issue17190

Issue 17190 - العدد Sunday - 2025/12/21 الأحد OPINION الرأي 14 لم يكن ذلك سهلا أو يسيراً. حين شرع الـلـيـبـيـون عــبــر مـــخـــاض أعـــــوام الأربـعـيـنـات العسير فـي تحسّس تلك الـطـريـق الطويلة. كـــان المــخــاض بالضبط مـثـل الـتـي «أعـشـرت فــــأعــــســــرت». كـــــان مــلــيــئــا بـــالألـــغـــام وحـــقـــول الـــرمـــاد. خــرجــوا بـعـيـون مـطـفـأة مــن حـــروب ودمــــــاء ونــــضــــالات. إيــطــالــيــا غــــزت وطــنَــهــم . حــاولــت أن 1911 بــشــراســة فــي خـريـف عـــام تشاطئَهم ليكونوا ضفة رابـعـة لروما فيما ظل موسوليني الأخرق يصيح أغلب الوقت بــــــأن الـــطـــلـــيـــان لـــديـــهـــم جــــــوع لـــــــأرض. كــــان محسوبا عـلـى الـيـسـار وعــــارض ذلـــك الـغـزو لكنَّه انقلب على عقبيه... وصـار ديكتاتورا فاشياً. الطليان بسطوا مشاريع استيطانهم فـــي لـيـبـيـا المــحــتــلــة عــلــى امـــتـــدادهـــا مـــا بين البحر ورمـــال الـصـحـراء. رمـــوا أبـنـاءَهـا إلى المــنــاطــق الـقـاحـلـة الــبــعــيــدة. وهــجــروهــم من ديـــارهـــم. اقــتــاع الــجــذور والأصــــــول... هكذا حــال الفاشية فـي كـل زمــن. تنقلوا بهم عبر مــعــتــقــات ومــــنــــاف مـــوحـــشـــة. كــــــادت لـيـبـيـا تضيع. قبل ذلك الخريف كان التمهيد للاحتلال واضــحــا وبـــرز الـتـنـافـس الاسـتـعـمـاري قويا وجليّا في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. كان صراعا يشتد في حقيقة الأمر بين فرنسا وبريطانيا. تناهش بينهما على مـا بقي مـن أمـــاك الـرجـل المـريـض عند البسفور. فـــرنـــســـا ســــارعــــت بـــاتـــجـــاه الـــجـــزائـــر ثـم تـــونـــس. بـريـطـانـيـا بـسـطـت يـــدَهـــا وأرجــلَــهــا فـــــوق مـــصـــر والــــــســــــودان. والـــحـــلـــقـــات ظــلَّــت تضيق وتــــزداد عبر المنطقة العربية كلها. لــيــبــيــا صــــنــــدوق الــــرمــــال المـــجـــهـــول أضــحــى يــومَــهــا مـنـطـقـة عـــازلـــة تـمـنـع الانـــفـــجـــار بين «المستر» و«المسيو». تأخر وصول الاحتلال الأجــنــبــي إلــيــهــا. لــكــن الأطـــمـــاع َوالــتــنــاهــش لا يـنـقـطـعـان. وفــــي هــــذا الــحــيــز مـــن الأعــــوام حــاولــت تـركـيـا التجديد. 1908 تـحـديـدا فــي السلطان عبد الحميد يرضخ ويصدر إعلان الحرية أو الدستور، وتظهر بعض محاولات الإصلاح التي كانت مجرد رتق لثوب ممزق في الهواء. يبدو «مجلس المبعوثان» صورة لإحــــدى تـلـك المــــحــــاولات. نــــواب مـــن مختلف الـــولايـــات الـعـثـمـانـيـة يـلـتـقـون ويـجـتـمـعـون. طرابيش وبــذل وعمائم وقـهـوة وأراغـيـات. كـــان نـصـيـب لـيـبـيـا مـــوجـــودا أيــضــا فـــي هـذا المجلس ومـع ذلـك ظلَّت ثمة غيوم في الأفق تلوح. ثم تغيب وتلوح من جديد. إرهاصات تقترب. وليبيا مرهونة في سوق النخاسة. صيف ذلــك الـعـام تـأتـي البعثة الصهيونية إلى برقة لتدرس إمكانية توطين اليهود في الجبل الأخضر فوق قمة شحات أو «قورينا» الـــعـــريـــقـــة الـــتـــي شـــيَّـــدهـــا الإغـــــريـــــق، وكـــانـــت مـــدرســـة فـــي الــحــضــارة والـفـلـسـفـة والـعـلـوم والــطــب، وفـيـهـا نـشـأ «مــذهــب الــلــذة» وأعـلـن فيها دستور ينظم الحياة والمجتمع. أولى محاولات التفكير في الاستيطان والاحتلال الـــغـــريـــب. هــنــا يــظــل الـــتـــاريـــخ مـفـتـوحـا لكي يـسـتـعـيـد مـــا أغـــلـــق ذات يــــوم وحــــن نـاقـش الـكـبـار بـعـد نـهـايـة الــحــرب الـعـالمـيـة الثانية وضــع المستعمرات الإيطالية 1945 فـي عــام الـسـابـقـة، وتـقـاسـم مـنـاطـق الـنـفـوذ الـجـديـد طرح تفكير أكثر غرابة يستند إلى المشروع القديم من بريطانيا الصديقة، التي تحالف مـعـهـا الـلـيـبـيـون فـــي سـبـيـل اسـتـقـالـهـم في تمثل في إرسال اليهود 1940 ) أغسطس (آب وتوطينهم في ليبيا! كــانــت لـيـبـيـا عـبـر كـــل الــعــصــور مـسـألـة حـــــســـــاســـــةً، وبـــــهـــــذا لـــــم تــــكــــن الــــطــــريــــق إلــــى استقلالها سهلة. واليوم ثمة جيل جديد في ليبيا لا يدرك تماما تلك المعاني والمفهومات ولا يـعـرف أبــعــادَهــا وتفاصيلها عـلـى وجـه الــعــمــوم. لـعـل الــتــاريــخ فــي بـعـض صفحاته أو كلها لا يعيد نفسه، لكنَّه يبقى كما هو مع المزيد من الحزن المطعم بالشعر الـرديء في ليالي الشتاء. إن ما حدث منذ ما يقارب ثمانين عاما أو يزيد يكاد يقارب ما يحدث الآن، ويـتـمـاهـى مـعـه فــي بـــاد أســــيء إليها دونما مبرر. هل يتم تدوير التاريخ وليس استعادته مثلما يتم تدوير القذارة! خـــــاض الـــلـــيـــبـــيـــون حــــروبــــا ومـــجـــاعـــات وقتلتهم الأمراض ومظاهر التخلف والطمع في بلادهم من غيرهم، وأحاطت بهم العديد من الحفر المظلمة التي رأت فيهم مجرد شعب متناثر بدوي وجاهل لا يستحق الاستقلال أو الـحـريـة. شـعـب لا يختلف عـمّــن يـجـاوره غالبا في اللغة والدين والهوية. كان العالم يــومــهــا نــصــفــه يـــــرزح تــحــت ســـطـــوة الــكــبــار الـلـصـوص الـذيـن ولـغـوا فـي الــدمــاء ونهبوا الـــثـــروات، وتحكموا فـي المـــقـــدرات، وجلسوا على الأرائك بجوار المدافئ يحتسون الشراب. ومـع كل ذلـك تصالح الليبيون ووقفوا عـــلـــى خـــــط واحــــــد فــــي نــقــطــة مـسـتـقـيـمـة مـع النفس والضمير. شـــعـــروا بـقـيـمـة الانـــتـــمـــاء لــــأرض الـتـي ســالــت فـوقَــهـا الـــدمـــاء قـبـل أن يـسـيـل فوقها الــــبــــتــــرول. عـــــــادوا لـلـيـقـظـة والــــوعــــي عـنـدمـا أحسُّوا بأن ليبيا في مهب الريح والعواصف الـعـاتـيـة. تـشـرشـل نـظـر لليبيا بــأنَّــهــا بطن الــتــمــســاح الــــرخــــوة. روســـيـــا كـــانـــت تـــريـــد أن تـسـتـأثـر بـقـطـعـة مـــن الـغـنـيـمـة أو بالغنيمة كـــلـــهـــا. فـــرنـــســـا عـــيـــنـــهـــا عـــلـــى الــــجــــنــــوب فـي فـزان. كانت تزنر المنطقة الخلفية في تشاد والـــجـــزائـــر وغـــيـــرهـــا. أمــيــركــا الـــتـــي حـسـمـت الـــحـــرب الأخـــيـــرة وألـــقـــت قـنـبـلـتـن رهيبتين فـوق اليابان عينها أيضا على تلك البقعة. بريطانيا موجودة بقوة. صراع ينشأ. لهاث حول الوصاية أو الانتداب وصولا إلى إعادة الاحتلال. كل تفكير لدى هذه القوى يستبعد الاســــتــــقــــال لــلــيــبــيــا رغــــــم الـــتـــصـــريـــحـــات... وقـــصـــائـــد الـــغـــزل فـــي عــيــونــهــا. لـيـبـيـا ظـلَّــت حالة مستعصية على الدوام. تصارع الكبار وتـــنـــاطـــحـــوا. نــهــض مـــشـــروع المــســتــر بيفن الوزير البريطاني والكونت سفورزا الوزير . كان مجرد فخ لاصطياد 1949 الإيطالي عام ليبيا بـالـوصـايـة عليها مثل يتيم لـم يبلغ ســن الــرشــد. ثـم لقي حتفه بـرفـض الليبيين لــكــل بـــنـــوده. صـــح مـنـهـم الــعــزم وســـــاروا في الـــطـــريـــق... نـحـو الـشـمـس الــــذي لـــم يـكـن في كـــل الأحـــــوال مـيـسـراً. أســـــراره وطـاسـمـه من يقدر على فتحها سـوى أبنائها المخلصين بـالـوصـول إلـــى إعـــان الاسـتـقـال فــي الـرابـع .1951 ) والعشرين من ديسمبر (كانون الأول * كاتب ليبي كانت ليبيا عبر كل العصور مسألة حساسة ولم تكن الطريق إلى استقلالها سهلة *ُسالم الكبتي تمثل معركة صغار الأطباء في بريطانيا جزءا من تركة ثقيلة ورثتها حكومة العمال جمعة بوكليب ليبيا الحديثة... كيف كانت الطريق إلى استقلالها؟ فــــــي جــــلــــســــة مـــــســـــاءلـــــة رئـــــيـــــس الـــــــــــوزراء الـــبـــرلمـــانـــيـــة، الأربـــــعـــــاء، بـــــدلا مـــن افـــتـــتـــاح كير سـتـارمـر المــواجــهــة بــالاقــتــصــاد، أو الـخـدمـات الـــعـــامـــة، أو مــشــكــات حــكـومــتــه المــتــعــثّــرة في استطلاعات الــرأي، اختار الهجوم على حزب «الإصـــــاح» وزعـيـمـه نـايـجـل فـــــاراج، «الـغـائـب عــن الـجـلـسـة». المــفــارقــة أن فــــاراج كـــان جالسا فـي شرفة الضيوف فـوق رأس رئيس الـــوزراء يـــتـــبـــادل الابــــتــــســــامــــات مــــع الـــصـــحـــافـــيـــن فـي مـنـصـتـهـم المـــــجـــــاورة. وتــــوالــــت أســـئـــلـــة نــــواب «العمال» (المعدة مسبقاً) تهاجم «الإصــاح». بــــدا المــشــهــد اعـــتـــرافـــا ضـمـنـيـا بـــوجـــود خصم يفرض نفسه، رغم تقليل الخطاب الرسمي له. لحظة برلمانية، عابرة في ظاهرها، تحمل دلالة سياسية أعمق. فعندما يخصص رئيس حــكــومــة مـنـخـفـض الـشـعـبـيـة وقــتــا ثـمـيـنـا من 5 دقيقة لمهاجمة حــزب صـاعـد (لــه 30 جلسة للعمال)، فذلك علامة قلق لا 404 نـواب مقابل ثـقـة. والتجربة السياسية البريطانية تشير إلـى نتيجة عكسية مألوفة: كلما بـدا الـــوزراء متوجسين وهجوميين، ازداد فضول الناخبين تـــجـــاه «الإصــــــــــاح»، خـــصـــوصـــا وأن كـثـيـرهـم يـشـعـرون أصـــا بـــأن المـؤسـسـة السياسية في وستمنستر تتجاهلهم. ســــبّــــب الـــصـــعـــود الـــســـريـــع لــــــ«الإصـــــاح» ارتــجــاجــا فــي دهـالـيـز الـسـيـاسـة البريطانية. الــســؤال المـلـح بـــازديـــاد: هـل هــذا الـصـعـود بلغ ذروته بالفعل، أم بداية تمرّد أوسع من ناخبين فقدوا ثقتهم بالأحزاب التقليدية؟ مجرد طرح السؤال يكشف حجم التحول. قبل أكثر بقليل مـــن عـــــام، كــــان «الإصـــــــاح» يُــنــظــر إلـــيـــه حــركــة احـتـجـاج تملك أوراق اقــتــراع أكـثـر مـمـا تملك فرصا حقيقية للتأثير. لكن استطلاعات الرأي الــيــوم تـثـيـر انـــزعـــاج حــزبــي الــعــمــال، الـحـاكـم، والمـــحـــافـــظـــن المـــــعـــــارض، فــــــــ«الإصـــــــاح»، ولـــه ألفاً 350( ألـف حامل بطاقة حزبية 270 نحو للعمال)، بــدأ يجمع مقاعد فـي اخــتــراق لافت لـلـمـجـالـس المــحــلــيــة، آخـــرهـــا أســكــوتــلــنــدا، ما يطرح التساؤل عن تغيرات أعمق في الخريطة السياسية البريطانية. الحديث عـن «الــــذروة» أثــارَتــه سـرعـة هذا الـــصـــعـــود. فــتــاريــخــيــا الأحــــــــزاب الـــتـــي تـرتـفـع بسرعة غالبا مـا تصل إلــى التسطّح بسرعة بـتـاشـي حــداثــة الـظـاهـرة واشـــتـــداد التدقيق. لكن قوة «الإصلاح» الحالية لا تبدو نابعة من تحمس الـنـاخـب لبرنامجه (المتناقض وغير الـــواضـــح) بــقــدر نــفــور الـنـاخـبـن مــن الأحــــزاب القائمة. حـزب العمال في السلطة يبدو حذرا إلــــى حـــد الــشــلــل، إداريّـــــــا أكـــثـــر مــنــه سـيـاسـيـا، فيما لا يزال حزب المحافظين يبحث عن هوية وسردية ما بعد الهزيمة الساحقة. «الإصلاح» وقـــــــوده مــــــزاج عـــــام نـــاقـــم أكـــثـــر ولـــيـــس إعـــــادة اصـطـفـاف آيـديـولـوجـي مـتـمـاسـك، وهـــو فــارق جوهري لتقييم مدى استمرار شعبيته. هــنــاك أيــضــا طــريــقــة إجـــــراء اسـتـطـاعـات الرأي نفسها، والمشاركون يختارون من قائمة أحـــزاب جـاهـزة. ويميل الناخب الغاضب إلى اخـــتـــيـــار الأكــــثــــر إزعــــاجــــا لــلــمــؤســســة، ولــيــس بالضرورة دراسة برنامج الحزب، بل لأنه يُعبّر عن رفض شامل للطبقة السياسية. ونادرا ما تجد استطلاعات (بـدون ذكر للأحزاب) تسأل الناس عن نوع السياسات التي يريدونها. ولو طُرحت هذه الأسئلة، لربما انكشف فارق كبير بين القناعة السياسية والاحتجاج العاطفي. أيضا «الإصـاح» لم يُختبر بعد سياسيا لفترة طويلة. وباستثناء مواجهات برلمانية مــقــتــطــفــة أو مـــقـــابـــات إعـــامـــيـــة قـــصـــيـــرة، لـم يـخـض الــحــزب مـنـاظـرات علنية بــن الـزعـمـاء مثل تلك التي صاحبت استفتاء «بريكست» أو . تلك المناظرات كشفت وقتها 2010 انتخابات هشاشة بعض الشعارات وأجبرت القادة على مواجهة تناقضات برامجهم. وإلى أن يخضع «الإصلاح» لاختبارات ممثلة سيظل جزء كبير من دعمه غير محسوب وبالتالي قابلا للتبدل. كـمـا لا يمكن الـنـظـر لـصـعـود «الإصــــاح» بــمــعــزل عـــن ســـيـــاق أوســــــع. فــالــنــمــو المـــتـــوازي لـــحـــزب الـــخـــضـــر فــــي أقـــصـــى الـــيـــســـار يـعـكـس إحـبـاطـا ممثلا فـي الاتــجــاه المـخـالـف. فمعظم أنصاره غاضبون من تردد العمال في قضايا اشـــتـــراكـــيـــة (اســـتـــهـــداف الأثــــريــــاء بــالــضــرائــب والـــتـــأمـــيـــم، والـــطـــاقـــة الـــخـــضـــراء). الاتــجــاهــان يـشـيـران إلـــى نـاخـبـن يـتـجـهـون إلـــى الأطــــراف لأن الـوسـط السياسي المـألـوف غير قــادر على مخاطبة حاجة الناس. الاخـــتـــبـــار لــيــس اســتــطــاعــات الـــــــرأي، بل صناديق الاقتراع. انتخابات المجالس المحلية في مايو (أيار) المقبل التي أُجّل بعضها وأُعيد رســــم حـــــدود الــــدوائــــر بــشــكــل يــثــيــر اتــهــامــات التأثير على النتيجة ستقدم مـؤشـرا أوضـح على قـدرة «الإصــاح» على تحويل الاحتجاج إلى تمثيل دائم. وقد تتسبب هذه الانتخابات فـــي زعـــزعـــة المـحـافـظـن وحــــزب الــعــمــال، الـــذي تتصاعد داخله أصوات عدم الرضا عن زعامة ســتــارمــر. الــتــاريــخ يُــعـلّــمـنـا أن نـتـائـج محلية سـيـئـة تـفـتـح جــــدلا داخــلــيــا تـــحـــاول الــقــيــادات تأجيله. ويـــــبـــــقـــــى الـــــــــســـــــــؤال: قـــــــد تــــبــــلــــغ شـــعـــبـــيـــة «الإصــــاح» ذروتـهـا ثـم تتراجع عندما يشتد الــفــحــص، وقــــد يـسـتـمـر صـــعـــوده إذا واصــلــت حكومة ستارمر الخلط بين الإدارة والسياسة، وبين الهجوم البرلماني والقدرة على الإقناع. المـؤكـد أن شعبية «الإصـــاح» الحالية تكشف بقدر ما تكشفه عن الحزب نفسه، إخفاقات من يتولون السلطة اليوم. عادل درويش السؤال المقلق لأحزاب وستمنستر شعبية «الإصلاح» الحالية تكشف إخفاقات من يتولون السلطة اليوم عن توقيت المعارك يُعد توقيت المـعـارك أحـد أهـم أسـس الفوز في مختلف أنــــواع الـــحـــروب. ويُــــروى عــن الإمـبـراطـور الــفــرنــســي نــابــلــيــون بـــونـــابـــرت قـــولُـــه: «إنـــنـــي على اسـتـعـداد لـخـسـارة مـعـركـة، ولـسـت عـلـى اسـتـعـداد لخسارة دقيقة واحـــدة». وحسب التفسيرات، فإن نـابـلـيـون كـــان يـــرى أن الــخــســارة العسكرية يمكن تعويضُها والأراضـــي المفقودة يمكن استردادُها، أمَّــا الوقت فهو المــورد الوحيد الـذي لا يُعوّض ولا يُسترد. فــي الـحـيـاة الـيـومـيـة، تـنـشـب مــعــارك وحـــروب على جبهات عديدة وبأسلحة متنوعة. في البلدان الغربية مـثـاً، تـقـود الـنـقـابـات المهنية حـروبـا مع الحكومات والـشـركـات الـكـبـرى لـلـدفـاع عـن حقوق أعـضـائـهـا، ويــظــل «الإضـــــراب عــن الـعـمـل» الـسـاح الأبرز. وحين يقرّر قادة النقابات الخدمية اللجوء إلـــى هـــذا الــخــيــار، فـإنَّــهــم يــحــرصـون عـلـى اخـتـيـار التوقيت الأنجح لتعظيم مكاسبهم. فـي بريطانيا، اعــتــادت نـقـابـات عـمـال السكك الحديدية اخـتـيـار مـواسـم العطلات الكبرى (مثل أعياد الميلاد أو الفصح والعطلات الصيفية) موعدا لإضـرابـهـا، بهدف تعزيز موقف مفاوضيها على الطاولة لتحقيق المطالب. ومــؤخــراً، أعلنت الـرابـطـة الطبية البريطانية )عـزم صغار الأطباء الإضـراب لخمسة أيام، BMA( وذلــك بعد فشل المـفـاوضـات مـع وزيــر الصحة. إلا أن توقيت هــذا الإضـــراب أثــار ردود فعل غاضبة؛ كـونـه تـزامـن مـع تفشي فـيـروس الإنـفـلـونـزا بشكل غير مسبوق، حيث، استنادا إلى تقارير إعلامية، حالة، 2500 تستقبل المستشفيات يوميا أكثر من أغلبهم من كبار السنّ. هــــــذا الــــتــــزامــــن دفـــــــع كـــثـــيـــريـــن وعــــلــــى رأســـهـــم رئيس الحكومة ووزيـــر الصحة لوصف التوقيت بـــ«الــامــســؤول والــخــطــر»، وأدَّى فــي الــوقــت ذاتــه إلـــى خــســارة الأطـــبـــاء لـلـدعـم الـشـعـبـي؛ إذ أظـهـرت في المائة من المواطنين لا 58 َّ استطلاعات الرأي أن يتعاطفون مع الإضراب في ظل الظروف الراهنة. تـمـثـل مــعــركــة ُصـــغـــار الأطـــبـــاء فـــي بـريـطـانـيـا جزءا من تركة ثقيلة ورثتها حكومة العمال بقيادة كــيــر ســـتـــارمـــر مـــن الــحــكــومــة المــحــافــظــة الــســابــقــة. ورغــم موافقة الحكومة على زيــادة سابقة بنسبة فـي المـائـة لمــدة عـامـن، فــإن الأطــبــاء سـرعـان ما 25 في 28 عــادوا للمطالبة بزيادة إضافية تصل إلـى المائة، وهو ما ترفضه الحكومة بدعوى عدم توفر المخصصات المالية. لذلك، وجد الأطباء المضربون أنفسَهم بين خيارين لا ثالث لهما: الأول؛ خيار الصمت وتحمّل مشاق المصاعب الحياتية: فهم إذا لـم يُــضـربـوا فـي وقــت الأزمـــات، وفوَّتوا الفرصة، فقد لا يلتفت أحد إلى مطالبهم، لمراهنة النظام على نخوتهم المهنية ومـا تحتّمه من أخلاقيات. والآخــــر؛ خـيـار التصعيد وخــســارة التعاطف الشعبي: أي إنهم إذا أضربوا وقت الذروة الوبائية، تـــحـــوّلـــوا إلــــى وجــــه الأزمــــــة، وفـــقـــدوا مـصـداقـيـتـهـم المـهـنـيـة والأخـــاقـــيـــة، وظـــهـــروا كـمـن يـسـتـغـل الألــم الإنساني لتحقيق مكاسب مادية. مـن جهة أخـــرى، يتوقّع المجتمع البريطاني، بشكل عـام، من الأطباء أن يكونوا الجدار الأخير، وصِــمَــام الأمـــان الـدائـم للحفاظ على نـظـام صحي يــــدركــــون أنــــه يــعــانــي مـــن اخـــتـــال هـيـكـلـي وعـجـز مالي مزمن، وأن يضحُّوا بحقوقهم للحفاظ على اسـتـمـراريـتـه وعـــدم انــهــيــاره. ولــقــاء ذلـــك يحظون باحترام وتقدير المواطنين. بـــالـــعـــودة إلـــــى رؤيــــــة الإمــــبــــراطــــور الــفــرنــســي نابليون بونابرت لأهمية التوقيت: كيف نقيّم هذا الموقف؟ هل توقيت الإضراب ذكي لإجبار الحكومة على التراجع وقبول المطالب، أم هو سلوك انتهازي لا يتسق مع قدسية المهنة؟ قـــادة الـرابـطـة يــدركــون تـمـامـا حـجـم مصاعب المعيشة التي يواجهها صغار الأطـبـاء ومصاعب الـعـمـل فــي المستشفيات الــعــامــة، وكــذلــك المعضلة الأخلاقية التي يواجهونها إن أضربوا. ورغم ذلك قـبـلـوا الـتـحـدي وقـــــرروا دخــــول المـعـركـة واخـــتـــاروا التوقيت الأنـسـب لهم. وفـي المقابل، يطرح أهالي المـــرضـــى خــصــوصــا، وغـالـبـيـة المــواطــنــن عـمـومـا، سؤالا مشروعا ومؤلماً: كيف يرفض طبيب الذهاب لممارسة عمله الإنساني، في وقت أحـوج ما يكون فيه المرضى إليه؟

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky