مناقشة جادة لبنودها بقدر ما اتجهت إلـى رفضها جملة وتفصيلاً، ومحاولة تفكيكها من منطلقات سياسية مسبقة. وهـذا ما يستدعي سؤالا مـــشـــروعـــا: هـــل المـشـكـلـة فـــي مــضــمــون المــــبــــادرة أم في القراءة السياسية لها؟ الحقيقة أن المبادرة الحكومية تنطلق من موقف مـبـدئـي يـــرى أن أي مــســار لـحـل مــســتــدام لا يـمـكـن أن يُبنى على مكافأة «قـــوات الـدعـم الـسـريـع»، والتعامل معها كطرف مـسـاو لجيش الـبـاد، والـتـجـاوز عـن كل ما أحدثته من دمار وما ارتكبته من فظائع. ومن هذا المنظور، تتعامل المبادرة مع «قوات الدعم السريع» لا باعتبارها فاعلا دائما في المشهد، بل بوصفها ظاهرة مـسـلـحـة طـــارئـــة يــجــب تـفـكـيـكـهـا ضــمــن مـــســـار إنــهــاء ظـاهـرة الجيوش الـرديـفـة واسـتـعـادة الـدولـة لاحتكار السلاح المشروع. هــــذا الـــطـــرح يـنـسـجـم، مـــن حــيــث المـــبـــدأ، مـــع أحـد الشعارات المركزية لثورة ديسمبر: «العسكر للثكنات والـجـنـجـويـد يــنــحــل»، كـمـا يــتــجــاوب مــع رغــبــة قطاع واســع مـن السودانيين الـذيـن بـاتـوا يرفضون أي دور سياسي أو عسكري مستقبلي لـ«قوات الدعم السريع». ومــــع ذلـــــك، فــــإن بــعــض مــنــتــقــدي المــــبــــادرة يـتـجـنـبـون مواجهة هـذه النقطة مباشرة، ويـركـزون نقدهم على الجيش والحكومة، دون إبداء موقف واضح من مسألة حل «الدعم السريع» ونزع سلاحها. هنا لا يتعلق الأمر فقط بالخلاف حــول آلـيـات إنـهـاء الـحـرب، بـل بخلاف أعمق حـول طبيعة الـدولـة التي يريدها السودانيون بعد الحرب؛ هل هي دولة بجيش واحد وسلاح واحد، أم دولة تُدار بتوازنات الميليشيات وشرعنة وجودها؟ المبادرة كذلك أسهمت في إعادة تسليط الضوء، داخل مجلس الأمن نفسه، على العامل الخارجي في استمرار الحرب، لا سيما ما يتعلق بإمدادات السلاح والتمويل والمرتزقة. وقد كان لافتا أن غالبية المداخلات ربـطـت بـن تـدفـق الـسـاح واتــســاع رقـعـة الــحــرب، بل ذهب بعض المتحدثين إلى تحميل الطرف الأساسي الــداعــم لــــ«قـــوات الــدعــم الـسـريـع» مسؤولية مباشرة عن إطالة أمـد الـصـراع، ومـا ارتكبته هـذه القوات من انتهاكات فظيعة وجرائم إبــادة. ولعل العبارة التي لخصت هذا الموقف جاءت على لسان رئيس مجلس الأمــــن الــحــالــي، مـــنـــدوب سـلـوفـيـنـيـا، حـــن قــــال: «فـي حــرب تتسم بالفظائع الجماعية، لا تـوجـد سلسلة إمـــــداد مـحـايـدة».صـحـيـح أن المـــبـــادرة تــطــرح مـسـارا طموحاً، يعلي السقف في بعض الجوانب، لكنها لا تتضمن، في جوهرها، ما يمكن اعتباره صادما أو مرفوضاً: فهي تتحدث عن العودة الآمنة للنازحين واللاجئين، وعن المحاسبة على الجرائم، وعن إعادة الإعـــمـــار، وعـــن نـــزع الــســاح خــــارج سـيـطـرة الــدولــة، وعن حوار سوداني-سوداني يمهد لانتخابات عامة تحت إشــراف دولــي. وهـي مطالب يصعب، منطقياً، الاعـــتـــراض عليها مـــا لـــم يـكـن الاعـــتـــراض نـابـعـا من حسابات سياسية لا من اختلاف حول المبدأ. إن جــوهــر الإشـــكـــال، إذن، لا يـكـمـن فـــي المـــبـــادرة نفسها بـقـدر مـا يكمن فـي كونها أعـــادت طــرح سـؤال الدولة والسلاح والشرعية بصورة مباشرة، ووضعت بـــعـــض الـــــقـــــوى أمــــــــام اســـتـــحـــقـــاق ســـيـــاســـي لا تـــريـــد مواجهته. ولذلك، بـدا الرفض أقـرب إلـى رفـض نتائج المبادرة المحتملة، لا إلى نقد موضوعي لمضمونها. في المحصلة، قد تكون المبادرة بحاجة إلى تطوير وضمانات وآلـيـات تنفيذ واقعية، لكن التعامل معها بـاعـتـبـارهـا مـجـرد مـــنـــاورة أو وثـيـقـة عــاقــات عـامـة لا يخدم البحث الجاد عن إنهاء الحرب. فالنقاش الحقيقي لا ينبغي أن يكون حول من عرض المبادرة، بل حول أي طـريـق يـقـود فعليا إلـــى دولـــة سـودانـيـة مستقرة، ذات سيادة، وسـاح واحــد. فـأي سـام مستدام للسودان لا يمكن أن يتحقق من دون حسم مسألة السلاح المنفلت، والجيوش المـوازيـة. هـذه مسألة لا تحتمل التأجيل أو التسويف... أو التحايل السياسي. عثمان ميرغني سليمان جودة OPINION الرأي 14 لماذا أثارت المبادرة السودانية الجدل؟ مبدأ أثير لدى ساكن البيت الأبيض الظاهرة الأصولية وحالة «التأقلم الماكر» في علم الأحياء ابتُكر مفهوم «التأقلم الــــحــــيــــوي»؛ بـــحـــيـــث يـــتـــكـــيّـــف الإنـــــســـــان مـع الـــتـــغـــيّـــرات الــســريــعــة ســـــواء عــلــى المـسـتـوى البيئي أو الطبيعي، ويختلف المدى الزمني لتحقيق التأقلم مـن فصيل إلــى آخــر، وهو مـــفـــهـــوم مـــفـــيـــد حـــتـــى لـــلـــمـــهـــتـــمّـــن بــتــربــيــة الحيوانات؛ حيث إن تكييفهم مع واقع جديد يحتاج إلى دُربة وصبر، وحالة التأقلم في عالم الكائنات وعلاقاتها بالطبيعة تختلف عن التأقلم الإنساني، وعليه فإن المفهوم لا بــد أن يُــصـحـب بـاسـتـجـابـة جــديــة لـلـخـروج مـن حـالـة الارتــبــاك مـن التغيّر إلــى مستوى متطوّر من الانسجام والانخراط في الواقع الجديد. مـــفـــهـــوم الـــتـــأقـــلـــم فـــــي عــــالــــم الــطــبــيــعــة والكائنات، هو تأقلم صادق وعملي، أمَّا في عالم الآيديولوجيات والأفكار الشمولية فإن ثـمـة معنى لــه آخـــر يمكن وصـفـه بـ«التأقلم المــاكــر». هــذا حــدث بعد انـحـسـار الشيوعية في الثلث الأخير من القرن العشرين وصعود الـلـيـبـرالـيـة الــغــربــيــة، حـيـث تـشـظّــت الـحـالـة الــشــيــوعــيــة وتــقــسّــمــت بـــن مـــن عـــانـــد وبـقـي باكيا على الأطـــال، وبــن مـن تأقلم وحــاول أن يـحـدّث مـن أفـكـاره الشيوعية ولـو جزئيا تزامنا مع الهيمنة الليبرالية الغربية، وهذا واضح في الأحزاب ذات الطابع الشيوعي في أوروبا. فــــــي إقـــلـــيـــمـــنـــا وبـــــعـــــد صـــــعـــــود الـــــــرؤى الـــتـــنـــمـــويـــة وتـــجـــريـــم الــــتــــيــــارات الإخـــوانـــيـــة بـــفـــروعـــهـــا الــــصــــحــــوي مـــنـــهـــا والــــــســــــروري، وبعد ملاحقة مؤسساتها وتجفيف منابع تمويلها، طرح بعض الطيبين فكرة «نهاية الـــصـــحـــوة وانــــحــــســــارهــــا»، والـــــواقـــــع أن مـن يفهم هـذه التيارات يجد أنَّها تمارس حالة «التأقلم الماكر». نعم، الـدول والحكومات قامت بعملها ودورهـــا لضرب هـذه الجماعات والتيارات، ولكن نهايتها يحتاج إلى وقت طويل، إنها رحلة طويلة وشاقة. الأصوليون يغتبطون ويـــفـــرحـــون بـــأطـــروحـــة «الانــــحــــســــار»؛ لأنـهـا تعطيهم فرصة لغض الأنظار عنهم والتقاط الأنفاس من أجل بناء مؤسسات تعمل تحت الأرض. عـلـى سبيل المــثــال، يـــرى الـبـاحـث خالد العضاض في حـوار معه قبل أيام نُشر على «العربية. نـت» أن الجماعات «كانت تعتمد سـابـقـا عـلـى الـبـنـيـة الـهـرمـيـة والاجـتـمـاعـات الــــســــريــــة والمـــــــراســـــــات المـــغـــلـــقـــة والمــــشــــفــــرة، بينما الــيــوم بـاتـت التنظيمات تـتَّــجـه نحو (الـتـمـوضـع الــســائــل)، حـيـث يـكـون العنصر مـــجـــرد مـسـتـهـلـك رقــمــي لـلـفـكـر وفـــي مرحلة أبعد منفذا لها، دون عضوية مباشرة». وأتــــفــــق مـــعـــه فــــي قــــولــــه: «الــتــنــظــيــم فـي صـــورتـــه الــحــديــثــة يـعـتـمـد عــلــى مـــا يُــسـمـى (التأثير الشبكي)، حيث تكون العلاقة مرنة لا تربطها هيكلة تنظيمية، بل روابط فكرية ومحتوى مشترك. لم تعد هناك حاجة إلى الاجــتــمــاعــات الــخــاصــة والـــلـــقـــاءات الـسـريـة، بـل تحل مكانها قـنـوات مشفرة، ومنتديات إلــــكــــتــــرونــــيــــة، ومــــجــــمــــوعــــات خـــــاصـــــة عــلــى (تلغرام) مثلاً، والبث المتكرر على منصات الفيديو». نعم، إن التيارات المتطرّفة هذه حاليا لا تحتاج إلى ظهور علني في المنابر والمساجد والـــكـــاســـيـــت، كـــمـــا كـــــان حـــالـــهـــا فــــي الــعــقــود الماضية، بل إن الفضاءات الممنوحة لها الآن أكبر بكثير مما حصلت عليه في الثمانينات والــتــســعــيــنــات؛ ولـــذلـــك فــإنــهــا تـتـغـطّــى الآن بــألــبــســة جـــديـــدة. لـــم يــعــد «الــــــزي الـــدعـــوي» ضروريا وربما لبسوا مثل الشباب العادي؛ ألــبــســة حــديــثــة ونــظــيــفــة، وبــلــحــى مــهــذّبــة، وربـــمـــا يـــراوغـــون فـــي مـــدح بـعـض المـشـاريـع مـــن أجـــل غـــض الـنـظـر عـــن جـــذرهـــم الـفـكـري، ومكرهم الخفي، هــذا هـو أسـلـوب الصحوة الذي يعرفه أصغر دارس في هذه الجماعات والتيارات المارقة. الــــخــــاصــــة أن الــــجــــمــــاعــــات الأصـــولـــيـــة ومنها الصحوة تنتهج حاليا استراتيجية التأقلم الشكلي، الـذي أعتبره في غاية المكر والتضليل. إنَّني أتوقّع وأجزم أن ما يقولونه فـي مجالسهم الخاصة عكس الــذي يبثونه عبر الإعــــام، إن مـا يقولونه ومــا يزعمونه مجرّد ادعـاء بالتكيّف والتوافق مع التنمية والـــزمـــن الــجــديــد الـــصـــاعـــد، وعــلــيــه فـــــإن من الواجب الحذر من هذا التشويش المقصود. إنَّهم يعرفون أن الإقليم ذاهب إلى أفكار التنمية والإسلام المعتدل والتدين الطبيعي المـــحـــمـــود؛ ولـــذلـــك فــهــم يـــخـــافـــون مـــن إعـــان أفكارهم علناً، بـل ربَّــمـا قـالـوا عكسها بغية غض الأنظار عنهم. إن كــــل الـــكـــائـــنـــات الــطــبــيــعــيــة تــتــأقــلــم بحيوية طبيعية اسـتـجـابـة لنظم القوانين الكونية، غير أن أصحاب النظريات الشمولية ومنها الظاهرة الأصولية يعاندون التغيّر، لا يعلمون أن الزمن تجاوزهم وأنَّهم في زمن ليس لتياراتهم ولا لأفكارهم ولا لرموزهم. فهد سليمان الشقيران
RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky