لـــم تــكــن زيــــارتــــي الأولــــــى إلــــى الــــولايــــات المــتــحــدة سـعـيـدة. تـزامـنـت مــع تـجـربـة شخصية مــؤلمــة، وزادت سوءا بتوقيفي بالقرب من مبنى «البنتاغون» بسبب ملامحي، واحتجازي حتى انتهى موظفون يتحدثون العربية مـن تفتيش رسـائـلـي النصية و«إيـمـيـاتـي». ، فــي قـلـب الــحــرب على 2006 كـانـت الـــزيـــارة فــي مطلع الإرهاب وتبعات غزو العراق. بحكم مهنتي، حرصت أثناء الزيارة على متابعة الإعــــام الأمــيــركــي. لـفـت انـتـبـاهـي اخـتـافـه عــن نظيره الــبــريــطــانــي، الــبــلــد الــــذي أعــيــش وأعـــمـــل فــيــه. بــــدا لي التفسير بديهياً: الـولايـات المتحدة قـوة تقود العالم، مطلوب منها أن تفعل، بينما بريطانيا تتحدث في مساحة أوسع من قدرتها على الفعل. لكن مع المتابعة، وجــــدت هـــذا الـتـفـسـيـر قـــاصـــراً. فـلـو كـــان الأمــــر متعلقا بـــالمـــوقـــع الــــدولــــي وحــــــده، لاخــتــفــى الــــفــــارق فـــي تــنــاول الـشـؤون الداخلية. الاخـتـاف كـان أعمق مـن ذلــك. كان في تعريف معنى «المشكلة» نفسه. فـي الثقافة الأمـيـركـيـة، المشكلة ليست فـجـوة بين واقـع قائم ووضـع مثالي متخيل مكتوب في كتالوج. نحن هنا... الآن. والمشكلة هي ما يعوق قدرة الفرد أو المجتمع على إنجاز شيء محدد. ما يمنع الفعل الذي أملكه، لا ما يبتعد عن الكمال الذي أتخيله. يترتب على هذا التعريف أن النقاش لا يستهدف شطب المسافة بين المشكلة ووضع مثالي، بل يستهدف تجاوز عائق يمنعنا من خطوة تالية. ومـن هنا، فإن السلوك الذي يحقق هذا التجاوز، ويسهل حياة الناس، هو ما يمكن تعريفه بالصواب أو «الخلق الجيد». والمفارقة أن بريطانيا كانت تاريخيا رائدة الفلسفة التجريبية، وهي التي رسخت فكرة «أخلاقية النتائج لا أخلاقية الدوافع». حين يذكر آدم سميث يقترن اسمه بأفكار مثل رفـع الكفاءة عبر تقسيم العمل: هـذا يدق المسامير، وذاك يصنع النعال، والثالث يضبط الجلود، فينتج المصنع عددا أكبر من الأحذية. أما «ملل العمال» من هذا النظام فلا وجود له إن لم يشتك منه العامل نفسه. فإن فَعَل تحول إلى قيمة كمية تُـــوازَن مع القيمة الإيجابية لكفاءة النظام ومن ثم جودته حتى للعامل نفسه، بمنطق «عساه يكرهه وهو أفضل له». إنـتـاج أحـذيـة أكثر ليس مجرد رقــم فـي حسابات المــصــنــع، بـــل أتــــاح الـــحـــذاء لمــايــن لـــم يــكــونــوا قــادريــن على شرائه من قبل، بينهم العامل نفسه. ومنطق آدم سميث أتـاح لنا نحن قـدرا من الرفاهية لم يكن يحلم به أجيال سبقتنا. كل كائن في الطبيعة، ومنهم البشر على اختلاف مناصبهم، يحافظ على بقائه بإجراءات ليست دائما مثالية. مـا حــدث لاحـقـا كــان أوربـــة الذهنية البريطانية، فانتقلت من عقل تجريبي طبيعاني إلـى عقل أثيني ينشغل بالجدل بينما فيليب على الأبواب. بــعــد ســـت ســـنـــوات عــــدت إلــــى الــــولايــــات المـتـحـدة لشهرين في إطار منحة للكتاب، متزامنة مع السباق الانتخابي بين أوباما ورومني، ومع ما كانت تعيشه مصر تحت حكم «الإخوان». فصار الأثر أعمق. الـــعـــمـــانـــيـــة الأمـــيـــركـــيـــة فــــي مـــواجـــهـــة الــتــســامــي الـنـظـري الأوروبــــي، والإجـرائـيـة فـي مـواجـهـة الأخــاق الافتراضية، أعادتا تشكيل رؤيتي السياسية. ما قيمة تحقيق عــدالــة متخيلة إن كـانـت النتيجة أن يعيش الجميع في مستوى أدنى؟ وما قيمة تضييق الفوارق إن كانت الطبقات كلها ستنحشر بين الطابقين الأول والثالث؟ حـــتـــى تـــجـــربـــة تــوقــيــفــي تـــغـــيـــرت نـــظـــرتـــي إلــيــهــا. ســـاعـــتـــان فـــي ســـيـــارة شـــرطـــة كــانــتــا مــزعــجــتــن على المستوى الشخصي. ليس هذا وضعا مثالياً. الوضع المثالي أن يختفي الإرهاب ومعه الداعي إلى الاشتباه. لكن الواقع أن الدولة واجهت تهديدا إرهابيا عميقاً، فكانت تتعامل مع مشكلة حقيقية تمس أمن مجتمع كامل. وهي تحاول الموازنة. المعرفة لا تُلتقط من النقاش الافتراضي، والبيان الـــســـاحـــر لا يــحــســن الـــحـــيـــاة، بـــل الــتــجــربــة واخــتــبــار الـــنـــتـــائـــج، والاقـــــتـــــراب مـــن قـــانـــون الـطـبـيـعـة واحـــتـــرام مـــســـاراتـــهـــا، وحـــصـــر مـــحـــاولات تـعـديـلـهـا فـــي أضـيـق الحدود الضرورية لتنظيم مجتمع إنساني. افتراض عالم مثالي، وتحويل المسافة بيننا وبينه إلى ساحة للمشاكل، ينتجان عالما أسوأ، بغض النظر عن النوايا. مـن الصَّعب فهم مـا يجري على الساحتين المشتعلتين في لبنان وغزة بمعزل عن نتائج زيارة بنيامين نتنياهو إلى واشنطن. من غير المرجح أن تفضي الزيارة إلى حلول سحرية لأزمـــات بالغة التعقيد، لكنَّها قـد تحسم الانـطـبـاع المتزايد، والمدعوم بتسريبات دبلوماسية، بأن الاتجاه الدولي يسير نحو تسويات جزئية أو تدريجية. هذا ما تعكسه تصريحات المـبـعـوث الأمـيـركـي تــوم بــــرَّاك، الـــذي اعتبر أن مطالبة لبنان بنزع سلاح «حزب الله» بالقوة «غير واقعية»، خشية الانزلاق إلـــى حـــرب أهـلـيـة، إضــافــة إلـــى مــا تــــردد عــن مـــبـــادرة مصرية تقوم على «تجميد السلاح»، وما نقلته مصادر إعلامية عن تقاطع موقف السفير الأميركي في بيروت ميشال عيسى مع مقاربتَي بــرّاك ورئيس الجمهورية جوزيف عـون القائمتين عــلــى حــصــريــة الـــســـاح بــيــد الـــدولـــة دون زعـــزعـــة الاســتــقــرار الأمني. إذا صـحَّــت هـــذه المـعـطـيـات، فـــإن جـنـوب نـهـر الليطاني قد يتحول إلى منطقة منزوعة السلاح ينتشر فيها الجيش الــلــبــنــانــي، دون حــســم لــقــضــايــا الــــحــــزام الأمـــنـــي أو المـنـطـقـة الاقـــتـــصـــاديـــة أو طـبـيـعـة الـــقـــوة الــبــديــلــة عـــن «الــيــونــيــفــيــل». الخلاصة المـتـداولـة هـي نـزع كامل للسلاح مـن جنوب لبنان يلبي المتطلبات الأمـنـيـة الإسـرائـيـلـيـة، مــع طـــرح قــد ترفضه إســرائــيــل يـقـضـي بـــإعـــادة الــصــواريــخ الثقيلة والـدقـيـقـة إلـى إيــران، والإبقاء على السلاح المتوسط شمال الليطاني تحت عنوان «الاحتواء» لا النزع الشامل. هـــذه الـصـيـغـة، إن صــحّــت، تـكـشـف المــقــاربــة الأمـيـركـيـة: تحييد التهديد المباشر لإسرائيل، لا معالجة مسألة السلاح غــيــر الــشــرعــي فـــي لــبــنــان كـقـضـيـة ســيــاديــة بــنــيــويــة. فحتى لـو أُخـــرج الـسـاح الثقيل مـن المـعـادلـة وحُــيّــد الجنوب أمنياً، سيبقى لبنان سياسيا رهينة قوة حزبية مسلحة قادرة على التعطيل والــفــرض. فـي التجربة اللبنانية، لـم يكن السلاح يوما مجرد أداة عسكرية، بل أداة سياسية تُستخدم لضبط التوازنات الداخلية والتحكم بمسار الدولة. وتـــــزداد الإشـكـالـيـة تـعـقـيـدا مــع فـرضـيـة تـحـويـل «حــزب الله» إلى حزب لبناني منخرط بالكامل في اللعبة السياسية. فـهـذا الــطــرح يتجاهل الطبيعة الـعـقـائـديـة لـلـحـزب، الـــذي لم ينشأ كحركة محلية قابلة لإعادة التكيف، بل كجزء عضوي مـن مـشـروع إقليمي تـقـوده إيــــران، يـقـوم على تـــازم السلاح والعقيدة والوظيفة الجيوسياسية. ارتباط الحزب بطهران مسألة هوية لا خيار سياسي قابل للمساومة. بالنسبة لإســرائــيــل، يُــرجــح الـتـعـامـل مــع هـــذه الصيغة ببراغماتية حذرة، باعتبارها ترتيبا مرحليا يخفف المخاطر على الجبهة الشمالية، دون النظر إليها كحل نهائي. فإبقاء «حــزب الله» قـوة مسلحة شمال الليطاني يعني لها تأجيل التهديد لا إنهاءه، ما يجعل أي قبول مشروطا بحق التدخل العسكري عند الحاجة. في غزة، يتوقف نجاح المرحلة الثانية من خطة الرئيس دونالد ترمب على عوامل متعددة: الدور الأميركي، وطبيعة قوة الاستقرار الدولية، وموقف نتنياهو، ورفـض «حماس» نزع السلاح، والدور الإشكالي للسلطة الفلسطينية. النتيجة أن العملية قد تنتهي إما بتنفيذ جزئي، أو بالاكتفاء بالوضع القائم مع إجراءات شكلية، أو بالفشل والعودة إلى الفوضى. عـمـلـيـا، بــاتــت غـــزة مـقـسّــمـة إلـــى مـنـطـقـتـن: واحـــــدة خاضعة للسيطرة الإسرائيلية وقـابـلـة لـبـدء إعـــادة الإعــمــار بـإشـراف دولـــي، وأخـــرى تحت سيطرة «حـمـاس» تعيش حـالـة جمود إلـــى حـــن حـسـم مـلـف الـــســـاح. ورغــــم إعــــان الـــــدول الـعـربـيـة أنها لن تواجه «حماس» عسكرياً، فهي تؤيد نزع شرعيتها السياسية، في مقابل تمسك الحركة بالسلاح وطرحها بدائل ملتبسة كالتجميد أو التخزين. أما مصر وتركيا فتفضلان الــفــصــل بـــن الـــقـــوات وتــأجــيــل نــــزع الـــســـاح، فـــي حـــن تصر إسرائيل على البقاء طويلا على «الخط الأصفر» لمنع إعادة تسلح «حماس». المشكلة في لبنان وغــزة واحـــدة: بقاء السلاح بيد قوى خـارج الدولة. في لبنان هي أزمـة سيادية بنيوية، وفي غزة عقبة أمام قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح، يضاف إليها تشدد اليمين الديني الإسرائيلي الرافض لأي تسوية مقبولة. إذا تـكـرّس خـيـار الاحــتــواء فـي لبنان وتُــركـت «حـمـاس» مسيطرة على جزء من غزة، فهذا لا يعكس انقلابا في الهدف الاســتــراتــيــجــي الأمـــيـــركـــي، بـــل مـــأزقـــا ســيــاســيــا: كــيــف يمكن التعامل مـع قــوى عسكرية عقائدية خـــارج الــدولــة، متجذرة اجتماعيا ومرتبطة بإيران، من دون دفع لبنان نحو انفجار داخلي، أو تجديد المقتلة في غزة، أو جر المنطقة إلى مواجهة أوسع؟ المشكلة ليست فــي الانـتـقـال مــن مصطلح «الـــنـــزع» إلـى «الاحتواء»، بل في غياب رؤية شاملة تتعامل مع سلاح «حزب الله» و«حماس» كجزء من أزمة كيان لا مجرد تهديد حدودي لإسرائيل. فالمقاربة المجتزأة التي تعكس تعقيدات مستجدة في صناعة القرار في واشنطن، تُبقي لبنان وغزة في منطقة رمادية هشَّة، وتديرهما كورقة ضمن سلة أولويات إقليمية أوســـــع، بـحـيـث يُـــقـــاس الاســـتـــقـــرار فـيـهـمـا بــقــدرتــه عــلــى منع الانفجار، لا ببناء دولة كاملة الصلاحيات في لبنان، وكيان فلسطيني مستقر مستقبلاً. الأمــــل فــي مستقبل أفــضــل لـلـبـنـان وغــــزة لـيـس بمنطق الاحــتــواء الـــذي يـكـرّس الانـقـسـام بـن دولـــة تـديـر وقـــوة تقرر، وإدارة الصراع بدل إنهائه، بل بإحياء «حل الدولتين»، بوصفه الإطـــار الـوحـيـد الــقــادر على تحييد «حــمــاس» و«حـــزب الله» والمستوطنين المتطرفين معاً، لا احتوائهم أو مهادنتهم. فمع استمرار السلاح خارج الدولة، واستمرار عنف المستوطنين، سيبقى وقف النار هشاً، وسيظل السلام بعيداً. قصة أحمد الأحمد، السوري الأسترالي، الـــذي خـاطـر بحياته لينقذ يـهـودا مـن القتل في أستراليا انتشرت كما النار في الهشيم كبطل مسلم، وفي الوقت ذاته ألصقت دوائر إعلامية غربية العنف بالإسلام؛ لأن الجاني الآخر وابنه مسلمان. ففي لحظة عنف أعمى، وقـف أحمد الأحـمـد، مخاطرا بحياته ليمنع مسلمَين آخرَين من القتل. الجميع مسلمون، لـكـن لــكــل مـنـهـم تـــأويـــلُـــه، وســـرديـــتُـــه، وفـهـمُــه لإسلامه ولما يهدّد هويته. هذه المفارقة ليست فقهية ولا أخلاقية فقط، بل هي في جوهرها مـسـألـة هـويـة كـمـا تفهمها الأنـثـروبـولـوجـيـا السياسية. هـذه الـدوائـر أسهبَت فـي تحليل المسلمين من الهند، ولم تتوقف إلا قليلا عند إسلام الأحمد. ولكن كان هناك منصفون. يقع المسلمون فـي الـخـارج والـداخـل في ورطــــة فـــي تـفـسـيـر ظــاهــرتــن لمـسـلـم يضحي بنفسه من أجل الآخرين، وآخر يمارس القتل بـاسـم الــديــن. ولـكـي نفهم الـظـاهـرة يـجـب أن نبدأ مـن أن هناك فرقا جـوهـريـا، مـن منظور اجتماعي وأنثروبولوجي، بين الإســام كما يُــعــاش خـــارج الـعـالـم الـعـربـي، وبـــن الإســـام كـمـا يُــعــاش فــي الـــداخـــل. إسـامـنـا فــي الـغـرب هــو، فـي أحــد وجـوهـه الأسـاسـيـة، هـويـة قبل أن يكون ممارسة دينية. هوية واعية، يقظة، تـــدرك هشاشتها داخـــل فـضـاء ثـقـافـي أوســع لا يشبهها. أما إسـام أهل الداخل، فهو دين وثــقــافــة مــــوروثــــة، وربـــمـــا عــــادة يــومــيــة. هــذا الفرق ليس حكما أخلاقيا ولا تفضيلا قيمياً، بل توصيف بنيوي لطريقتين مختلفتين في تشكّل المعنى. الـــــــــهـــــــــويـــــــــة، كـــــــمـــــــا تُــــــــجــــــــمِــــــــع أدبــــــــيــــــــات الأنــثــروبــولــوجــيــا، لا تــتــكــوّن فـــي الـــفـــراغ، بل فـي سياق عـاقـات الـقـوة والـحـدود والشعور بـالـتـمـايـز. قـــوة الأقـلـيـات تنبع مــن شعورها الدائم بالتهديد: تهديد الإقصاء أو الذوبان داخــــل ثــقــافــة أوســــع عــبــر مـــســـارات الانـــدمـــاج والاســــتــــيــــعــــاب. فــــي هــــــذا الــــســــيــــاق، يــتــشــكَّــل الإســـام فـي الـغـرب كهوية حــدوديــة، وفــق ما يـسـمـيـه فــريــدريــك بــــارث «حـــــدود الـجـمـاعـة». حيثما وُجــد الـحـد، اشـتـدَّت الهوية وازدادت صــابــة. ولـيـس مـصـادفـة أن تـكـون الـهـويـات الدينية الأكثر تماسكاً، هي تلك التي تعيش فـي الـتـخـوم الثقافية، ســـواء فـي فلسطين أو البوسنة أو كشمير، أو في أحياء المهاجرين في مدن الغرب الكبرى. وحتى لا يُساء فهم هذا الطرح، لا بد من إدانة ما جرى ضد المدنيين في أستراليا إدانة واضحة لا لبس فيها. غير أن ما يعنيني هنا هو محاولة فهم حالتين من «إسلام الخارج»: واحـدة حلَّلت القتل، وأخـرى ضحّت بالنفس لإنـــقـــاذ الــضــحــايــا. كـلـتـاهـمـا يـسـتـحـق الفهم والتأمل. فالمسلم في الغرب ليس كتلة واحدة، كما أن «الـغـرب» ذاتــه ليس كيانا متجانساً. المسلم هنا يتحرَّك داخل سلّم هويات متدرج، تتراجع فيه الهويات الثانوية عندما تتعرَّض الهوية الكبرى لإخافة. في هـذا السياق، لا يُمارس الدين فقط، بـــل يُــســتــدعــى رمـــزيـــا لـــلـــدفـــاع عـــن الــــــذات في لــحــظــات الاقــــتــــراب مـــن الـــــذوبـــــان. لـــذلـــك تــرى المـسـلـم غـيـر المـتـديـن، أو المـتـجـاوز شعائرياً، وربـمـا الــخــارج لـتـوّه مـن حـانـة، أكـثـر تمسّكا بالإسلام بوصفه هوية. يعيد إنتاجه سرديا عـبـر رمـــوز بـسـيـطـة: لــبــاس، حــجــاب، كوفية، اســــم، أو حـتـى مــوقــف سـيـاسـي. هــكــذا تُبنى «الجماعة المتخيلة»، بتعبير بندكت أندرسن، حيث تصبح الهوية قصة مشتركة تُستعاد كلما تعاظم الإحساس بالاختلاف والتهديد. فـــي المـــقـــابـــل، يـــبـــدو الإســــــام فـــي الـعـالـم الــعــربــي جــــزءا مـــن الـــهـــواء الاجــتــمــاعــي الـــذي يستنشقه الفرد. لا يحتاج إلى إعلان ولا إلى دفــــاع رمــــزي. وحـــن تـغـيـب المــســافــة، تضعف الرؤية. الهوية هنا مدمجة في اللغة والقانون والإيــقــاع اليومي والطقس الاجـتـمـاعـي. هذا الإدمــــــاج، كـمـا يــشــرح بـيـيـر بـــورديـــو، يـحـوّل الــديــن إلـــى «هــابــيــتــوس» غـيـر واعٍ: مـمـارسـة تــلــقــائــيــة تُـــــــؤدى دون تــفــكــيــر، وتُـــهـــمـــل دون شعور بالخسارة. التَّرهل هنا لا يعني غياب الإيمان، بل الاعتياد عليه. لهذا قد يقتتل مسلمو الداخل في حروب لا يكون الإسلام محركها الأساسي، أو يكون مـــجـــرد جــــزء مـــن مــادتــهــا الــثــقــافــيــة. مـــن هنا ينبغي الحذر من إقحام الدين في تفسير كل عـنـف داخــلــي؛ إذ قــد تـكـون جــــذوره سياسية أو اجتماعية أو اقـتـصـاديـة، كما فـي الحالة السودانية. معارك الداخل تختلف جذريا عن معارك الهوية في الغرب، حيث تبقى الهوية مسألة وجود وحدود. فـــــي الـــــــخـــــــارج، يــــظــــل الإســــــــــام عـــامـــة حــــدوديــــة داخـــــل المــجــتــمــع الــــواحــــد، بينما يـــتـــحـــوَّل فــــي الــــداخــــل إلـــــى خــلــفــيــة صـامـتـة لــــأحــــداث، وأحـــيـــانـــا إلــــى تـفـسـيـر متعجل لظواهر أكثر تعقيداً. فـي هـذا الـفـرق تكمن الصلابة والهشاشة مـعـا. الهوية لا تقوى بكثافة حضورها، بل بحدة السؤال عنها. وكما يقول أمبرتو إيكو، إن المعنى لا يولد من الامـتـاك، بل من التأويل تحت الخطر. الإســـــــــــام، بـــوصـــفـــه هـــــويـــــة، يـــصـــبـــح أكـــثـــر وضوحا حين يُسأل، لا حين يُسلَّم به. مــن هـــذا المــنــظــور، يمكن فـهـم مــا فعله أحمد الأحمد لا بوصفه فعلا استثنائياً، بل بوصفه تعبيرا عن سردية هوية تشكلت في سياق أقلوي ترى في القتل تهديدا لمعناها، لا تجسيدا لــه. فـي المـقـابـل، مـن يقتل باسم الإســــــام يــفــعــل ذلــــك ضــمــن ســـرديـــة أخـــرى تشكلت فـي فضاء مختلف، حيث لا تُسأل الهوية، بل تُستهلك. وهـــكـــذا تـتـكـشـف المـــفـــارقـــة: كــلــمــا كــان الإســـــام بـديـهـيـا، تـــراجـــع حـــضـــوره كهوية فــــاعــــلــــة، وكــــلــــمــــا أصـــــبـــــح مـــــوضـــــع ســـــــؤال، ازداد تـــمـــاســـكـــا ومــــعــــنــــى. تــــلــــك خـــاصـــة أنثروبولوجية تفسر الصلابة في الهامش، والاعــتــيــاد فــي المـــركـــز، بـعـيـدا عــن الأحــكــام، وقــــريــــبــــا مــــــن تـــحـــلـــيـــل المــــعــــنــــى والـــســـلـــطـــة والــتــاريــخ الاجــتــمــاعــي. ومـــن هـنـا لا يمكن فهم قصة الأحمد إلا في سياقها الهوياتي، وتــحــدي تــأويــل إســـام الــخــارج فــي ظــروف عالمية ومحلية معقدة. OPINION الرأي 12 Issue 17191 - العدد Monday - 2025/12/22 الاثنين لبنان وغزة... إدارة النزاع بدل إنهائه صدمة الإعلام الأميركي: نقاش أقل... وفعل أكثر تعقيدات الهُويَّة وأنثروبولوجيا إسلام الخارج وكيل التوزيع وكيل الاشتراكات الوكيل الإعلاني المكـــــــاتــب المقر الرئيسي 10th Floor Building7 Chiswick Business Park 566 Chiswick High Road London W4 5YG United Kingdom Tel: +4420 78318181 Fax: +4420 78312310 www.aawsat.com [email protected] المركز الرئيسي: ٢٢٣٠٤ : ص.ب ١١٤٩٥ الرياض +9661121128000 : هاتف +966114429555 : فاكس بريد الكتروني: [email protected] موقع الكتروني: www.arabmediaco.com هاتف مجاني: 800-2440076 المركز الرئيسي: ٦٢١١٦ : ص.ب ١١٥٨٥ الرياض +966112128000 : هاتف +9661٢١٢١٧٧٤ : فاكس بريد الكتروني: [email protected] موقع الكتروني: saudi-disribution.com وكيل التوزيع فى الإمارات: شركة الامارات للطباعة والنشر الريـــــاض Riyadh +9661 12128000 +9661 14401440 الكويت Kuwait +965 2997799 +965 2997800 الرباط Rabat +212 37262616 +212 37260300 جدة Jeddah +9661 26511333 +9661 26576159 دبي Dubai +9714 3916500 +9714 3918353 واشنطن Washington DC +1 2026628825 +1 2026628823 المدينة المنورة Madina +9664 8340271 +9664 8396618 القاهرة Cairo +202 37492996 +202 37492884 بيروت Beirut +9611 549002 +9611 549001 الدمام Dammam +96613 8353838 +96613 8354918 الخرطوم Khartoum +2491 83778301 +2491 83785987 عمــــان Amman +9626 5539409 +9626 5537103 صحيفة العرب الأولى تشكر أصحاب الدعوات الصحافية الموجهة إليها وتعلمهم بأنها وحدها المسؤولة عن تغطية تكاليف الرحلة كاملة لمحرريها وكتابها ومراسليها ومصوريها، راجية منهم عدم تقديم أي هدايا لهم، فخير هدية هي تزويد فريقها الصحافي بالمعلومات الوافية لتأدية مهمته بأمانة وموضوعية. Advertising: Saudi Research and Media Group KSA +966 11 2940500 UAE +971 4 3916500 Email: [email protected] srmg.com مأمون فندي سام منسى خالد البري
RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky