تشكل «الحزام» مفخرة ليس فقط لأحمد أبو دهمان وإنما للأدب السعودي الحديث كله بل وللآداب العربية بأسرها الثقافة CULTURE 18 Issue 17191 - العدد Monday - 2025/12/22 الاثنين التحليل النفسي للنار عــــــــاد الـــــشـــــتـــــاء وعــــــــــاد الـــتـــحـــديـــق المـوسـمـي فـي الــنــار. الـنـار ليست مــادة، بل لغز. تاريخياً، لم يكن طهي الطعام والـــــــــدفء هـــمـــا الــــغــــرضــــان الــــوحــــيــــدان، بـــل كــــان الإنـــســـان يــصــف صـلــي عـظـامـه وجروحه بالنار علاجا لكل أوجاعه التي يعرفها والتي لا يعرفها، كقوة تطهير. من الصداع وأوجـاع الظهر إلى عضّات الـحـيـوانـات ولـسـع الـعـقـارب والـحـيّــات، كان يعالج كل ذلك بالاصطلاء والكي. لــــكــــن الــــتــــحــــديــــق فــــــي الــــــنــــــار وفــــي حركتها الأفعوانية التي لا تستقر على شــكــل ثـــابـــت ولا تـعـيـد نـفـسـهـا مــرتــن، يشعر بأن هذا المشهد ليس مجرد رؤية عابرة، بل انجذاب صامت يعلق بالفكر. ثمة شــيء فـي الـنـار يدعو إلــى السكون أمـــــام شــــيء ذي قـــداســـة وهــيــبــة. كـأنـهـا تخاطب طبقة أقــدم مـن العقل، طبقة لا تستجيب بسهولة للتفسير. في لحظة التحديق يأبى الذهن بغريزته الأولـى، كل محاولة لاختزالها إلى شيء محدد. النار لا تحضر أمامي كجسم، بل كفعل وحركة خالصة. إنها صيرورة تُرى ولا تُمسك. ولهذا يبدو أي تعريف مادي لها ناقصا منذ البداية، مهما بـدا مطمئنا أو دقيقاً. تقول الفيزياء والكيمياء الحديثة إن اللهب ليس مــادة صلبة ولا سائلة، بـل مـزيـج مـن غـــازات متوهجة وبـازمـا ضــعــيـــفـــة نـــاتـــجـــة عـــــن الاحـــــــتـــــــراق. هـــذا تــــوصــــيــــف دقـــــيـــــق مــــــن حــــيــــث الـــقـــيـــاس والـــتـــحـــلـــيـــل، لـــكـــنـــه لا يــــامــــس جـــوهـــر تجربتنا الحية بالنار. إنه يشرح شروط الظهور، لا معنى الحضور. العلم هنا يتعقب الظاهرة، ويفككها إلى عمليات وجــســيــمــات وانـــتـــقـــالات طـــاقـــة، لـكـنـه لا يجيب عـن الـسـؤال الــذي يفرض نفسه، ماذا تكون النار في ذاتها؟ بل لعل هذا الوصف العلمي، بدل أن يحسم المسألة، يزيدها تعقيداً، لأنه يعترف ضمنيا بأن النار ليست شيئا قائما بذاته. ما يظهر كمادة ليس إلا وسيطا تمر عبره النار، لا النار نفسها، ولهذا لا يمكن تثبيتها في مفهوم واحد. مـــــن هــــــذا الــــتــــوتــــر بـــــن مـــــا يُـــعـــاش ومــا يُــفـسَّــر، نعود إلــى الـبـدايـات الأولــى للفلسفة، إلى الفلاسفة الأيونيين الذين جــــــرى تـــصـــويـــرهـــم طـــــويـــــا بــوصــفــهــم ماديين بدائيين. غير أن هـذا التصوير يخفي أكثر مما يكشف. فطاليس حين قـــــال إن المــــــاء هــــو المــــبــــدأ الأول لــــم يـكـن يــتــكــلــم عــــن ســـائـــل مـــحـــســـوس، بــــل عـن مـبـدأ حـــي قـــادر عـلـى الـتـحـول والـتـولـد. وأنكسيمانس حـن جعل الـهـواء أصـا لــم يـكـن يـقـصـد هــــواء الـتـنـفـس، بــل قـوة لـــطـــيـــفـــة تـــتـــكـــاثـــف وتـــتـــخـــلـــخـــل فـتـنـتـج الــكــثــرة. أمـــا أنـكـسـيـمـنـدر، حـــن تـحـدث عن غير المتعين، فقد تجاوز أصلا فكرة المـادة المـحـددة، ووضـع مبدأ لا يُــرى ولا يُمسك. سؤالهم لم يكن مما صُنع العالم كجسم، بل كيف يصير، وكيف يتحول، وكـــيـــف يـمـكـن لـلـعـقـل أن يـفـهـم الـحـركـة نفسها. فـــــــي هـــــــــذا الــــــســــــيــــــاق تُـــــظـــــهـــــر نـــــار هـيـراقـلـيـطـس مـعـنـاهـا الـحـقـيـقـي. فهي ليست عنصر الموقد، ولا مادة فيزيائية، بل صــورة فلسفية للصيرورة الدائمة. الــــنــــار عــــنــــده تــعــبــيــر مـــكـــثـــف عــــن عــالــم يـقـوم عـلـى الـتـوتـر والـــصـــراع والـتـحـول المستمر. إنها تقول إن الوجود لا يُفهم من خـال الثبات، بل من خـال التغير، وإن الحقيقة ليست مــا يستقر، بــل ما يتبدل. ولهذا لا تكون نار هيراقليطس مبدأ ماديا بالمعنى الحرفي، كما يروج المـــاديّـــون، بــل لـغـة فـكـريـة تشير إلـــى أن العالم فعل وحركة لا جوهر، وأن العقل نفسه لا يستطيع أن يفهم الكون إلا إذا تخلى عن وهم السكون. هــذا الـحـدس الـقـديـم يجد امـتـداده المــعــاصــر عـنـد غــاســتــون بـــاشـــار. ففي كـــتـــابـــه «الـــتـــحـــلـــيـــل الـــنـــفـــســـي لـــلـــنـــار» لا يسعى إلى تقديم نظرية علمية جديدة، بل إلى قلب زاوية النظر رأسا على عقب. إنه يعيد النار من المختبر إلى المخيلة، ويقول إن الخطأ لم يكن في اختيار النار موضوعا للتفكير، بل في اختزالها إلى مــــادة. الــنــار، فــي نــظــره، صـــورة نفسية عـمـيـقـة، تـسـكـن الإنـــســـان قــبــل أن يفكر فيها علمياً، وتسبق المفهوم والتجربة المــعــمــلــيــة مـــعـــا. إنـــهـــا تـــرتـــبـــط بــالــرغــبــة والمعرفة والعدوان والألفة في آن واحد، ولــهــذا تملك هـــذه الــقــدرة الـغـريـبـة على لفت النظر وإيقاف الزمن، فننظر إليها في صمت وإجلال. يرى باشلار أن التحديق في النار فـعـل تـأمـلـي بـــدائـــي، يـكـشـف عـــن أحـــام السيطرة والتحول والتطهير. في النار نحلم بالقوة، لكننا نستحضر الخطر أيضاً، وننجذب إليها بقدر ما نخشاها. إنـهـا تجمع الأضـــــداد الـنـفـسـيـة، الـــدفء والـــدمـــار والـسـكـيـنـة والــتــهــديــد، ولـهـذا كانت حاضرة في الأساطير والطقوس وتـــــاريـــــخ الـــســـحـــر وذاكــــــــــرة الــــشــــعــــر، لا بــوصـــفـــهـــا عـــنـــصـــرا طــبــيــعــيــا فـــقـــط، بـل بوصفها تجربة داخلية كثيفة. والعلم، بحسب باشلار، لم يتقدم إلا حين قطع مع هـذه الخيالات النارية الأولــى، لكنه حين فعل ذلك ربح الدقة وخسر المعنى، ربح السيطرة وخسر الدهشة. وهـنـا لا يـدعـو بــاشــار إلـــى رفـض العلم، بل إلى وضعه في موضعه. العلم يفسر الظواهر، لكنه لا يستنفد دلالتها. النار، حتى بعد كل التفكيك الفيزيائي، تظل تجربة تُعاش قبل أن تُحلل، وتظل قـــــــادرة عـــلـــى إربـــــــاك الـــعـــقـــل الــــــذي يــريــد تـحـويـل كــل شـــيء إلـــى مــوضــوع يمسك به ويهيمن عليه. ولهذا يحوّل باشلار الـــســـؤال مِــــن: مــا الـــنـــار؟ إلـــى مــــاذا تفعل الــنــار فــي الـنـفــس؟ ســــؤال لا يـبـحـث عن جوهر ثابت، بل عن أثر وعلاقة وصدى داخلي. عــنــد هــــذه الـنـقـطـة يـكـتـمـل المــســار الـــــنـــــظـــــري. تـــنـــتـــقـــل الـــــنـــــار مـــــن كـــونـــهـــا ظــــاهــــرة تُـــــوصَـــــف مــــاديــــا إلــــــى كــونــهــا مـبـدأ دلالـيـا للصيرورة عند الفلاسفة الأيـــونـــيـــن، وتـبـلـغ ذروتـــهـــا الفلسفية عــــنــــد هــــيــــراقــــلــــيــــطــــس بــــوصــــفــــهــــا لــغــة للتغير الـدائـم لا عنصرا فيزيائياً. ثم يـأتـي بــاشــار ليعيد تـوجـيـه الــســؤال، فـــا يـجـعـل الـــنـــار مــوضــوعــا لـلـعـلـم ولا مبدأ كونياً، بل يجعلها مفتاحا لفهم المخيلة الإنسانية ذاتها. عند هذا الحد تتكشف حدود المادية، لا بعدها خطأ، بل بوصفها أفقا جزئيا ابتدائيا من أفق الـفـهـم، وتـظـهـر إمـكـانـيـة تفكير آخـــر لا يُلغي العلم ولا يناقضه، بل يضعه في موضعه، ويذكّر بأن بعض الظواهر لا تُستنفد حقيقتها بما تتكوّن منه، بل بما تُحدثه في الوعي والخيال. * كاتب سعودي. *خالد الغنامي غاستون باشلار من درسنا معا على يد محمد أركون إلى صفحات «الرياض» الثقافية بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان «سنوات المَغَر» للإماراتية مريم الزرعوني لـقـد أتــــاح لــي الــحــظ أن أتــعــرف على أحــــمــــد أبــــــو دهـــــمـــــان لأول مــــــرة فـــــي ذلـــك الــــــدرس الأســـبـــوعـــي الــكــبــيــر لـلـبـروفـسـور محمد أركــــون فــي الــســوربــون. كـــان دائـمـا برفقة شخص آخـر هو معجب الزهراني. وكـنـا نــرى فيهما الـوجـه المـشـرق والمتألق لـلـمـمـلـكـة الــعــربــيــة الـــســـعـــوديـــة. ومــــا كنا نــعــرف آنـــــذاك أن مـعـجـب سـيـصـبـح لاحـقـا أحـد أشهر المثقفين العرب. وسـوف يتبوأ أعــلــى المـنـاصـب فــي الـعـاصـمـة الفرنسية: مديرا عاما لمعهد العالم العربي. كان طالبا عـاديـا مثلنا لا أكثر ولا أقــل. وقـد شعرنا بالفخر آنــذاك لأن أحـد أبناء جيلنا وصل إلى هذا المنصب الرفيع. هذا ناهيك بكونه ناقدا أدبيا وأستاذا جامعيا لامعاً. وأعتقد أن أحــمــد أبـــو دهــمــان كـــان فــخــورا بــه إلـى أقصى الـحـدود. كنا مجموعة من الطلاب الـعـرب نحضر تلك الـــدروس الشهيرة في ثمانينات القرن الماضي وربما تسعيناته. وهــي الـــدروس التي جــددت الفكر العربي الإسلامي بشكل غير مسبوق. إنها دروس دخلت التاريخ من أوسع أبوابه بل ودشنت الــتــاريــخ الــعــربــي مــا بـعـد الأصـــولـــي. وقـد أصـبـح بعض طـابـه مـن المشاهير لاحقاً. فبالإضافة إلى الدكتور معجب الزهراني يـخـطـر عــلــى بــالـــي الآن شــخــص آخــــر نــال شهرة واسعة هو الدكتور التونسي محمد الـــحـــداد. وهــنــاك حتما آخــــرون فــي مشرق العالم العربي ومغربه ممن خرجهم ذلك الدرس الأكاديمي العبقري الخالد. فيما بعد توطدت علاقتي بأحمد أبو دهمان عندما تفضل علي واستكتبني في جريدة «الرياض» الغراء. ولم أكن معروفا آنذاك كثيراً. ولكنها ساهمت في التعريف بي عندما نشرت مقالاتي على صفحاتها الـــثـــقـــافـــيـــة تـــحـــت إشــــــــراف الــــشــــاعــــر سـعـد الحميدين. وكنت أشعر بمتعة كبيرة في تـدبـيـج تـلـك المــقــالات وتسليمها لــه باليد كل أسبوع لكي يرسلها إلى الجريدة. كان يعطيني عــادة مـوعـدا فـي مقاهي باريس الـقـريـبـة مــن مـنـزلـه فــي الـــدائـــرة الخامسة عـــشـــرة. وهــــي مـنـطـقـة الـيـونـيـسـكـو وبـــرج إيـــفـــل فــــي الـــــواقـــــع: أي مــــن أرقــــــى المــنــاطــق الباريسية وأحلاها. وكنا نتحادث كثيرا فــي المـقـهـى ويـجـر الـحـديـث الـحـديـث. ومـا أمــتــع الــحــديــث مــع أحــمــد أبـــو دهـــمـــان. ما أمتع تلك الأحاديث الباريسية أيام زمان. كم أصبحت الآن بعيدا عنها وعني. وفي عهده الميمون بصفته مسؤولا عن جريدة الرياض في باريس لم يكتف بنشر مقالاتي المتفرقة على صفحات الجريدة السعودية الكبيرة وإنما كلفني أيضا بنشر كتابين لا كتاب واحـد في سلسلة «كتاب الرياض». وهــي سلسلة مشهورة ولـهـا وزنـهـا. وقد كان الكتاب الأول بعنوان: «قراءة في الفكر الأوروبـــــــي الـــحـــديـــث»، والـــثـــانـــي بــعــنــوان: «العلم والإيمان في الغرب الحديث». وهما أول كتابين أنشرهما في حياتي. ومن ثم فجريدة الرياض لها فضل كبير علي. ثــــم ابـــــتـــــدأت فــــي الــــســــنــــوات الــاحـــقـــة أنـشـر أكـثـر فـأكـثـر عـلـى صـفـحـات «الـشـرق الأوســـط» وانقطعت علاقتي مـع الـريـاض تدريجياً. وقـد تزامن ذلـك مع عودتي إلى المغرب وعودته هو إلى السعودية. كـنـا نــعــرف أحــمــد أبـــو دهـــمـــان كاتبا حـسـاسـا وصـحـافـيـا لامـعـا لاذع الأسـلـوب أحـــيـــانـــا. ولــكــن مـــا كــنــا نــعــرف أنــــه روائــــي يـسـتـطـيـع الــســيــطــرة عــلــى فـــن الــقــصــة من أولـــهـــا إلـــى آخـــرهـــا. وهــنــا تـكـمـن المـفـاجـأة الأولى لكل من يعرفونه من كثب. يحصل ذلــك كما لـو أنــه خبأ ســره أو لعبته زمنا طــــويــــا حـــتـــى انــــفــــجــــرت فــــي آخــــــر لـحـظـة كالقنبلة الموقوتة. ولكن هل كان هو ذاته يــعــرف أنـــه قــــادر عـلـى فــن الــســرد الــروائــي إلى مثل هذا الحد. ألم يكن يحسب نفسه شـــاعـــراً، وشـــاعـــرا فـــقـــط. وقــــد كــــان شــاعــرا بـالـفـعـل. وروايـــتـــه تـضـج بـالـشـعـر. هـــذا لا يمنع ذاك. في الواقع أن الكاتب (أي كاتب) لا يـعـرف مـن هـو بالضبط قبل أن يجرب نفسه. من المعلوم أن نجيب محفوظ كان يعتقد فـي البداية أنـه سيصبح مفكرا أو فيلسوفا عـلـى طـريـقـة طــه حـسـن. ولـذلـك راح يدبج المقالات الفكرية أو الاجتماعية قـــبـــل أن يــكــتــشــف فــــي حــــنــــايــــاه مــوهــبــتــه الضخمة بوصفه روائيا عبقرياً. أمـا المفاجأة الثانية في حالة أحمد أبـو دهمان فهي أنـه يكتب روايـتـه الأولـى بالفرنسية وينجح نجاحا بـاهـراً. ولعله المشرقي الوحيد الذي حقق هذا الاختراق فـــي الــســاحــة الـفـرنـسـيـة إذا مـــا استثنينا أمـن معلوف بالطبع. ولكن أمـن معلوف لبناني تعلم الفرنسية منذ نعومة أظفاره وليس على كبر كما هي حالة أبو دهمان وحـالـتـنـا جـمـيـعـا. وأمــــا المــفــاجــأة الثالثة فـهـي أن الـــروايـــة (روايـــــة الـــحـــزام) حظيت بالطبع في أشهر دور النشر الباريسية: غـــالـــيـــمـــار. ومـــعـــلـــوم كــــم هــــو مــــن الـصـعـب الــــوصــــول إلــــى هــــذه الــــــدار الـــتـــي لا تنشر عـــادة إلا لـكـبـار الـكـتـاب المـكـرسـن سابقاً. ثـــاث مـفـاجـآت دفـعـة واحــــدة كـانـت كافية لــكــي تـجـعـل مـــن هــــذه الــــروايــــة الـسـعـوديـة حـدثـا ثقافيا على كـا المستويين العربي والــفــرنــســي. ولــكــن عـــن أي شــــيء نـتـحـدث بالضبط؟ ما مضمون هذه الرواية؟ لـنـقـل بــاخــتــصــار شـــديـــد إنـــهـــا سـيـرة ذاتية مقنعة. بالطبع فإن الكاتب يستطيع أن يـخـتـبـئ خــلــف الــــروائــــي بــطــل الـقـصـة ويقول: لا تصدقوا ما أقول. هذا كله خيال في خيال. لا تـأخـذوا الكلام على حرفيته فهناك دائما مسافة بين الكتابة الروائية والواقع الحقيقي. وهذا صحيح. ولكن لا أحد يستطيع أن يمنعنا من الاعتقاد بأن الكاتب استوحى أحداث الرواية من حياته الشخصية خاصةً. فهناك تواز (إن لم يكن تـطـابـقـا) بـــن حــيــاة الـبـطـل وحـــيـــاة أحـمـد أبـــو دهــمــان ذاتــــه. ويتجلى هـــذا التطابق عندما يقول الراوي إنه سيصبح صحافيا لاحقاً، أو عندما يتحدث باستمرار باسم ضمير الـشـخـص الأول، أو عـنـدمـا يصف مــــســــاره مــــن الـــقـــريـــة إلـــــى مـــديـــنـــة «أبــــهــــا» عاصمة الإقليم، إلخ. وهو مسار كلاسيكي مـــعـــهـــود لــجــمــيــع أبـــــنـــــاء الـــــريـــــف الـــفـــقـــراء الــــذيــــن يــــريــــدون أن يــتــعــلــمــوا ويـــخـــرجـــوا مــــن هــامــشــيــتــهــم ويـــصـــعـــدوا فــــي المـــراتـــب الاجتماعية ويصلوا... وفي هذا الصعود إلى القمة تتجلى لنا ضخامة الصعوبات والعراقيل التي تعترض طريقهم. ينبغي أن يخترقوا عـدة حـواجـز قبل أن يصلوا. ولا يـصـل فــي نـهـايـة المــطــاف إلا النجباء مــنــهــم والــــذيــــن عـــانـــوا الأمــــرّيــــن وصـــبـــروا حتى النهاية. وهكذا تنطبق عليهم كلمة نيتشه الـشـهـيـرة: «وحـــدهـــا الشخصيات الاستثنائية تخترق الظروف». هـنـاك إذن ثـــاث بـيـئـات فــي الـــروايـــة: بـيـئـة الــقــريــة الأولــــــى، وبـيـئـة مـديـنـة أبـهـا عاصمة الإقليم، وبيئة العاصمة المركزية الـــكـــبـــرى: الـــــريـــــاض. وقـــــد تـــوقـــف الــكــاتــب طـــويـــا عـنـد تـصـويــر الـبـيـئـة الأولـــــى بكل حـجـرهـا وشـجـرهـا وبـشـرهـا وطبيعتها. وقــــدم لـنـا لــوحـــات أخـــــاذة لا تـقـل جـاذبـيـة عن أجمل اللوحات الفنية ورسوم المدرسة الانطباعية الفرنسية. ويـبـدو أن الكاتب كــــان يــجــد مــتــعــة كــبــيــرة فـــي اســتــعــادتــهــا واستذكارها وهو بعيد عنها في باريس. فهل الــروايــة عـبـارة عـن تصفية حسابات مـــع الـــــذات والــطــفــولــة بـالمـعـنـى الإيــجــابــي للكلمة وليس السلبي؟ دون شك. لنقل إنها مراجعة لـلـذات واستكشاف لهوية الــذات وأعماقها على كبر. إنها بحث عن الجذور وحنين جــارف إلــى الأصـــول لشخص أراد تـخـلـيـد قــريــتــه وطــفــولــتــه فـــي عــمــل أدبـــي رفيع. وربما لهذا السبب نشرتها غاليمار في سلسلة «الطفولة الأولى». بعد أن كتب هذه الرواية يستطيع أحمد أبو دهمان أن يتنفس الصعداء ويقول: لقد أديت واجبي وسددت ديوني. لقد تصالحت مع نفسي. هـــنـــاك مـــشـــاهـــد ســيــنــمــائــيــة أو شـبـه سينمائية في الرواية حتى لكأنك تحسها وتــراهــا بــأم عينيك. ومنها مشهد ذهـاب أمـــــه فــــي مــنــتــصــف الـــلـــيـــل لــجــمــع الـحـطـب مــــع نـــســـاء الـــقـــريـــة كـــمـــا كـــانـــت تــفــعــل أمـــي أنــــا أيـــضـــا. إنــــه مــشــهــد يــصــعــب عــلــيــك أن تـمـر عـلـيـه مــــرور الـــكـــرام دون أن تـرتـجـف. بــالمــخــتــصــر المـــفـــيـــد مــــا يـــلـــي: كــــل الــنــســاء الـعـائـدات وأكــــوام الحطب على رؤوسـهـن يـمـضـغـن بــعــض الــخــبــز لـتـخـفـيـف الـعـنـاء والـتـعـب والــجــوع مـا عــدا أمــه الـتـي تعض على الحبل بنواجذها موهمة بأنها تأكل شيئا مثلهن. لقد قتلني هذا المقطع قتلاً، دمرني تدميراً. ولكنه أحياني وأنعشني في الوقت نفسه لأنه أعادني إلى طفولتي العميقة، طفولتي السحيقة. شكرا أحمد أبـــو دهــمــان. ألـــف شـكـر. إنـــه الـفـقـر المـدقـع، الــفــقــر الأســــــود، ولــكــنــه المـــمـــزوج بـالـشـرف وعزة النفس. هـــــذه قــــــــراءة ســـريـــعـــة ونـــاقـــصـــة جـــدا لــــروايــــة أحـــمـــد أبــــو دهــــمــــان، الـــتـــي دخـلـت الــتــاريــخ الآن. وهـــي تـشـكـل مـفـخـرة ليس فقط لـه، وإنـمـا لــأدب السعودي الحديث كله، بـل ولـــآداب العربية بأسرها. تحية لك يا أحمد. تحية لك كاتبا مبدعا وفارسا عربيا تـرجـل. كنا نتمنى لـو بقيت معنا فترة أطول. عــــن مـــركـــز أبـــــو ظـــبـــي لــلــغــة الــعــربــيــة صـــــدرت روايــــــة «ســــنــــوات المـــغـــر» لـلـكـاتـبـة والـــشـــاعـــرة الإمــــاراتــــيــــة مـــريـــم الـــزرعـــونـــي، وذلـــك ضـمـن مــشــروع «قـــلــم»، الـــذي «يـدعـم رعاية الأصوات السردية الإماراتية، لتأخذ فـــرصـــتـــهـــا فــــي مـــنـــظـــومـــة الــــســــرد الـــعـــربـــي المعاصر». صفحة من القطع 223 تقع الرواية في المتوسط، وتتناول سيرة شخصية (غريب) المـولـود في الشارقة في زمـن شكل مفترقا تاريخيا حاسما في الخليج العربي، حين كــانــت الـــهـــويـــات تـتـشـكـل والــــحــــدود تـرسـم ملامحها الراهنة. وتستعرض رحلة هذا الــبــطــل الــقــلــق فـــي بــحــثــه عـــن إثـــبـــات ذاتـــه وإنــســانــيــتــه، بـيـنـمـا تـضـعـه الـــظـــروف في مــواجــهــة عــالــم لا يـعـتـرف بــالــفــرد إلا عبر الوثيقة، فتبدو مساراته وكأنها محاولة دائمة لانتزاع الاعتراف بوجوده. وتنشغل بـفـكـرة الـعـبـور بــن الأمكنة والــــهــــويــــات، إذ يــتــحــول الـــزمـــن إلــــى مـــادة قـــابـــلـــة لـــلـــتـــأمـــل، بـــعـــيـــدا عـــــن الــــســــيــــرة أو الـشـهـادة المــبــاشــرة. تدخلنا الـــروايـــة عالم (غــــريــــب) بــثــقــة، ولا تـــرفـــع صـــوتـــهـــا، إنّــمــا تهمس فــي وعـــي الــقــارئ المــحــبّ، للدخول فــــي حــــــــوار إبـــــداعـــــي مــــع الــــــروايــــــة، بـيـنـمـا تتشكل الشخصية الرئيسة داخـــل فضاء خليجي متغير، محمّل بأسئلة الانتماء والذاكرة والحدود التي ترسمها التحولات الاجـتـمـاعـيـة والـسـيـاسـيـة. وتتميز بنبرة هادئة تتجنب الاستعراض، معتمدة على بناء داخلي متماسك، يسمح للشخصيات أن تنمو عبر التفاصيل الصغيرة بعيدا عن المنعطفات الصاخبة، واللغة فيها تتعدّى التوسّل بالحكي؛ لتخلق آليات تسهم في تركيب جديد للمعنى، وتتقدم بحذر، كما تـسـمـح بـظـهـور أشـــكـــال ســـرديـــة محسوبة ومـخـتـلـفـة داخــــل الــفــضــاء الــطــبــاعــي، تـــزج بـــالـــقـــارئ فــــي الــــنــــص الـــســـيـــري المــتــخــيّــل، فاتحًة آفاقه أمـام بناء التجربة الإنسانية من الداخل. تـسـعـى «ســــنــــوات المَــــغَــــر» إلــــى تـقـديـم إجـــابـــة مـحـتـمـلـة عــلــى ســـــؤال الـــهـــويّـــة، ثم تـــتـــرك الــــبــــاب مــــواربــــا لــلــتــأمــل فــــي مـعـنـى العيش داخـل تحولات كبرى. فـدون ادعـاء تمثيل جماعي، تنحاز الرواية إلى العمق الإنـــســـانـــي الـــغـــامـــض، وتــســبــر مـسـؤولـيـة الفرد في تكوّن الهويّة، ومغبّات القرارات التي عليها سيتجلى المصير. تستنطق الـجـمـادات لتصبح شريكة في رواية الحكاية؛ فتروي شجرة وصخرة ومــــرآة وأطــيــاف حلمية مـقـاطـع مــن سيرة (غــريــب)، مانحة الــروايــة تـعـدديـة صوتية تــعــكــس الـــتـــوتـــر بـــن زمــــن الــشــظــف وزمـــن الطفرة، وبين انكسارات الذات وتحولاتها داخـــل فــضــاءات الخليج المـمـتـدة، وتنسج الكاتبة عبر هذا التمازج توازيا بين تحول المكان وتحولات الإنسان، في بناء سردي محكم يـوثِّــق الــذاكــرة ويستعيد طبقاتها المتراكمة. تـعـد «ســنــوات المــغــر» الـعـمـل الــروائــي الأول لمـــريـــم الــــزرعــــونــــي المــــوجــــه لــلــكــبــار، بعد أن قدمت روايـــة اليافعين «رسـالـة من هارفارد». مــــن أجـــــــواء الـــــروايـــــة نــــقــــرأ: «مّــــــد يـــده وأطـــبـــقـــهـــا عـــلـــى الـــغـــيـــمـــة وابــــتــــســــم، شـعـر بـدفء يسري من النافذة إلـى جسده، أخذ يــمــرر سـبـابـتـه عـلـى مـامـحـهـا ويـرسـمـهـا حتى اكتملت، تحدّرت من عينيه دمعتان صارتا خيطين شفيفين يتصلان عند ذقنه مشكّلتين قـطـرة ضخمة تـهـوي بحرارتها على صــدره، نادته المضيفة لتقديم وجبة الغداء، فلم يلتفت... كررت نداءها لكنّه لم يشعر، كـان ملتصقا بالنافذة مغمورا في حِجر سهيلة، يفتح فمه ثم يلوك النبق من يدها، غارقا في حلاوته». هاشم صالح القاهرة: «الشرق الأوسط» أحمد أبو دهمان
RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky