issue17186

الثقافة CULTURE 18 Issue 17186 - العدد Wednesday - 2025/12/17 ًالأربعاء تتبع طرازا فنيا راسخا وشكلا متقشّفا كؤوس فخارية من موقع مليحة في الشارقة كــــشــــفــــت أعـــــــمـــــــال المــــــســــــح والــــتــــنــــقــــيــــب المتواصلة منذ بضعة عقود في دولة الإمارات الــعــربــيــة المـــتـــحـــدة عـــن سـلـسـلـة مـــن المـــواقـــع الأثـريـة، مـن أبـرزهـا مستوطنة مليحة التي تمتد في سهل داخلي إلى الغرب من سلسلة كـيـلـومـتـرا 50 جـــبـــال الــحــجــر، وتــبــعــد نــحــو شـــرق مـديـنـة الــشــارقــة. بـــدأ اسـتـكـشـاف هـذه المـسـتـوطـنـة فـــي مـنـتـصـف ثـمـانـيـنـات الـقـرن المـاضـي، وتـواصـل فـي العقود التالية، حين عمدت بعثة أثرية فرنسية إلى إجراء سلسلة من الحفريات، ساهمت في إلقاء الضوء على تاريخ هـذه المنطقة التي شكّلت في الماضي مركزا تجاريا وسيطاً، كما تشهد مجموعات اللقى المتنوّعة التي خرجت من بين أطلالها، ومنها كـؤوس فخارية برتقالية اللون، قيل إنّها مستوردة من إيران. أجـــــــــرت الــــبــــعــــثــــة الأثـــــــريـــــــة الـــفـــرنـــســـيـــة حـــمـــلـــة تـــنـــقـــيـــب فـي 2010 فـــــي مـــطـــلـــع عــــــام مـلـيـحـة مـــدى أربــعــة أســابــيــع، وكــــان الـهـدف الأســاســي لـهـذه الحملة العمل على توثيق الــــدور الـنـهـائـي للاستيطان فــي هـــذا المـوقـع الاستثنائي خـال الـقـرون الميلادية الأولــى. حسب تقرير خاص بهذا الموسم من التنقيب من «حولية آثار الشارقة»، 13 نُشر في العدد خرجت مـن بـن أطــال مليحة مجموعة من الحلى الذهبية بدت غير مألوفة في طبقات الاستيطان الخاصة بهذا الموقع، ومجموعة مــن المـسـكـوكـات منها قطعة محلية، وختم مـصـنـوع مـــن عـجـيـنـة زجــاجــيــة، صـيـغ على شـــكـــل أســــــد مـــضـــطـــجـــع، مـــــع نـــقـــش بــالــخــط الآرامـــــــــــي، إضــــافــــة إلــــــى الــــعــــديــــد مــــن الــلــقــى الـخـشـبـيـة والــعــاجــيــة الــتــي تــعــود إلـــى قطع مـهـشّــمـة. فــي هـــذا الــســيــاق، خـرجـت الحملة بمجموعة كبيرة من اللقى الفخارية، منها قطع محلية الصنع، وقطع مصدرها وادي السند، و«كـأس إيرانية ذات طينة برتقالية مـصـبـوغـة، وُجــــدت مـبـعـثـرة مــع كُــسـر تعود لكأس أخرى». حمل هــذا التقرير صــورة لهذه الكأس «المـــــســـــتـــــوردة مــــن إيـــــــــــران»، وهــــــي كــــــأس تـــم ترميمها لاحقا بشكل دقيق، وتتميّز بحلّة زخـــرفـــيـــة مــطــلــيــة بـــالـــلـــون الأســـــــــود، تـجـمـع بــن الـتـقـاسـيـم الـهـنـدسـيـة المـــجـــرّدة وصـــورة حـــيـــوانـــيـــة مــــحــــوّرة تـــمـــثّـــل كـــمـــا يـــبـــدو وعــــا يقف ثابتا على قوائمه الأربــع، في وضعية جانبية تخلو من أي حركة. يزين قمّة هذه الكأس شريطان زخرفيان تختلف المفردات الـتـشـكـيـلـيـة الــخــاصــة بـــكـــل مـنـهـمـا. يـتـبـنّــى الــشــريــط الأعـــلـــى زيــنــة قــوامــهــا سـلـسـلـة من الـــدوائـــر الـلـولـبـيـة تــحــل بــن خـطـن أفـقـيـن، ويتبنّى الشريط الموازي شبكة من الخطوط المـلـتـويـة تـحـل بــن خـطّــن مـشـابـهـن. يقابل هـذيـن الشريطين شـريـط ثـالـث يُــزّيــن قاعدة هذه الكأس، وقوامه كذلك سلسلة من الدوائر اللولبية، تُماثل في تكوينها تلك التي تُكلّل هــــذه الـقـطـعـة الــفــخــاريــة. يـظـهـر وســــط هــذه الـشـرائـط الزخرفية وعــل يقف بثبات تحت قـــوس عـريـضـة، تـزيّــنـه شـبـكـة مــن الـخـطـوط العمودية المرصوصة كأسنان المشط. صُــــوّر هـــذا الــوعــل بشكل تـحـويـري في وضـعـيـة جـانـبـيـة، مـــجـــرّدا مـــن أي تفاصيل مادية توحي بالثقل. الرأس صغير، ويعلوه قــــرنــــان ضـــخـــمـــان مـــقـــوّســـان يــبــلــغــان طـــرف الـظـهـر. العنق طـويـلـة، وهــي كـذلـك مقوّسة، وتــشــكّــل امــــتــــدادا لــلــصــدر الــنــحــيــل. الــقــوائــم الأربــــع ظـــاهـــرة، وهـــي مـــجـــرّدة مــن المـفـاصـل، وتــــبــــدو أشــــبــــه بـــأربـــعـــة خــــطــــوط مـــتـــوازيـــة. قـمّــة الظهر مـدبّــبـة، وتــــوازي فـي استدارتها قوس العنق. يتكرّر هذا التأليف على كأس مـشـابـهـة، حـيـث يــعــود الــوعــل ويــحــل وسـط مساحة مجرّدة غاب عنها القوس المزخرف بـخـطـوط عـمـوديـة. يظهر الـحـيـوان هـنـا مع قرنين طويلين متوازيين حدّدا بشكل مغاير، ويــبــدو وجـهـه أكـبـر حـجـمـا، وعـنـقـه أعـــرض. الحلّة الزخرفية واحـــدة، وتتمثّل فـي ثلاثة شرائط صيغت بشكل مماثل. نقع على كـأس ثالثة تتبع هـذا الطراز الــخــاص، وفيها يـتـحـوّل الـوعـل إلــى عقرب، كما يوحي ذيله اللولبي الكبير الملتف من خلف رأسه. تزيّن قمة هذه الكأس سلسلتان مـــتـــوازيـــتـــان مـــن الــــدوائــــر الــلــولــبــيــة، وتـــزيّـــن قاعدته سلسلة ثالثة مماثلة فـي التكوين. يقف الـعـقـرب بثبات على شـريـط مـكـوّن من ثـاثـة خـطـوط أفـقـيـة مــتــوازيــة، وســـط قـوس عريض زُيّــن بشبكة من الخطوط المتقاطعة على شكل مكعبات صغيرة متراصة. تـــتـــشـــابـــه كـــــــؤوس مــلــيــحــة الــــثــــاث مـن حيث الـتـكـويـن، ويبلغ طــول كـل منها نحو سنتيمتراً. 15 سنتيمتراً، وقطرها نحو 16 تتبع هذه القطع الفخارية طرازا فنيا راسخا في القدم، تحوّل إلى طراز جامع عابر لحدود أقــالــيــم الـــشـــرق الــقــديــم. تــعــود أقــــدم شـواهـد هذا الطراز المعروفة إلى الألفية الرابعة قبل المـيـاد، ومصدرها مدينة شوشان العريقة التي تُعرف اليوم باسم سوسة، وتتبع في زمننا محافظة خـورسـتـان، حيث تقبع في أسفل جبال زاغـــروس، بين نهر دجلة ونهر كرخة ونهر دز. بقي هذا التقليد الفني حيا على مـدى عصور مـن الـزمـان، وبلغ نواحي مـتـبـاعـدة مــن أقـالـيـم الــشــرق الــقــديــم، ودخــل نواحي عديدة من الجزيرة العربية. تـــعـــود كـــــؤوس مـلـيـحـة كــمــا يـــبـــدو إلــى القرن الميلادي الأوّل، وتمثّل من هذا المنظار آخر تجليات هذا الطراز الفني العريق. يأخذ هـــذا الـــطـــراز هـنـا شــكــا مـتـقـشّــفـا مـتـواضـعـا يـخـلـو مـــن الـــرهـــافـــة، غــيــر أنــــه يــحــافــظ على الجاذبية التي تميّز بها أسلوبه في أشكالها المتعدّدة العابرة للأزمان. كؤوس فخارية من موقع مليحة الأثري في إمارة الشارقة محمود الزيباوي ضمن القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية «البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني تستحضر الكاتبة العمانية شريفة الـتـوبـي فــي روايــتــهــا «الـــبـــيـــرق... هبوب الريح»، التي وصلت مؤخرا إلى القائمة ،2026 الـطـويـلـة لــجــائــزة بــوكــر الـعـربـيـة الــــتــــاريــــخ بـــوصـــفـــه عـــنـــصـــرا رئـــيـــســـا فـي مـجـمـل أعــمــالــهــا، مستلهمة الـكـثـيـر من الحكايات التراثيّة، وقـد أُعيد تشكيلها وبث الروح فيها من جديد. تــــســــبــــر الـــــــتّـــــــوبـــــــي، فـــــــي روايـــــتـــــهـــــا الــجــديــدة، وهـــي خـاتـمـة ثـاثـيـة بعنوان البيرق، أغوار السّرد الشفاهي العُمانيّ، وتبحث في دهاليزه وعوالمه عن حكايات تتواءم مع الأفكار التي تريد مشاركتها مع الـقـارئ، مقدمة نموذجا في اشتباك الـروائـي المعاصر مـع التاريخ والمـــوروث الشفاهي. في هذه الرواية الـــــتـــــي صــــــــــدرت هــــذا الــــــــــعــــــــــام عــــــــــن «الآن ناشرون وموزعون»، فــــي عــــمّــــان، وجـــــاءت صفحة، 600 في نحو بـــغـــاف مــــن تـصـمـيـم الــــفــــنــــانــــة الـــعُـــمـــانـــيـــة بدور الريامي، تعود الــــــتّــــــوبــــــي إلـــــــــى تـــلـــك الـحـكـايـات الــتــي كـان يــــرويــــهــــا جــــدّهــــا عـن ذلـــك الــتــاريــخ الـقـديـم لعُمان. تـــصـــوّر الـــروائـــيّـــة فـــي الـــجـــزء الأول مـــقـــاومـــة ســـكّـــان حــــارة الــــــوادي لـلـوجـود الـبـريـطـانـي الـــذي كـــان يـفـرض سيطرته عــــلــــى الــــــبــــــاد، فـــــي خـــمـــســـيـــنـــات الــــقــــرن المــــاضــــي، ومـــنـــاصـــرتَـــهـــم لــحــكــم الإمــــــام، فـي صـــراع غير متكافئ، تمخّضت عنه مـعـانـاة قاسية لأهــل الــــوادي. ولأن هذه الحكاية لم تُذكر في كتب التاريخ، فقد نــســجــت الـــــروائـــــيّـــــة خـــيـــوطـــهـــا، وقـــدّمـــت أبطالها برؤية سردية أضــاءت المناطق المــعــتــمــة فــــي الـــحـــكـــايـــة، مــــازجــــة الـــواقـــع بـالـخـيـال الـفـنـي فـقـدمـت وصـفـا لطبيعة الــحــيــاة الـشـعـبـيـة وتــفــاصــيــل الــعــاقــات الاجتماعية بين الناس. وتتناول التّوبي في الجزء الثاني أحـــــداث الــفــتــرة الــتــي ســمَّــاهــا المـــؤرخـــون «حـــرب الــجــبــل»، الـتـي دارت فــي المرحلة ». إذ تـقـوم حبكة 1959 -1956« الزمنية هــذا الـجـزء على وقــع الـحـرب الـتـي دارت رحــاهــا فــي خمسينات الــقــرن العشرين وسـتـيـنـاتـه، بـكـل مــا دفـعـه الـبـسـطـاء من ثمن وتضحية. وتـــســـتـــكـــمـــل الـــــتّـــــوبـــــي فــــــي الــــجــــزء الثالث «هبوب الرِّيح» أحداث هذا المسار الـــتـــاريـــخـــي الــــــذي شـــهـــد ولادة مــقــاومــة وطــنــيــة ذات تـــوجـــهـــات ثـــوريـــة (قــومــيــة وماركسية)، وهي مواجهة انتهت أيضا إلـى الهزيمة والنكوص لأسباب تتعلّق بــاخــتــال مـــوازيـــن الـــقـــوى بـــن الـطـرفـن. فـــقـــد بــــــدت الــــحــــركــــة الـــوطـــنـــيـــة وكـــأنـــهـــا تــحــمــل مــزيــجــا آيـــديـــولـــوجـــيّـــا أُمــــلِــــي من الـخـارج، ولـم تنتجه خصوصية الواقع الاجتماعي والثقافي العماني. تعتني التّوبي في روايتها الجديدة بالجانب الاجتماعي، بالمرأة، بالعائلة، بـــزوجـــة الـسـجـن أو المــنــاضــل وأمـــــه، في النصف الثاني مـن عمر الـقـرن المـاضـي، وقد سلّطت الضوء على المشاعر الداخلية التي يعيشها ذلـك الإنـسـان الفقير الذي تغرّب في بقاع الأرض، باحثا عن لقمة العيش وعن التعليم، وتفاجأ أن الحياة خـــــــــــارج الــــــــحــــــــدود لا تشبه داخل الحدود. تـحـكـي الـــروايـــة عـــــــن ذلـــــــــك الإنــــــســــــان الــــحــــالــــم بــالــتــغــيــيــر فـــــي مــــرحــــلــــة زمـــنـــيـــة كـانـت تـعـج بـالأفـكـار الـــــــــــثـــــــــــوريـــــــــــة الــــــتــــــي ســــــــــيــــــــــطــــــــــرت عـــــلـــــى مــــــخــــــتــــــلــــــف أنـــــــحـــــــاء الـــعـــالـــم، فــــي مـرحـلـة صـــــــعـــــــبـــــــة عــــــاشــــــهــــــا مجتمعنا العُماني، مـــرحـــلـــة لاقــــــى فـيـهـا الـفـكـر الـشـيـوعـي لـــدى الـشـبـاب الـعـربـي والخليجي قبولا في تلك الفترة، وكان مــــن الـــســـهـــل انــــســــيــــاق هـــــــؤلاء الـــشـــبـــاب المغتربين لهذه الأفكار الجديدة. وتــــرصــــد الــــــروايــــــة الأســـــبـــــاب الــتــي دفــعــت ثـــلّـــة مـــن الــشــبــاب لـانـضـمـام إلـى «الفكر الجديد»، والتي كانت نابعة من حلمهم بالتغيير، فضلا عن أن لكل منهم أسبابه الخاصة به. كما أوجدت الكاتبة في هذا الجزء شخصيات جديدة؛ مثل: «أحـمـد سهيل»، و«عـبـد الـسـام»، و«أبـو ســعــاد»، و«بــاســمــة»، و«طــفــول» الـثـائـرة فــي وجـــه الـــعـــادات والـتـقـالـيـد والأعــــراف والرافضة للاستغلال والتهميش. ويـــــجـــــد المــــتــــلــــقــــي نــــفــــســــه يـــخـــوض فـــي «هـــبـــوب الـــريـــح» تـفـاصـيـل الأحــــداث المـــفـــصـــلـــيـــة كـــمـــا خـــاضـــهـــا الأبـــــطـــــال مـع مـــجـــتـــمـــعـــهـــم وعـــــائـــــاتـــــهـــــم وأنــــفــــســــهــــم، وسيعيش أحداث تلك المرحلة من تاريخ عُـــمـــان، وسـيـعـثـر عـلـى إجـــابـــات لأسئلة حول مصائر الشخصيات التي التقاها فــــي الــــجــــزأيــــن، الأول (حـــــــارة الـــــــــوادي)، والثاني (سراة الجبل). عمان: «الشرق الأوسط» رغب بإنهاء حياته إلى جانبها ثم تزوج بعد رحيلها بقليل إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة قـد تكون العلاقة العاطفية التي جمعت بين كل من الكاتب والمعالج النفسي الأميركي إرفين يالوم، ومواطنته مارلين كونيك، الباحثة في شؤون الأدب المقارن والمرأة والحب، واحدة مـن أنـجـح الـعـاقـات الـتـي جمعت بـن باحثين كــبــيــريــن فــــي الــــقــــرن المـــنـــصـــرم، وبــــدايــــة الـــقـــرن الحالي. على أن ثبات العلاقة بين الطرفين في وجـه الـزمـن لـم يكن ليتحقق لــولا تصميمهما الــــراســــخ عــلــى تـخـلـيـص ارتــبــاطــهــمــا الـــزوجـــي مــن طـابـعـه الـنـمـطـي الــرتــيــب، وجـعـلـه مساحة للصداقة والتكامل الفكري وتشاطر النجاحات والخيبات. الأرجــــــح أن الـــعـــامـــل الـــحـــاســـم فـــي نـجـاح الـــعـــاقـــة بــــن الـــطـــرفـــن المــــولــــوديــــن فــــي مـطـلـع ثـاثـيـنـات الــقــرن المــنــصــرم، والــلــذيــن جمعهما الـــحـــب فــــي ســــن مـــبـــكـــرة، يــتــمــثــل فــــي دعـــــم كـل منهما لـآخـر فـي تحقيق طموحاته وأهـدافـه ومشروعه الفكري والإبداعي. ففي حين عملت مــــارلــــن فــــي جـــامـــعـــة ســـتـــانـــفـــورد الأمـــيـــركـــيـــة، باحثة في شؤون المرأة والحب وتاريخ النساء والأدب المقارن، عمل إرفين في الجامعة نفسها، منصرفا إلى التعليم والطب النفسي والكتابة الـــروائـــيـــة. والأهـــــم فـــي كـــل ذلـــك أن أحــدهــمــا لم يـنـظـر إلـــى الآخــــر بـوصـفـه خـصـمـا أو منافسا ينبغي تـــجـــاوزه، بــل بـوصـفـه شـريـكـا عاطفيا وإبـــداعـــيـــا، ومــحــفــزا عــلــى المـــزيـــد مـــن التنقيب المعرفي والإيغال في طلب الحقيقة. وإذا لـم يكن بالمستطاع التوقف المتأني عند أعـمـال مـارلـن المـهـمـة، وبينها «شقيقات الــــــــدم» و«تــــــاريــــــخ الـــــزوجـــــة » و«مـــــيـــــاد مـلـكـة الــشــطــرنــج»، فـــا بـــد مـــن الإشــــــارة إلــــى أن هـذه الأعـمـال قـد لاقـت رواجـــا واسـعـا فـي أربــع ريـاح لغة 20 الأرض، وتمت ترجمتها إلـى أكثر مـن عـالمـيـة، فيما نــال كتابها الشيق «كـيـف ابتكر الفرنسيون الحب» جائزة المكتبة الأميركية في فرنسا. أما كتاب مارلين المميز «القلب العاشق»، فـــهـــو واحــــــد مــــن أفـــضـــل الـــكـــتـــب الـــتـــي تــصــدت لموضوع القلب، سواء من حيث كون هذا الأخير عاصمة الجسد ومركزه ومنظم شؤونه، أو من حيث اعتباره عبر التاريخ منزل الحب ومقر الـــــروح، والـــدريـــئـــة الــتــي يــســدد إلـيـهـا كيوبيد سهام الحب، وفق الأسطورة اليونانية. ولأنه كـذلـك فقد تـم تكريس دوره العاطفي المـركـزي في مختلف الأديـــان والفلسفات والمجتمعات، واحتفى به الشعراء والفنانون، وبـات الشفرة الموحدة لعيد العشاق وهدايا المحبين. وفيما حـــرص إرفـــن مــن جهته عـلـى اسـتـثـمـار شغفه بـــالـــطـــب الـــنـــفـــســـي فـــــي الانــــغــــمــــاس بــالــكــتــابــة الــــروائــــيــــة، فــقــد آثــــر عــــدم الابـــتـــعـــاد عـــن دائــــرة اختصاصه، ليصدر أعمالا عميقة وفريدة في بابها، مـن مثل «عــاج شوبنهاور» و«مشكلة سبينوزا»، ولينال جوائز عدة أهمها «جائزة سيغموند فرويد للعلاج النفسي». وإذا كـــانـــت روايــــــة إرفـــــن المـــمـــيـــزة «حــن بكى نيتشه» قد حققت قـدرا عاليا من الذيوع والانـــتـــشـــار، فـلـيـس فــقــط لأن مـؤلـفـهـا تـصـدى لأحـــد أبـــرز فـاسـفـة الــغــرب الـنـابـغـن بـالـقـراءة والتحليل، بل لأن ذلك العمل دار على محورين بـــالـــغـــي الأهــــمــــيــــة، مـــحـــور الـــعـــاقـــة الــعــاطــفــيــة الأحـــاديـــة والـيـائـسـة الـتـي جمعت بــن نيتشه والكاتبة الروسية الجميلة على ذكاء مفرط لو سالومي مـن جهة، ومـحـور اللقاء الافتراضي بــــن صــــاحــــب «غــــســــق الأوثــــــــــــان»، الـــــغـــــارق فـي تـــصـــدعـــه الــنــفــســي وآلامـــــــه الـــجـــســـديـــة ويـــأســـه الانـتـحـاري، والطبيب النفسي الـامـع جـوزف بــرويــر مــن جـهـة أخــــرى. وإذ عـثـر عـالـم النفس الـشـهـيـر فــي مـريـضـه الاسـتـثـنـائـي عـلـى واحــد من أبرز فلاسفة الغرب وأكثرهم فرادة وجرأة، فقد عرض عليه صفقة رابحة للطرفين، تقضي بــأن يعمل الطبيب على شـفـاء الفيلسوف من آلام الجسد، فيما يعمل الفيلسوف على شفاء الطبيب من آلام الروح. وفي كتابه «التحديق في الشمس» الذي يستهله بـمـقـولـة دو لاروشــفــوكــو حـــول تعذر التحديق في كل من الشمس والموت، يقدم إرفين لقرائه كل الحجج والبراهين التي يمكنهم من خـالـهـا تــجــاوز مـقـولـة الـفـيـلـسـوف الـفـرنـسـي، والتغلب على رعبهم من الموت بوسائل عديدة ناجعة. وفــي طليعة هــذه الحجج تـأتـي حجة أبيقور ذات المنطق المحكم، ومفادها أن خوفنا مـن المـــوت لا معنى لــه، لأنـنـا لا نـوجـد معه في أي زمان أو مكان، فحيث نكون لا يكون الموت، وحيث يكون الموت لا نكون نحن. ويــطــرح يــالــوم فــي الــســيــاق نـفـسـه فكرة المــــــوت فــــي الــــوقــــت المـــنـــاســـب، وعـــيـــش الــحــيــاة بالكامل، بحيث «لا نترك للموت شيئا سوى قـلـعـة مــحــتــرقــة»، كــمــا فــعــل زوربـــــا الــيــونــانــي. وإذ يــذكّــرنــا المــؤلــف بــقــول هـايـدغـر «إن المــوت الحقيقي هو استحالة وجود احتمالية أخرى» يدعونا في الوقت نفسه إلى فتح أبواب الحياة أمــــــام ضــــــروب كـــثـــيـــرة مــــن احـــتـــمـــالات الـعـيـش وخـــيـــاراتـــه، وعــــدم حـصـر الــحــيــاة فـــي احـتـمـال واحـــد. كما يخصص إرفـــن الـجـزء الـثـانـي من كتابه للحديث عن الجهود الشاقة التي بذلها فـــي مــســاعــدة مـــرضـــاه، بــخــاصــة أولـــئـــك الــذيــن طعنوا فـي المـــرض والـعـمـر، على التخلص من رهاب الموت وفكرة العدم، مشيرا إلى أنه حقق نجاحات ملموسة في بعض الأحيان، وأخفق في أحيان أخرى. إلا أن إصابة مارلين بسرطان نقي العظم بــدت بمثابة الـحـدث الـزلـزالـي الــذي كــان إرفـن يـظـن نفسه بـمـنـأى عـنـه، كـمـا هــو حـــال البشر جميعاً، حتى إذا وقــع فـي بيته وإلـــى جـــواره، بـــدت المـسـافـة بـعـيـدة بــن الـنـظـريـة والتطبيق، وأوشـــــك بـــنـــاؤه الـبـحـثـي عــلــى الـــتـــهـــاوي. وفــي أوج الوضع الحرج للطرفين، اقترحت مارلين على زوجها، وبضربة ذكـاء حاذقة، أن يقوما بمراوغة الكوابيس السوداء للمرض، من خلال القيام بـوضـع عمل ســـردي مشترك، يعرضان فيه ليوميات المواجهة الضارية مع السرطان، فـيـمـا يـتـكـفـل الـعـمـل مـــن نـاحـيـة أخــــرى بحفظ اسميهما وتجربتهما العاطفية المـشـرقـة في ذاكرة الأجيال. وإذا كــانــت أهـمـيـة الـكـتـاب المـــذكـــور الــذي وضــعــا لـــه عـــنـــوان «مــســألــة مـــوت وحـــيـــاة»، قد تـــجـــســـدت فــــي مــــا أثـــــــاره الـــــزوجـــــان مــــن أسـئـلـة وهــواجــس متصلة بقضايا الـحـب والـصـداقـة والـحـيـاة والمــــرض والمــــوت، وصــــولا إلـــى معنى الـوجـود على الأرض، فـإن المفارقة الأكـثـر لفتا لـلـنـظـر فـــي الـــكـــتـــاب، لا تـتـمـثـل فـــي تـنـاوبـهـمـا الـــــدوري عـلـى إنـــجـــاز فـصـولـه فـحـسـب، بـــل في الطريقة الـهـادئـة والعقلانية التي تقبّلت بها الزوجة المريضة فكرة الموت، مقابل حالة الهلع والإنكار التي بدت على إرفين، وهو الذي طالما نصح مرضاه بأن يتقبلوا الزائر الثقيل بروح رياضية وتفكير رصين. وفــيــمــا يــتــابــع الــــزوجــــان فـــي الـــكـــتـــاب ما تكابده مارلين من آلام، وما يطرأ على وضعها مــن تــغــيــرات، يـعـمـدان فــي بـعـض الأحـــيـــان إلـى الهروب مما يحدث على أرض الواقع، عبر نقل المشكلة إلى إطار آخر يتعلق بمشكلات نظرية شائكة، أو الانكفاء باتجاه المـاضـي بحثا عن الأطــيــاف الـــورديـــة لـسـنـوات زواجـهـمـا الأولـــى. كما يتبدل عصب السرد وأسلوبه تبعا لحالة الـــزوجـــة، الـتـي تـقـع فـريـسـة الـقـنـوط الـقـاتـم في بعض الأحـيـان، فيما تـحـاول تـجـاوز محنتها أحيانا أخرى، عبر اللجوء إلى الدعابة السوداء والسخرية المُرة، فتكتب ما حرفيته «إننا نشكل زوجــا جـيـداً، فأنا مصابة بالسرطان النقوي، وهو يعاني من مشكلات في القلب واضطراب الــــتــــوازن. فـنـحـن عـــجـــوزان فـــي رقـــصـــة الـحـيـاة الأخيرة». أما المفارقة اللافتة في الكتاب، فلا تتمثل فــي سـعـي الـــزوجـــة المـتـألمـة إلـــى إنــهــاء حياتها بواسطة ما يعرف بالموت الرحيم، أو بمكاشفة إرفـــن لمـارلـن برغبته فـي إنـهـاء حياته معها، وهو المصاب ببعض أعراض النسيان وبمرض فــي الـقـلـب، بــل فــي رد مــارلــن المـفـعـم بالدعابة والــتــوريــة الـلـمـاحـة، بـأنـهـا «لـــم تـسـمـع فــي كل أنــحــاء أمـيـركـا عــن تــابــوت تـقـاسـمـه شخصان اثــنــان». والأرجـــح أن الـزوجـة المحتضرة، التي ،2019 مـا لبثت أن رحـلـت عـن هــذا الـعـالـم عــام كانت تهدف من خلال إجابتها تلك لأن توصل لـزوجـهـا الـخـائـف على مصيره رسـالـة مبطنة مـفـادهـا أنــه لـن يلبث أن يفعل إثــر رحيلها ما يفعله الرجال في العادة، وهو الارتباط بامرأة أخــــــرى تــخــفــف عـــنـــه أثــــقــــال الـــوحـــشـــة والــعــجــز والــتــقــدم فــي الــســن. ومـــع أن الــــزوج الـثـاكـل قد بـــرر تـراجـعـه عــن فــكــرة الانــتــحــار، بـرغـبـتـه في عدم خذلان مرضاه أو خيانة مسيرته المهنية، فـإن لجوءه بعد رحيل زوجته إلـى الـــزواج من الطبيبة النفسية ساكينو سـتـيـرنـبـرغ، وهـو فـي الثالثة والتسعين مـن عـمـره، كـان سيقابل مــن قـبـل مـــارلـــن، لــو قُــــدِّر لـهـا أن تـعـلـم، بأكثر ابتسامات النساء اتصالا بالحيرة والإشفاق والدهشة الساخرة. إرفين يالوم مارلين يالوم شوقي بزيع العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن الماضي دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky