OPINION الرأي 12 Issue 17187 - العدد Thursday - 2025/12/18 اخلميس وكيل التوزيع وكيل االشتراكات الوكيل اإلعالني المكـــــــاتــب المقر الرئيسي 10th Floor Building7 Chiswick Business Park 566 Chiswick High Road London W4 5YG United Kingdom Tel: +4420 78318181 Fax: +4420 78312310 www.aawsat.com [email protected] املركز الرئيسي: ٢٢٣٠٤ : ص.ب ١١٤٩٥ الرياض +9661121128000 : هاتف +966114429555 : فاكس بريد الكتروني: [email protected] موقع الكتروني: www.arabmediaco.com هاتف مجاني: 800-2440076 املركز الرئيسي: ٦٢١١٦ : ص.ب ١١٥٨٥ الرياض +966112128000 : هاتف +9661٢١٢١٧٧٤ : فاكس بريد الكتروني: [email protected] موقع الكتروني: saudi-disribution.com وكيل التوزيع فى اإلمارات: شركة االمارات للطباعة والنشر الريـــــاض Riyadh +9661 12128000 +9661 14401440 الكويت Kuwait +965 2997799 +965 2997800 الرباط Rabat +212 37262616 +212 37260300 جدة Jeddah +9661 26511333 +9661 26576159 دبي Dubai +9714 3916500 +9714 3918353 واشنطن Washington DC +1 2026628825 +1 2026628823 املدينة املنورة Madina +9664 8340271 +9664 8396618 القاهرة Cairo +202 37492996 +202 37492884 بيروت Beirut +9611 549002 +9611 549001 الدمام Dammam +96613 8353838 +96613 8354918 الخرطوم Khartoum +2491 83778301 +2491 83785987 عمــــان Amman +9626 5539409 +9626 5537103 صحيفة العرب األولى تشكر أصحاب الدعوات الصحافية املوجهة إليها وتعلمهم بأنها وحدها املسؤولة عن تغطية تكاليف الرحلة كاملة ملحرريها وكتابها ومراسليها ومصوريها، راجية منهم عدم تقديم أي هدايا لهم، فخير هدية هي تزويد فريقها الصحافي باملعلومات الوافية لتأدية مهمته بأمانة وموضوعية. Advertising: Saudi Research and Media Group KSA +966 11 2940500 UAE +971 4 3916500 Email: [email protected] srmg.com العربية مشكلة سياسية مُكْرَه أخاك في كييف... ال بطل من يصنع هويتك: أنت أم اآلخرون؟ يـقـرأ املـــواطـــن الـبـنـغـاديـشـي املـقـيـم فــي أسـتـرالـيـا، إسماعيل أرمــــان، الـــقـــرآن، بلغته األم وبـالـعـربـيـة أيــضــا، لكنه بــمــرور الـوقـت شـعـر بـــأن عـــدم فـهـمـه للعربية يـؤثـر عـلـى إيــمــانــه، وبـعـد أن ذهـب ألداء فريضة الحج أدرك أن ثمة مـا ينقص. يــروي على قناته في «يوتيوب» التي لها آالف املتابعني، أنه قرر تعلم الفصحى ليفهم املعاني ويستعيد روحانيته املفقودة، وملّا لم يجد من يتحدث معه، لجأ إلى «تشات جي بي تي» يبادله الحوار دقائق قليلة كل يوم، وبعد ثلثة أشهر فقط بات قادرًا على الفهم واملحادثة، وهو مستمر في تقوية مهاراته. ال يدرّس أرمان متابعيه العربية، لكنه يرشدهم إلى الطريقة التي تعلّم بها بواسطة الذكاء االصطناعي، الذي أصبح فرصة لكل مسلم. قــريــبــا، لـــن يــكــون أحــــد بــحــاجــة إلــــى لــغــة أجـنـبـيـة لـلـتـواصـل الـتـجـاري أو املـعـرفـي، ألن الترجمة اآللـيـة الـفـوريـة تـقـوم باملهمة، لــكــن أرمـــــان وأكـــثـــر مـــن مــلــيــار ونــصــف مـسـلـم فـــي الــعــالــم سـيـوجـد بينهم املليني ممن يحلمون بفهم كتابهم الديني بلغته العربية، ويثابرون على تعلمها. ميزة استثنائية ليست للغات األخـرى، وال تخضع لتحوالت ظرفية. اليابانيون مثلً، ال يتحدثون أي لغة أجنبية، من املطار يـسـتـقـبـلـونـك بـلـغـة اإلشــــــــارة، وفــــي الـــفـــنـــدق الــتــرجــمــة اآللـــيـــة تفي بـــالـــغـــرض، حــتــى فـــي اســتــعــامــات «إكــســبــو أوســــاكــــا» هــــذا الــعــام، الحدث العاملي األضخم الذي تجند له الدول مترجميها، لم يجهد اليابانيون أنفسهم في النطق بغير لغتهم طاملا أن ثمة آلـة تقوم باملهمة. وإذا كنت تظنها استثناءً، فالصينيون سيحكمون العالم، وها هم يتفوقون حتى على أميركا، وال يجد مواطنهم فخرًا في أن يرطن اإلنجليزية، بل أن يتقن لغته الوطنية ويتفنن بها. وهم ربما محقون، فالعصر الجديد، يفتح اآلفاق بني اللغات والثقافات. فأنت تسأل تطبيقك الذكي باللغة التي تريد، فيأتيك باإلجابة من لغات عدة، ويقدمها لك بلغة السؤال، بلمحة طرف. هكذا يصبح تعلمك لألجنبية، فــضــوال يـسـاعـد عـلـى تـمـريـن الـعـقـل، وفـهـم الـذهـنـيـات، وتسهيل التواصل. أما العلم فمسالكه مشرعة بل حواجز لغوية. وفـي الـيـوم العاملي للغة العربية، نتذكر كـل سنة خسائرنا، واللكمات األليمة التي نسددها للغتنا. فاألمية في ارتفاع بسبب مــآســي الـــحـــروب املـمـتـدة وأطـفـالـهـا املــشــرديــن. والــشــعــور العميق بالخور واالنكسار، يجعل شبابنا يميلون إلى التبرؤ من لغتهم، ويفضلون األلسن املعوجّة، والجمل الهجينة الغامضة، على لغة صافية عريقة، مما يزيد الفجوة بني العامية والفصحى، بـدل أن تتقاربا. النتيجة عزوف عن الكتابة بالعربية، مع أن العصر الرقمي تشيد مداميكه على بيانات األمـــم، التي تحولت عندنا إلــى نتف وتـشـوهـات. ومــع ذلــك ينمو املـحـتـوى الـعـربـي بسرعة قياسية، ال بفضل عبقريتنا، بل بأفضال أجدادنا الذين أصبحت كتاباتهم زادًا لتدريب النماذج اللغوية، بعد أن سهّل التصوير الرقمي، إدخـال النصوص وبرمجتها. أهدرنا وقتا طويلً، لندرك أن لغتنا االشتقاقية نعمة ليست لغيرنا، وبـعـد أن تعثرت بحجة أن بها مـن الكلمات املتشابهات ما يصعّب فهمها، ها قد أصبح التعامل مع الجذر ومشتقاته من املسهلت. إذ يكفي فهم الجذر، للستدالل على باقي متفرعاته بدقة تفوق اللغات التي تعتمد على التركيب اللفظي العشوائي. عــنــدمــا تــــرى املــنــصــات الــذكــيــة تـــســـارع إلــــى تــطــويــع الـعـربـيـة وتـطـويـر اسـتـخـدامـهـا، تـــدرك أهميتها الـتـي نجهلها. هــذه ليست جمعيات خيرية، وال منظمات تدافع عن املساواة وحقوق اإلنسان فــي اســتــخــدام الـتـكـنـولـوجـيـا، بــل شــركــات تــجــاريــة، تستميت في سبيل الربح، ولو أعدمت نصف سكان الكوكب. وكل ما يعنيها هو النجاح وكسب الجيوب والقلوب. الــعــربــيــة الــخــامــســة عــاملــيــا مـــن حــيــث عــــدد املــتــحــدثــ ، وثـمـة إحصاءات تظهر أن الناطقني بها لغة أولى قد يكون عددهم وصل إلـى نصف مليار، فضل عن الذين يفهمونها ويقرأونها وليست لغتهم األولــى. فهي تنتعش في منطقة واحـدة مترابطة جغرافيا، دولة، عمليا، ليس فيها تعدد لغوي باملعنى الحقيقي، وإن 22 وفي أحـب البعض ادعـــاء غير ذلــك. فـي اإلحــصــاءات العاملية، كـل عربي يفترض أنه يتحدث العربية في بيته. وبلداننا ليست كأميركا التي لغة، وفـي الصني 400 تتواصل فيها العائلت في منازلها بنحو ، وروسيا مائة على األقل. 130 نحن عـــرب، ومــع ذلــك العربية مضطهدة، وتخضع لتعنيف وصـدمـات، غالبيتها متأتية من أبنائها. املشكلة ال تكنولوجية، وال نحوية. وكل كلم عن صعوبة العربية هرطقة. ألن اللغة تسهل بقدر مـا تستخدمها وتحبها. والصينية التي هـي للبعض لغز، ستصبح بعد قليل، مشتهى الراغبني فـي التقرب مـن أصدقائهم وشركائهم الصينيني. عندها لن يسخر أحد من أنها تكتب بالطول أو بالعرض، وسيرسمونها على الجدران، ويعلقونها كالتعاويذ في اللوحات. العربية حلّها يأتي بـقـرار سياسي وتــربــوي، تماما كما في الصني واليابان. فالطالب ال يترك املدرسة إال وقد قرأ كبار األدباء، وتعرف إلـى أمهات كتب الـتـراث، وعـرف تاريخه، واعـتـد بأصوله، وشـعـر بالفخر بـانـتـمـائـه. أمـــا تـخـريـج أجــيــال تستصغر نفسها، وتحتقر تاريخها، وتتبرأ من لغتها، فتلك كارثة لن يصلحها أي نظام ذكي مهما بلغت عبقريته. أطـالـع إعـــان الـرئـيـس األوكـــرانـــي فولوديمير زيلينسكي تــــنــــازل بــــــاده عــــن طــمــوحــهــا فــــي االلـــتـــحـــاق عـــضـــوًا فــــي حـلـف «الـنـاتـو»، فـأذكـر قصة الـرجـل الـــذي وصـفـوه فـي مـوقـف شبيه فقالوا: «مُكْرَه أخاك... ال بطل». فالحرب الروسية- األوكرانية تدخل عامها الخامس في الرابع والعشرين من فبراير (شباط) املقبل، ونحن نفهم مما نـــرى أن الـرئـيـس الــروســي فـاديـمـيـر بـوتـ ال مـانـع عـنـده من أن تمتد لتدخل عامها السادس، أو السابع، أو حتى العاشر. ال مانع عنده رغـم خسائر جيشه وبـــاده فيها، فهو ال يبالي بخسائر جـيـش، وال بنزيف اقـتـصـاد، ويـواصـل الـحـرب بقلب قوي! الـقـضـيـة عــنــده لـيـسـت خــســائــر عــلــى مــســتــوى جــيــش، أو بلد، أو اقتصاد، فلقد أعطاه الله بسطة في األرض ال تنازعه فيها بلد أخرى، أما باطن األرض التي تبلغ مساحتها ضعف مـسـاحـة الـــواليـــات املـتـحـدة األمـيـركـيـة تـقـريـبـا، ففيه كثير من الـــثـــروات الطبيعية، وعـلـى ظـهـرهـا مــن الـــثـــروات مــا هــو أكـثـر، ولذلك كله، فإن الخسائر -رغـم ضخامتها- يمكن استيعابها، واملخاطر يمكن تطويقها. املشكلة هـي عند الـطـرف اآلخـــر فـي العاصمة األوكـرانـيـة كييف، ومشكلته في الحقيقة مشكلتان، وربما ثلث مشكلت. أما األولى فهي خاصة به؛ ألنه ال يملك شيئا من مساحة الجار الـروسـي، وبالتالي ال يستحوذ على شـيء مـن ثـــروات الـروس الـهـائـلـة، ولــهــذا، فـإنـه كـمـن يسحب عـلـى املـكـشـوف مــن ثـــروات أوكرانيا التي ال تمثل الكثير عند املقارنة بالثروات الروسية. واملشكلة الثانية أن حــال الــواليــات املتحدة معه فـي أيـام ترمب، ليست كحال الواليات املتحدة نفسها معه هو ذاته في أيام بايدن الذي كان قد فتح خزائن بلده لألوكرانيني، والذي كــان يفعل ذلــك عـن إدراك بــأن هزيمة أوكـرانـيـا فـي حربها مع الــروس، هي في جانب من جوانبها هزيمة للمعسكر الغربي الذي تجلس واشنطن على موقع القمة فيه. كـان بايدن يقف في املربع الصحيح، وكـان يتبنى وجهة النظر األقرب للصواب من حيث علقة بلده تاريخيا بأوروبا؛ لكن سوء حظ األوروبيني واألوكرانيني معا جعل بايدن يغادر البيت األبيض في هذا التوقيت ليأتي في مكانه ترمب. يؤمن الرئيس ترمب بعكس ما آمن به الرئيس األميركي الـسـابـق، وقــد أمـضـى الـرئـيـس تـرمـب سنته األولـــى يعمل بما يــؤمــن بـــه، وال يـزعـجـه فـــي شـــيء أن يَــقـلـق األوروبــــيــــون أو أن يضجوا، وقــد كــان واضـحـا فيما آمــن بـه منذ الـبـدايـة، ووصـل تــطــرف إيـمـانـه فــي هـــذا االتـــجـــاه إلـــى درجــــة أنـــه بـــدا مــيــاال إلـى موسكو، من دون أن يجد في ذلك أي حرج سياسي. وكان وال يزال أقرب إلى روسيا منه إلى أوكرانيا، أو إلى بلجيكا؛ حيث يقع مقر االتحاد األوروبي. واملشكلة الثالثة لــدى الـطـرف األوكـــرانـــي، أن األوروبــيــ غير قادرين على إسعافه بما ينقذه وينقذ بلده في املواجهة مـع روسـيـا، وال هُــم قـــادرون على تعويضه عـن شـيء مـن املـدد األميركي الذي انقطع برحيل بايدن أو كاد. وألن هذا هو الواقع على األرض، فإن زيلينسكي رغم استبساله في الدفاع عن بلده، ورغم أنه يُلحق بالروس كثيرًا من الضرر، فإنه في أوقات كثيرة يجد نفسه مع بوتني وجها لوجه، بينما ظهره للحائط. ومن الواضح أن األميركيني يتمادون في اللعب بأعصابه. ومن علمات ذلك أن الرئيس ترمب ملح مؤخرًا -كما ملح من قبل- إلى أنه يمكن أن ينفض يده من الوساطة في وقف الحرب! وألن زيلينسكي يعرف أن بوتني يصيبه مس من الجنون كلما سمع برغبة األوكـرانـيـ فـي االلـتـحـاق بحلف «الـنـاتـو»، وألن الـرئـيـس الــروســي مستعد ألن يـــرى الـعـفـريـت أمــامــه، وال يرى في املقابل وجودًا لـ«الناتو» على حدوده مع أوكرانيا، فإن الرئيس األوكــرانــي بــادر فأعلن تـنـازل بــاده عـن طموحها في عضوية «الناتو». هـــذا تـطـور فــي املــوقــف األوكـــرانـــي غـيـر مـسـبـوق مـنـذ بـدء الـحـرب، فلقد كانت أوكـرانـيـا تـجـادل فـي أي شـيء مـع روسيا، إال أن يكون هذا الشيء هو رغبتها في عضوية «الناتو»، وكان األوروبيون يشجعونها على ذلك، وكان السبب أنهم يجدونها حديقة خلفية لهم بالقرب من الروس، وأن حديقة كهذه ال بد من أن تكون مشمولة بالحلف وبقدراته العسكرية. ولـكـن الــتــخــاذل األمــيــركــي مــع أوروبـــــا جعلها تـذهـب إلـى التفكير بواقعية أكـثـر، وجعلها تُلقي بـهـذه اللقمة إلــى الـدب الـروسـي، لعله يطمئن فيوقف هـذه الـحـرب التي ال تــؤدي إلى شــــيء عــلــى األرض، أكــثــر مــمــا تــــؤدي إلــــى اســـتـــنـــزاف الــخــزانــة األوروبية في كل نهار. السؤال اآلن: هل سيطمئن القيصر الروسي ويقتنع بأن وقف الحرب إذا كان يمثل ضرورة اقتصادية لألوروبيني، فهو يمثل الـضـرورة نفسها بالنسبة لـه؟ سـوف نعرف اإلجابة في األمـــد الـقـريـب، ولــن يـطـول األمـــد قبل أن نعرفها. ولـكـن الفكرة فـي تضحية زيلينسكي بطموح بــاده فـي عضوية «الناتو»، ليست أنه بطل يبادر بما يشير إلى شجاعة منه، كما قد تبدو لنا التضحية في الظاهر، فهو مُكره على ما لم يكن يحبه وال يريده. هو مُكره ألن عليه أن يتجرع كأسا ال يكاد يسيغها، ولو كان له أن يختار ما تجرعها، وما ذهب إلى ما ذهب إليه في أمر بلده مع «الناتو». إنـهـا الـحـرب الـتـي وصفها الـشـاعـر فـقـال: ومــا الـحـرب إال ما قد عرفتم وذقـتـم. وقـد ذاق منها األوكـرانـيـون ومِــن ورائهم األوروبيون أكثر مما ذاق أو عرف الشاعر القديم. تـوصـل الـبـروفـسـور يــونــاس فـريـسـن، بمعهد كـارولـيـسـكـا في استوكهولم، إلى أن أجسامنا تتغير كل يوم. ويتغير جسم الشخص سـنـ . خليا 10 إلــى 7 البالغ كله تقريبا، خــال فـتـرة تـتـراوح مـن البشرة، تتجدد كل أسبوعني تقريبا. وخليا الدم الحمراء، تعيش يوم. 500 و 300 أربعة أشهر. وخليا الكبد تعيش ما بني نـحـن ال نــاحــظ -عــلــى األرجـــــح- تــغــيّــرات أجــســامــنــا، ألنــنــا في األســــاس ال نـعـرف إال الـقـلـيـل عــن مـئـات املــايــ مــن الــخــايــا، التي تتألّف منها أجسادنا، ولـذا ال نلحظ فناء أي منها، لكننا نلحظ بالتأكيد أن العالم الــذي نعيش فيه يتغير باستمرار. كما تتغير معرفتنا بهذا العالم. تموت أشياء في ذاكرتنا، وتحل محلها أشياء أخرى: الناس الذين نلتقيهم، والتجارب التي نخوضها، واملعارف التي نكسبها، وساعات الحزن والفرح التي نمر بها. كثير ممن تـأمـل فـي مسألة الـهـويـة، بــدأ مـن هــذه النقطة على وجـه التحديد، من سـؤال بسيط: أي سر وراء هـذا الشعور العميق باستمرارية الـهـويـة؟ نفسي الـتـي عرفتها فـي الطفولة هـي نفسي الـتـي أعرفها الـيـوم، وستظل معي حتى نهاية العمر. هــذه إشــارة أولــى إلــى أن شخصيتي التي تتغير باستمرار فـي مسار الحياة، تنطوي في الحقيقة على ماهية مزدوجة، أي هويتَني أو مستويَني من التعريف: الهوية األولـى التي تصاحبني منذ أن تعرفت للمرة األولـى إلى اسمي ولوني وجنسي وعائلتي، وحتى نهاية حياتي. هذه العناصر تؤثر بعمق على نظرتي إلى نفسي ونظرة اآلخرين إليّ. والهوية األخرى أو املستوى اآلخر هو الذي اكتسبته الحقا من خلل التفاعل مع البشر الذين أتعرف إليهم، والطبيعة املحيطة بي، ومن تفكيري في ذاتي وفي عاملي أو تفاعلي معه. ســؤال «مـن أنــا؟» قد يشير إلـى الـوجـود املــادي للشخص، مثل كونه ذكرًا أو أنثى، شابا صغيرًا أو شيخا كبيرًا، لكن هذه األوصاف ليست عظيمة األهـمـيـة فــي ذاتــهــا، إنـمـا تـرتـفـع قيمتها أو تهبط، تبعا ملا تنطوي عليه من معان في رأي الناس الذين أتعامل معهم، أي مـا نسميه «الـعـرف الـعـام». ومــن هنا فنحن بحاجة إلــى معرفة املحيط االجتماعي للشخص، والقيم التي يلقيها على كل عنصر مـن مكونات هويته. على سبيل املـثـال، نحتاج إلـى معرفة املوقف االجـتـمـاعـي مــن املـــــرأة: فــي مجتمع مـثـل أفـغـانـسـتـان والــعــديــد من املجتمعات الريفية التقليدية، لـن يسمح للمرأة بمعيشة معقولة خــارج بيتها الـخـاص. أمـا في أملانيا مثلً، فيمكن لسيدة أن تصل إلى منصب رئيس الدولة. هذا يشير إلى معنى الفارق الجنسي في ثقافتَني مختلفتَني، وما يتبعه من اختلف جذري في نوع املعاملة للذكر واألنـثـى في هـذا البلد أو ذاك. كذلك الحال لو كـان الشخص أبيض البشرة في مجتمع غالب أعضائه من السود، أو كان أسود البشرة في مجتمع أبيض. فارق اللون تترتب عليه فوارق في العلقة بني الفرد والجماعة، وبالتالي مكانة الفرد فيها وتوقعاته منها. وهــــذه الـعـاقــة تُــسـهـم فــي تـحـديـد فـهـم اإلنـــســـان لنفسه وللمحيط االجتماعي. كما تُسهم في تحديد الطريقة التي يستعملها اإلنسان في تقديم نفسه إلى هذا املحيط. يوضح املثال السابق دور «اآلخرين» في تحديد القيم املؤثرة في تشكيل الهوية الشخصية. وسـوف نتعرف تاليا إلى حقيقة أن مشاركة كل منا في تشكيل هويته، مشروطة إلى حد كبير بالحدود الـتـي تـفـرضـهـا الـبـيـئـة االجـتـمـاعـيـة الـتـي نـتـعـامـل مـعـهـا. خــذ مثل العقيدة التي أديــن بها، واللغة التي أتحدثها، والـتـي تؤثر بعمق في طريقة تفكيري واتجاهاتي، وكذا اللباس وطريقة العيش ونظام التعامل مع الناس، أي مجموعة األعراف والنظم التي تحدد لي ما يمكن فعله وما ال يمكن، فهذه كلها يستلهمها الفرد من األشخاص املحيطني بـــه. وبــنــاء عـلـى فـعـل الــفــرد وانـفـعـالـه، ورد فـعـل املحيط، يتحدد موقع الفرد في النظام االجتماعي واملعايير الناظمة لعلقته مع اآلخرين. توفيق السيف سوسن األبطح سليمان جودة
RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==