issue17187

تمر الحياة اإلبداعية في أميركا بلحظة مــحــفــوفــة بـــاملـــخـــاطـــر؛ فـبـيـنـمـا لـــم يــكــن كسب الرزق كفنان أمرًا سهال على اإلطالق، فإن قوة الذكاء االصطناعي التوليدي تدفع العاملني في املجاالت اإلبداعية ملواجهة سـؤال مزعج: هل هناك مكان للعمل اإلبداعي املدفوع األجر في ظل الرأسمالية املتأخرة؟ ومـاذا سيحدث ملشهدنا الثقافي إذا تبني أن اإلجابة بالنفي؟ بصفتنا عاملتي اجتماع، نــدرس العالقة بــ الـتـكـنـولـوجـيـا واملـجـتـمـع، قضينا الـعـام املاضي في طرح أسئلة على العاملني املبدعني حـــول الـــذكـــاء االصــطــنــاعــي. لـقـد تـحـدثـنـا إلـى مـــؤلـــفـــي كــــتــــب، وكــــتــــاب ســـيـــنـــاريـــو، ومـــــؤدي أصـــــــــوات، وفـــنـــانـــ بـــصـــريـــ ، كـــمـــا أجـريـنـا مـقـابـ ت مـع قـــادة نـقـابـات عمالية ومحامني وتقنيني. وخالصتنا من هذه املحادثات هي: أن ما يهدده الذكاء االصطناعي ليس اإلبداع الـبـشـري فــي حــد ذاتــــه، بــل الــقــدرة عـلـى كسب العيش من املساعي اإلبداعية. إن الـتـهـديـد هــائــل، لـكـن الـنـتـيـجـة ليست حتمية؛ فاإلجراءات التي سيتخذها الفنانون والجمهور والجهات التنظيمية في السنوات القليلة املقبلة سـوف تشكل مستقبل الفنون لفترة طويلة مقبلة. وفــــــــي غـــــضـــــون فـــــتـــــرة وجـــــــيـــــــزة، أصـــبـــح املحتوى املُنتج بواسطة الذكاء االصطناعي في كل مكان، فقد انتشرت النصوص النثرية املـكـتـوبـة بـأسـلـوب الــذكــاء االصـطـنـاعـي اململ واملـــمـــيـــز، بـيـنـمـا فـــي األشـــهـــر األخــــيــــرة، مــأت » اإلنترنت Suno« » و 2 Sora« أدوات أحدث مثل بأغان ريفية ناجحة، وصور لقطط «موتشي» هالمية. إن الـسـؤال الـذي يحيط غالبًا بإطالق أي نموذج للذكاء االصطناعي التوليدي هو ما إذا كان قادرًا على إنتاج فن بمستوى ينافس البشر من عدمه. لكن املبدعني الذين تحدثنا إلـيـهـم لـــم يــكــونــوا مـعـنـيـ إلـــى درجــــة كبيرة بــهــذا املـــعـــيـــار؛ فــفــي نــظــرهــم، إذا كــــان الــذكــاء االصطناعي قـــادرًا على إنـتـاج عمل يضاهي عـــمـــل الـــبـــشـــر، فـــــإن ذلـــــك يـــعـــود فـــقـــط إلـــــى أنـــه «سُرق» منهم. وصــــفــــت كــــــــارال أورتــــــيــــــز، وهــــــي رســـامـــة تشكيلية وفــنــانــة مـفـاهـيـمـيـة، الـلـحـظـة الـتـي شاهدت فيها الذكاء االصطناعي وهو ينتج فنًا بأسلوبها الخاص، قائلة: «شعرت وكأنها طــعــنــة فــــي الـــبـــطـــن. لـــقـــد كــــانــــوا يـسـتـخـدمـون سـمـعـتـي، والــعــمــل الــــذي تـــدربـــت لـعـقـود - بل طوال حياتي - للقيام به، وكانوا يستخدمونه فقط لتزويد عمالئهم بصور تحاول تقليدي». غالبًا ما يزعم مؤيدو الذكاء االصطناعي أنـــه مهما بلغت جـــودة التكنولوجيا، فإنها لــن تتمكن أبـــدًا مــن مـضـاهـاة مـوهـبـة وبـراعـة الـفـن الـبـشـري املـتـفـوق. يعتقد أمـيـت غوبتا - » املصممة Sudowrite« الشريك املؤسس ألداة للكتابة - أن الذكاء االصطناعي «سيساعدنا في املائة أو ربما 80 على الوصول إلى عالمة الـ فـي املــائــة» مـن جـــودة الكتابة البشرية، 90 الــــ «لكننا سنظل قادرين على تمييز تلك اللمسة األخـــيـــرة». وأشــــار غـوبـتـا إلـــى أن أي شخص لديه هاتف آيفون يمكنه التقاط صورة جيدة جـــــدًا، ولـــكـــن «ال تـــــزال هـــنـــاك صــــور تُــعــلــق في املـتـاحـف؛ وهــي ليست الـصـور الـتـي التقطها أشخاص مثلي ومثلك». وعـلـى نحو مـمـاثـل، تـحـدث ســام ألتمان، »، عن كيف OpenAI« الرئيس التنفيذي لشركة سيعوض الذكاء االصطناعي في نهاية املطاف «اإلنسان املتوسط» في معظم املجاالت، ولكن لــيــس املـــبـــدعـــ املـــتـــفـــوقـــ . ومــــع ذلـــــك، هـنـاك مـشـكـلـة فـــي هــــذا املــنــطــق: الــعــبــاقــرة الـفـنـيـون الفريدون في نوعهم قليلون جدًا ومتباعدون. فـــالـــفـــنـــانـــون، مـــثـــل مــعــظــم األشــــخــــاص الـــذيـــن يـحـاولـون الـقـيـام بـشـيء صـعـب، يميلون إلى التحسن مع الكثير من املمارسة. والشخص الــذي يكون - السـتـعـارة عـبـارة السيد ألتمان - كاتبًا «متوسطًا» في العشرينات من عمره، قد يتحول إلى كاتب عظيم في األربعينات من عمره من خالل بذل الكثير من الوقت والجهد. إن «األعـــــمـــــال اإلبــــداعــــيــــة الـــشـــاقـــة» الــتــي يـوشـك الـــذكـــاء االصـطـنـاعـي عـلـى استبدالها هي ذاتها التي تساعد الفنانني الناشئني على صقل مهاراتهم، ناهيك عن دفع فواتيرهم. في السنوات األولــى من مسيرتها املهنية، كانت السيدة أورتيز تعيل نفسها من خالل تلوين القصص املصورة، وصنع رسومات لشركات ألعاب الفيديو. وبصفتها ناشئة مـن خلفية مـن الطبقة املتوسطة الدنيا في بورتوريكو، تقول أورتيز إنــهــا «لـــم تـكـن لتتمكن مــن الـعـيـش بوصفها فـنـانـة لـــوال تـلـك الــوظــائــف الــتــي ال يستطيع الكثيرون اليوم العثور عليها»؛ ألن أصحاب الـعـمـل املحتملني بــاتــوا يـسـتـخـدمـون الــذكــاء االصـــطـــنـــاعـــي بــــــدال مـــنـــهـــم. فــــــإذا كـــــان الـــذكـــاء االصطناعي هو من يلون القصص املصورة، ويدوّن املالحظات في غرف كتابة املسلسالت التلفزيونية، ويفرز أكــوام النصوص املقدمة لدور النشر، فكيف سيتمكن املبدعون الشباب مــن إتــقــان أدواتـــهـــم؟ وكـيـف سـيـؤمـنـون كسب عيشهم في أثناء قيامهم بذلك؟ هذه ليست ظاهرة مستحدثة؛ فمصطلح «الـــفـــنـــان الـــجـــائـــع» لـــم يــصــبــح كـلـيـشـيـهـ من فـــراغ. فلطاملا عـانـت أســـواق العمل اإلبـداعـيـة والـثـقـافـيـة مـــن اخـــتـــ ل الـــتـــوازن بـــ الـعـرض والــــطــــلــــب؛ إذ يـــوجـــد عـــــدد مــــن الــــراغــــبــــ فـي الـكـتـابـة والــرســم واإلخـــــراج والتمثيل وعــزف املوسيقى أكبر بكثير من الوظائف املدفوعة األجر املتاحة. ونتيجة لذلك، ال يتقاضى أغلب الفنانني أجـــورًا جـيـدة مقابل أعمالهم األكثر إشباعًا من الناحية اإلبداعية. تاريخيًا، منح هــذا الـوضـع أفضلية ألولـئـك الـذيـن يمتلكون العالقات التي تؤهلهم للحصول على تدريب غير مدفوع األجر - ولكنه مرغوب بشدة - في معرض فني أو استوديو سينمائي، والذين يمتلكون ثروة مستقلة تغطي تكاليف الطعام واإليجار في أثناء القيام بذلك. لــــــم يـــخـــلـــق الــــــذكــــــاء االصــــطــــنــــاعــــي هــــذه التفاوتات، لكنه قد يؤدي إلى تفاقمها إذا أدت هـــذه التكنولوجيا إلـــى الـقـضـاء عـلـى نوعية وظــــائــــف «املــــســــتــــوى املــــبــــتــــدئ» الـــتـــي تـسـمـح للفنانني فـي بـدايـة مسيرتهم ببناء عالقات وكـــســـب عــيــشــهــم - مــهــمــا كـــــان ضـــئـــيـــ - فـي املجاالت الفنية. وبالفعل، هناك خوف سائد مـــن اســـتـــخـــدام الــــذكــــاء االصــطــنــاعــي كـذريـعـة إللـــغـــاء الـــوظـــائـــف حــتــى لـــو كـــانـــت مـخـرجـاتـه غـيـر مـبـهـرة. يــقــول الري جـيـه كــوهــ ، كاتب تـــلـــفـــزيـــونـــي وعـــضـــو فــــي فـــريـــق عـــمـــل الـــذكـــاء االصـــطـــنـــاعـــي بــنــقــابــة كـــتـــاب شـــــرق أمـــيـــركـــا: «عندما يُطبق الـذكـاء االصطناعي التوليدي فــي الــواقــع الـعـمـلـي، تـكـون فاعليته مـحـدودة ومـخـيـبـة لـــآمـــال ومـتـوسـطـة الـــجـــودة بشكل كبير». ولـكـن، وبسبب مـا أسـمـاه السيد كوهني بـ«حقل تشويه الواقع الكامل» املحيط بالذكاء االصطناعي، فإن هذه الجودة املتوسطة قد ال تهم حقًا؛ فقد تستخدمه االستوديوهات على أي حال ملجرد خوفها من تفويت هذه الفرصة. هناك مصطلح علمي يصف هذه الحالة: «الـــتـــمـــاثـــل املــــؤســــســــي»؛ فـــفـــي ورقـــــــة بـحـثـيـة ، واجـــــــه عــــاملــــا االجـــتـــمـــاع 1983 نُــــشــــرت عــــــام بـــــول ديـــمـــاجـــيـــو ووالــــتــــر بــــــاول لـــغـــزًا ظـــاهـــرًا: ملــــاذا تـتـشـابـه املـنـظـمـات فـــي مــجــال مـعـ في هياكلها وممارساتها ومنتجاتها فـي كثير مـــن األحــــيــــان، حــتــى عــنــدمــا يـــكـــون مـــن املـفـيـد لها أن تتمايز عـن بعضها؟ جــادل ديماجيو وبـــاول بـأنـه عندما تعمل املنظمات فـي بيئة يسودها عـدم اليقني، خاصة تلك التي تكون فيها «التقنيات غير مفهومة بصورة جيدة»، فـــإنـــهـــا تــــراقــــب مــــا تــفــعــلــه املـــنـــظـــمـــات األخـــــرى وتقوم بتقليدها. ونتيجة هـذه املحاكاة هي أنه بمرور الوقت، تُعد أنماط معينة من العمل أمــرًا مسلمًا بـه بوصفها األنـمـاط الصحيحة واملشروعة داخــل املنظمة، حتى لو لم تسهم كثيرًا في تحقيق أهدافها. وبــمــا أن الـــذكـــاء االصـطـنـاعـي الـتـولـيـدي يُــعـد بالتأكيد تقنية «غـيـر مفهومة بصورة جيدة»، فال ينبغي لنا أن نتفاجأ برؤية هذا الـــنـــوع مـــن عـمـلـيـة «الـــتـــمـــاثـــل» تـتـجـلـى داخـــل الصناعات اإلعالمية. ففي مفاوضات العقود الخاصة بنقابات كــتــاب شـــرق أمــيــركــا، الحـــظ املــديــر التنفيذي للنقابة، سام ويلر، أن شركات اإلعـ م تقاوم املـطـالـب املتعلقة بحماية الـعـمـال مــن الـذكـاء االصـــطـــنـــاعـــي بـــعـــنـــاد ال يُـــــــرى عـــــــادة إال فـي القضايا املالية الصرفة، مثل تكاليف الرعاية الـصـحـيـة لـلـمـوظـفـ . لـقـد تمسكت الـشـركـات بموقفها املتصلب بشأن الذكاء االصطناعي حتى عندما بدا أنها ال تملك أفكارًا ملموسة حول كيفية استخدامه فعليًا. وقد ذُهل ويلر من اقتران «انعدام الخطة» بـ«اليقني بأن خطة مـــا سـتـظـهـر مـسـتـقـبـ ً». وعــنــدمــا تـظـهـر تلك الخطة في النهاية، فإن آخر ما يريده املديرون التنفيذيون هو أن تكون أيديهم مكبلة بقواعد النقابات. *خدمة «نيويورك تايمز» Issue 17187 - العدد Thursday - 2025/12/18 اخلميس بني حني وآخر يُنعِش األستاذ سمير عطا الله الذاكرة العربية بتجديد ذكرى أصدقائه في «وادي الـخـ ن: من ذبحان اليمن إلـى تطوان املـغـرب»، من آخــر مـن ذكـرهـم كــان األسـتـاذ أحمد محمد نعمان، األب الروحي للحرار والعقالء اليمنيني... عـــطـــا الــــلــــه، الـــــــذي يـــعـــيـــش وســــــط أجــــــــواء أهـــم املـواقـف، يتذكر دومــ لــ«األسـتـاذ» موقفًا متساميًا على جـراحـه، بعد اغتيال بكره محمد في بيروت، حني التقى بالرئيس سليمان فرنجية، الــذي بادر بتعزية األب في استشهاد ابنه، املعروف باعتباره وزيــر خارجية ومستشارًا سياسيًا سابقًا، فضال عـــن أنـــه مـفـكـر المـــع ومـــبـــادر خـــــ ّق، وكـــونـــه داعـيـة الجمهورية والوحدة والسالم بني اليمنيني خاصة، والعرب عامة. قال فرنجية: أعزيك في محمد. هنا يبادله األب العزاء: ال عزاء في ولدي... العزاء في لبنان الذي فقد أمنه واستقراره. برغم أهمية معرفة قاتليه، أدرك األب أن كلفة كـشـف الحقيقة بـاهـظـة عـلـى لـبـنـان، الـــذي ال يملك أن يـعـاقـب مـجـرمـ . فـكـم مــن جــرائــم بـحـق اليمنيني وغــيــرهــم اقــتــرفــت، ودمـــــاء هـــــدرت. لـكـنـه بـاسـتـقـراء اإلهـمـال واالنــفــ ت أنـــذر املـسـؤولـ اللبنانيني من 15 املصير الــذي واجـهـوه في الحرب األهلية طيلة سنة. وبقيت «اللبننة» طيلة سنوات حياة النعمان جـــــرس إنـــــــذار فــــي كـــلـــمـــات «األســــــتــــــاذ» ونــصــوصــه ورسائله ووثائقه حول «اليمننة». بــجــريــدة 12 - 17 ، فــــي مـــقـــالـــه يـــــوم األربــــــعــــــاء «النهار»، أورد «سمير البيان» النص النثري املؤثر للستاذ النعمان، مكمال موجز اقتباسه يوم السبت فــي «الـــشـــرق األوســــــط»: «أُحــــــذِّر الـيـمـن من 12 - 13 مصير كمصير لبنان الـذي نُكِب بأبنائه أكثر مما نُكب بأعدائه. وقد جـاءت األحــداث األخيرة شاهدًا عدال على ما حذرنا وأنذرنا، وقلنا إن الشعب الذي لن يرحم نفسه لن يرحمه أحد، ولن يعينه أحد، ولن يساعده أحد»... تُرى ما كانت «األحداث األخيرة» املوحية بذلك النص «النُعماني»؟ إنها أحداث حمالت التخريب، الـــتـــي كـــانـــت تــقــع بـــ حـــ وآخـــــر بــمــنــاطــق شـمـال اليمن، آخر السبعينات وأول الثمانينات، مدعومة من عناصر حاكمة لجنوب اليمن، بغية فرض وحدة الشطرين بالقوة.. تخيلوا...! وتذكروا من أجل ذلك كم سالت دماء اليمنيني، ومنهم محمد نعمان، الذي تفرق دمه بني تطرف ومزايدة في الجنوب، مقابل تـسـلـط وتـخـلـف فـــي الــشــمــال بـغـطـاء بـعـثـي عـراقـي ألجير فلسطيني وسط لبنان، الذي كان واحة حرية وديمقراطية تضم مـن أضنتهم عـذابـات السياسة في بلدان لم تنعم بما كان في لبنان... إذا بالنعمة تصير نقمة، والواحة ساحة تصفيات! مـــن املـــصـــادفـــات أن نــعــمــان االبـــــن الـــــذي واجـــه فـي الخمسينات التسمية االستعمارية «الجنوب الــــعــــربــــي» بـــمـــنـــشـــورات وبــــيــــانــــات تــــؤكــــد «يــمــنــيــة الــــــجــــــنــــــوب»، وأن «عـــــــــدن يـــمـــنـــيـــة بـــــقـــــدر مـــصـــريـــة اإلســـكـــنـــدريـــة، وســــوريــــة حـــلـــب، ولــبــنــانــيــة صــيــدا، وفلسطينية القدس»، عاش إلى السبعينات ينادي بـــوحـــدة الــشــطــريــن، حــتــى اتـــحـــد قـــــرار نـــافـــذيـــن في الشطرين بالخالص منه. ومــن أفظع مـفـارقـات مساعي الجنوب سابقًا إلـــى فـــرض الـــوحـــدة بــالــقــوة تفجير مـكـتـب رئيس الــشــمــال، أحــمــد الـغـشـمـي، بـحـقـيـبـة دبـلـومـاسـيـة، يحملها مبعوث جنوبي. ثم بتنسيق وتفاهم بني الشطرين استعادا وحدتهما، إلى أن وقع ما وقع مـن أحـــداث وأزمــــات فـرضـت الـقـوة كناتج طبيعي للصراع املتفجر، ثم حماية الوحدة برغبة الشعب ومــمــارســة الـديـمـقـراطـيـة واملــنــجــزات الـتـنـمـويـة... وإذا بني حني وآخر يقع ما يبدد وينسف ذلك كله بمحاوالت فرض أمر واقع، ما زالت مستمرة حتى اليوم. ونتيجة تكرار الوقائع اليمنية بني حني وآخر، نستذكر دعوات التعقل في خضم الجنون؛ ويؤخذ بـعـ االعــتــبــار آخـــر مــا صـــدر مــن دعـــوة وازنــــة إلـى خفض التصعيد، من نائب رئيس املؤتمر الشعبي العام، أحمد علي عبد الله صالح. دعــــــــوات الـــتـــنـــبـــه لـــلـــمـــاضـــي وتــــ فــــي املـــخـــاطـــر والـعـودة إلـى العقل تصدر مـن عـاقـل، ويستوعبها كل عاقل. مهما فقد العقالء من يحبون من أهلهم ال يفقدون عقلهم وأملهم في أن يستجاب لدعواتهم املتكررة. عسى ولعل ثمة من يستجيب. في كل دول ما عرف بـ«الربيع العربي»، انتهت املسارات إلى مآالت بعيدة كل البعد عن األحالم األولى. انتهى األمر في معظم الـحـاالت إلـى كابوس الـحـروب والـتـشـرذم، من سوريا إلـى اليمن وليبيا، وانـتـهـاء بـالـسـودان الـــذي التحق بالركب مـتـأخـرًا، لكنه لم ينج من هذا املصير القاسي، إذ حل لهيب الحرب محل نعيم التغيير املوعود. غــــدًا يـــصـــادف مـــــرور ســبــع ســـنـــوات عــلــى «ثــــــورة ديـسـمـبـر» السودانية، وسيتذكر الناس التاريخ، لكن ليس بذات الرومانسية، بل بعني مرهقة ترى الواقع من منظور مختلف. فالهم اليومي حل محل السياسي، والخوف محل األمل، والبقاء محل الشعارات. نــجــحــت «ثـــــــورة ديـــســـمـــبـــر» فــــي تـــوحـــيـــد الــــنــــاس، أو فـلـنـقـل أغلبيتهم، على ما ال يريدونه، لكنها لم تنجح في توحيدهم حول ما يريدونه عمليًا: شكل الدولة، وهويتها، وطبيعة الحكم، وكيف يُحكم السودان. ومع غياب هذا االتفاق، انفتحت األبواب أمام كل أشكال الصراع. لم يُترك الـسـودان ليجرب مساره الخاص في أجــواء تمكنه مـــن ســ ســة االنـــتـــقـــال. ركـــب كــثــيــرون مــوجــة الـــثـــورة مـــن دون أن يكونوا جـزءًا من تضحياتها، بينما بـددت الخالفات السياسية ولغة اإلقـصـاء، والـصـراع على السلطة والسباق على الكراسي، زخـم اللحظة، وخلقت بيئة مهيأة لالنفجار والـحـرب. وفـي تلك األجواء الهشة كان لصراعات املحاور اإلقليمية، واملال السياسي، واملصالح األمنية دورهـا في تحويل السودان إلى ساحة صراع بالوكالة. تتحمل النخب السياسية واملـدنـيـة مسؤولية حقيقية في إضـعـاف مسار «ثـــورة ديسمبر». فقد انشغلت قطاعات واسعة منها بصراعات آيديولوجية وحزبية ضيقة، بدل السعي إلى بناء حد أدنى من التوافق الوطني. سادت لغة اإلقصاء والتخوين، بدل إدارة الخالف باعتباره أمرًا طبيعيًا في مرحلة انتقالية معقدة. وفــي خضم انشغالها بتلك الـصـراعـات، فشلت هــذه النخب في إنـتـاج مـشـروع وطني جامع يـــوازن بـ مطالب الـعـدالـة الثورية ومتطلبات االستقرار. األخـــطـــر أن بــعــض الــنــخــب دخـــلـــت، عـــن قــصــد أو بــســذاجــة سياسية، فـي تحالفات قصيرة النظر مـع مـراكـز قــوة عسكرية، ومع «قوات الدعم السريع» بشكل خاص، ظنًا منها أنها تستطيع استخدامها أداة لتحجيم الجيش وإعـــادة هندسة مـيـزان القوة ملصلحتها. لكنها في الواقع أسهمت في تغذية طموحات قائد «الــدعــم الـسـريـع» للهيمنة على السلطة، والتفكير فـي أن يكون بديال عن الجيش. وهكذا، بدل أن تكون تلك النخب جزءًا أساسيًا في الحل، تحولت في كثير من اللحظات إلى جزء أصيل من األزمة. املفارقة املؤملة أن هذه األطــراف، بـدال من مراجعة تجربتها، مضت في الخطاب ذاته: خطاب إقصائي، ومماحكات سياسية، ورهانات خاسرة على أدوار لقوى مسلحة، وانخراط في تقاطعات إقليمية وخارجية، في وقت بات واضحًا فيه أن أطرافًا إقليمية ضالعة بشكل خطير في تأجيج الحرب وإطالة أمدها عبر إمداد «الدعم السريع» بالسالح، خدمة ألجنداتها الخاصة ومصالحها. مـــع ظـــــروف الـــحـــرب، هـــنـــاك واقـــــع جـــديـــد تــشــكــل، ومـــعـــادالت مختلفة فرضت، وأوضاع تغيرت، وهموم وأولويات تبدلت. قوى الثورة ذاتها تفرقت، وانحاز بعضها إلى صف الجيش، وتحالفت أطراف أخرى مع «الدعم السريع». تشتت كثير من شباب الثورة بني النزوح واللجوء، أو انشغلوا بلقمة العيش وهموم الحياة في ظل الحرب. الذين يراهنون على إعادة املشهد كما كان، واهمون. عقارب الساعة ال تـعـود إلــى الــــوراء، وشــعــارات الــثــورة، الـتـي لـم يتحقق معظمها، لن تكون كافية إلعادة إنتاج املشهد السياسي ذاته، وال إلعادة الوجوه نفسها إلى كراسي السلطة باملعادالت واملشروعية الـسـابـقـة. «ثــــورة ديـسـمـبـر» لــم تـعـد مــســارًا مـتـصـ ً، فـقـد تفككت قواها وفقدت جزءًا كبيرًا من تكويناتها ومن تأثيرها، واملجتمع نفسه تغير تحت وطأة الحرب والنزوح والظروف القاسية التي .2018 فرضت عليه، ولن ينظر إلى األمور اليوم بذات منظار لحظة الحرب ليست لحظة بطولة خطابية، بل لحظة امتحان قــاس للجميع. املطلوب الـيـوم ليس اسـتـعـادة لغة الـشـعـارات، بل التكيف مع واقـع جديد، والتفكير في مشروع أكثر واقعية، وأقل رومــانــســيــة. بــعــبــارة أخـــــرى، قـــد تــبــدو صـــادمـــة لـكـنـهـا ضـــروريـــة؛ املطلوب اليوم االنتقال من «مشروع ثــوري» إلـى «مشروع إنقاذ» يبني على املمكن، ويعترف بأننا فـي مرحلة تاريخية مختلفة. مشروع يضع الوطن فوق كل االعتبارات، ويعمل بمفهوم الدولة أوالً، ويـقـر بـأنـه لـن تـكـون هـنـاك ديمقراطية بـ احـتـكـار مشروع للعنف، وبال مؤسسات قائمة وعاملة تمنع االنزالق نحو الفوضى. هـنـاك حـاجـة ملحة إلـــى مــشــروع جــامــع، يتبلور عـبـر حــوار وطني شامل ال يقصي أحدًا لتحديد كيف يُحكم السودان، ال من يحكمه. فقرار من يحكم ينبغي أن يُترك للناس، لالختيار عبر صناديق االقتراع. الوصفات القديمة فشلت، والسودانيون تعبوا مـن دوامـــة الـفـتـرات االنتقالية املضطربة، والحقب الديمقراطية القصيرة األجل، واالنقالبات املتكررة، ويحلمون أكثر من أي وقت مضى باألمن واالستقرار، وبوطن آمن يستريح من عناء الحروب، ومـن صـراعـات اإلقـصـاء في السياسة، وحــول كراسي السلطة... ومن تكرار فشل النخب. لطفي فؤاد نعمان عثمان ميرغني *كيتلين بيتري وجوليا تيكونا OPINION الرأي 14 السودان... ماذا بقي من «ثورة ديسمبر»؟ بين حين وآخر... بين الرأسمالية والذكاء االصطناعي واإلبداع

RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==