issue17186

شـــهـــدت الــعــاصــمــة الــبــرتــغــالــيــة لـشـبـونـة نـهـار الثلاثاء التاسع من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، احــتــفــالا بــمــرور عـشـر ســنــوات عـلـى إطــــاق بـرنـامـج الـــزمـــالـــة الـــدولـــيـــة لــــ«مـــركـــز المـــلـــك عــبــد الـــلـــه بـــن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات» (كايسيد)، والبرنامج قد بدأ رحلة غنية وثرية عام .2015 أطلق «كايسيد» هذا البرنامج انطلاقا من قناعة راسخة بـأن السلام المستدام يجب أن يكون شاملاً. فعلى الرغم من أن السياسات الأممية مهمة وفاعلة في تخليص العالم من الحروب والنزاعات، فإنه من دون أصوات أولئك الأقرب إلى الواقع اليومي، يبقى السلام ناقصاً. جاءت هذه المناسبة -كما أشار إلى ذلك الأمين الــعــام المـكـلـف لــ«كـايـسـيـد» الـسـفـيـر أنـطـونـيـو ألمـيـدا ريبيرو- لتذكِّر بالكيفية التي أعاد مجتمع عالمي من زملاء «كايسيد» بها تشكيل طريقة ممارسة الحوار، وفـهـمـه ودمـــجـــه فـــي نـسـيـج بــنــاء الـــســـام فـــي جميع أنحاء العالم. وأقـر القائمون على «كايسيد» منذ ذلك الوقت بأن الحوار يجب أن يكون متبادلاً، وأن يدعم الجهات الفاعلة المحلية، حتى يسهم فـي صنع الــقــرار على المستويين الوطني والدولي، حسب السفير ريبيرو. لمـــــاذا يـنـبـغـي عـلـيـنـا الــنــظــر بــأهــمــيــة إلــــى هــذا الحدث؟ باختصار؛ لأنه يعبر عن رؤية أصحاب النوايا الطيبة فـي «مـركـز المـلـك عبد الـلـه الـعـالمـي لـلـحـوار»، مــن مجلس أطـــــراف، وأصـــدقـــاء مـخـلـصـن، وشـركـاء داعـــمـــن، وشـــبـــاب مـقـبـلـن بــــروح الـــصـــدق والـــوفـــاء، بـهـدف تغيير أحـــوال عـالـم يـــزداد عنصرية وتطرفا يوما تلو الآخر. بــــدا بــرنــامــج زمـــالـــة «كــايــســيــد» خــــال عـقـد من الزمان كرسالة تذكير قوية بما يمكن تحقيقه عندما تُبنَى الثقة، وتقود المجتمعات عقول واعية صادقة، تنقل الحوار من مجرد فكرة نظرية في العقول إلى واقع ملموس ومحسوس على الأرض. في عشرية برنامج الزمالة لـ«كايسيد»، تألقت عضوا ً، 555 في الأفق وجوه شابة بلغت اليوم نحو دولة، تنوعت انتماءاتهم الوظيفية، ما بين 100 من معلمين، وعلماء ديــن، وقــادة من الشباب والنساء، وأئمة، ورهبان، وقساوسة، ومربين، ومبتكرين في المجتمع المدني، وبناة مجتمعات. جميعهم أظهروا القوة التحويلية للحوار بين أتباع الأديان والتقاليد المتعددة والمختلفة، وليس بالضرورة المتصارعة أو المتنازعة. أحسن الأمين العام المكلف حين أوضح الصورة الـكـامـلـة لـحـصـاد الـسـنـوات الـعـشـر، والـــــدروس التي انبثقت من ثنايا التجربة النافعة، وفي مقدمتها أن السلام يتجذر دوما من القاعدة، ولا يتأتى بقرارات فوقية سلطوية. كما أن القادة الممكنين هم القادرون على إحداث تغييرات جذرية في عموم الأنظمة حول العالم. عطفا على مـا تـقـدم، بيَّنت العشرية المنصرمة أهمية الحوار كمفهوم ومنطلق تحويلي، قادر على تعديل الأوضــاع وتبديل الطباع، وفي الوقت نفسه فـإن الـسـام يـزدهـر مـن خـال الشبكات والتحالفات ومجتمعات الممارسة، كما أن الشراكة تضاعف الأثر الإيجابي الخلاق. من أين انبثقت رؤية وفكرة هذه الزمالة؟ هــــذا مـــا تـضـمـنـتـه كـلـمـة الأمـــــن الـــعـــام الأســبــق الـــســـيـــد فـــيـــصـــل بــــن مـــعـــمـــر، الـــــــذي جـــــرى فــــي عــهــده إطـاق البرنامج، من خـال قناعة تؤمن بـأن السلام الحقيقي لا تصنعه المصالح السياسية ولا الأهواء؛ بل يرسخه أفراد ومجتمعات تلتقي على قاعدة الثقة المتبادلة، فتحول الـحـوار إلـى ممارسة حية تنبض بها تلك المجتمعات. يقطع السيد فيصل بن معمر بـأن خبرة زمالة «كـايـسـيـد» قــد نجحت بشكل رائـــع فــي تـقـديـم رؤيــة لـعـالـم مـغـايـر، عــالــم تلتقي فـيـه الأديـــــان والـثـقـافـات المــتــنــوعــة، لـشـبـاب آمـــنـــوا بـــأن الـــحـــوار الـديـنـامـيـكـي يصنع المستحيلات، ولهذا جـسَّــدوا نماذج مضيئة فــي بـنـاء الـجـسـور داخـــل بـيـئـات صـعـبـة، ومـتـوتـرة، وابتكروا منصات ومناهج، وابتدعوا آليات وساطة، وعـمـمـوا مـــبـــادرات شـبـابـيـة ونـسـائـيـة، ووقـــفـــوا إلـى جانب المتضررين من العنف، وأسهموا في تعميق الفهم المشترك بين مجتمعات متباعدة. أمــــا الـقـيـمـة الــكــبــرى والأعـــمـــق لـــهـــذا الـبـرنـامـج -حسب السيد بن معمر- فهي أنه لم يُخرِّج متدربين فـحـسـب؛ بـــل قــــادة أيـــضـــا، يـحـمـلـون روحــــا إنـسـانـيـة متوقدة، يبنون الثقة بصبر، ويدافعون عن الكرامة الإنسانية؛ حيثما وُجـدوا، بإيمان بأن الحوار ليس وسيلة فحسب؛ بل غاية إنسانية رفيعة. بعد عشر سنوات من زمالة «كايسيد» للحوار، يـــتـــضـــح وبـــــجـــــاء أن الـــــحـــــوار بـــــن أتـــــبـــــاع الأديـــــــان والـــثـــقـــافـــات، ولا ســيــمــا فــــي عـــالـــم يـــمـــور بـضـجـيـج مـــفـــزع مـــن الــشــوفــيــنــيــات والـــقـــومـــيـــات، أمــــر لـــم يعد بمثابة ترف فكري ولا لقاء بروتوكولي؛ بل أضحى يمثل مرحلة تحول حقيقية تعيد تشكيل مسارات الفهم والـتـقـارب بـن الشعوب. وقـد أثبتت التجربة الـعـمـلـيـة لــ«كـايـسـيـد» أن الـــحـــوار حــن يــكــون فـاعـا ورصينا يصنع أثــرا ملموسا فـي المجتمعات، فهو يـعـزز الـتـعـايـش، ويـبـدد ســوء الـفـهـم، ويـرسـخ القيم الإنـــســـانـــيـــة المــشــتــركــة الـــتـــي تـــتـــجـــاوز حـــــدود الــديــن والجغرافيا والثقافة. هل كان «كايسيد» رؤية تنبؤية بمستقبل سلام العالم؟ قطعا كان خطوة في طريق صناعته. Issue 17186 - العدد Wednesday - 2025/12/17 الأربعاء بـــــــعـــــــد الــــــــــحــــــــــدة فــــــــــي المـــــــــواقـــــــــف الأميركية، وتراجُع نوعي لاحتمالات التسوية الحافظة كرامة كل أطرافها (الأطـــلـــســـي مـنـهـا والـــــروســـــي)، بـاتـت ضــــرورات الأمـــان والاسـتـقـرار الـدولـي مــــــن الــــقــــطــــب إلــــــــى الــــقــــطــــب تــتــطــلــب المــســعــى المـسـتـنـيـر لـعـقـد قــمــة لــرمــوز الـــصـــراع المـخـيـفـة احـــتـــمـــالات تَـــطـــوره إلــــى مـــواجـــهـــة، وبــــالــــذات بــعــدمــا رفــع الــرئــيــس الـــروســـي مــنــســوب الـتـحـدي 27 أواخــــر الـشـهـر المــاضــي (الـخـمـيـس ) من 2025 » نوفمبر «تـشـريـن الـثـانـي خلال قوله: «مِن المهم ضمان اعتراف المــجــتــمــع الــــدولــــي بــمــكــاســب روســـيـــا فــــي أوكــــرانــــيــــا، ويـــجـــب عـــلـــى الـــقـــوات الأوكـــرانـــيـــة الانــســحــاب مـــن الأراضــــي التي تحتلها ثم يتوقف القتال، وإذا لـــم تـــغـــادر فــــإن روســـيـــا سـتـحـقـق ذلـك بوسائل قواتها المسلحة». وزيـــــــــــادة فـــــي الــــتــــحــــدي المــــقــــرون بــالــتــنــبــيــه قـــــــال: «إن قـــــــوات روســـيـــا تــتــقــدم بـــوتـــيـــرة أســـــرع عــلــى الأرض، وهـــنـــالـــك الــبــعــض يــطــالــب بـمـواصـلـة الـقـتـال حـتـى آخـــر أوكـــرانـــي، وروسـيـا مستعدة لذلك». ومقصود بهذا الكلام دول حلف الأطلسي التي تعزز شأن أوكــرانــيــا معنويا وتسليحا بغرض أن تـــتـــراجـــع روســــيــــا الــبــوتــيــنــيــة عـن مــطــالــبــهــا الـــتـــي تـــحـــتـــاج إلـــــى تـبـريـد درجـــة الـسـخـونـة فـيـهـا، والــتــي تشبه سخونة تحديات الرئيس ترمب إزاء فـــنـــزويـــا، ثـــم يـــأتـــي فـــي الـــيـــوم نفسه تنبيه بابا الفاتيكان ليو الرابع خلال زيـارتـه إلـى تركيا بقوله: «فـي أعقاب حـــــربـــــن عـــالمـــيـــتـــن نـــشـــهـــد فــــتــــرة مـن الصراع العالمي الحاد، وتهيمن عليها اســـتـــراتـــيـــجـــيـــات الــــقــــوة الاقـــتـــصـــاديـــة والـــعـــســـكـــريـــة، وهــــــذا يــمــهــد الــطــريــق لحرب عالمية ثالثة ثم على مراحل». وعندما قام بعد تركيا بزيارته الأولى للبنان، كــرر بـابـا الفاتيكان التنبيه على ما قد ينشأ عن الصراع العربي - الإسرائيلي من حرب إقليمية تتطور إلى حرب عالمية. هــــــــذه الـــــحـــــالـــــة مــــــن الــــتــــحــــديــــات الـتـي يـتـزايـد مـنـسـوب عـنـاد رمـوزهـا تستوجب قمة عالمية. وفـــــي الــــعــــودة إلـــــى مــــا حــــــدَث مـن تـهـدئـة مـتـدرجـة ونسبية فــي مـواقـف أطــــــــــراف دولــــــيــــــة، وبـــــــالـــــــذات المــــوقــــف الـــــروســـــي - الأطــــلــــســــي، والـــــروســـــي - الأمــيــركــي، يـصـبـح مــن المـــأمـــول جمْع رمـــوز المِـــرجـــل الـــذي مــا زال فــي بـدايـة سخونته، وبحيث لا يصل إلى درجة الغليان فالفوران، ثم مواجهات جوية أو أرضـــيـــة أو شــامــلــة، ثـــم إلـــى درجـــة الاحتراب. وفــــــــي ضــــــــوء هــــــــذه الـــــصـــــراعـــــات المـــقـــرونـــة بــأعــلــى درجـــــات الـتـحـديـات والــــتــــهــــديــــدات، فـــــإن قـــمـــة أمـــيـــركـــيـــة - روســـيـــة - فـنـزويـلـيـة، مـــع دول أخـــرى لـتـهـدئـة الـــوضـــع، وإيـــجـــاد حــل عاجل لــهــذه الـــحـــرب المــــدمــــرة، أمــــر فـــي غـايـة الأهمية. وانــعــقــاد مـثـل هـــذه الـقـمـة حاجة مـلـحـة لـكـل المـــشـــاركـــن؛ كـــون الأزمــــات الاقــتــصــاديــة تـتـفـاقـم فـــي مـعـظـم هـذه الــــــدول، فـــضـــا عـــن اضـــطـــراب أســــواق النفط والغاز، كما لجوء كبار الشأن الـدولـي إلـى إجـــراءات اقتصادية غير مسبوقة بهذه الـحـدة، خصوصا في الولايات المتحدة، وفي بريطانيا التي تعيش تداعيات ضرائبية كما فرنسا، وبـطـبـيـعـة الـــحـــال مـعـظـم دول الـعـالـم الـــثـــالـــث الـــتـــي تــتــطــلــع شــعــوبــهــا إلـــى انـفـراجـات دولـيـة مـن شأنها تحقيق انفراجات معيشية. ويـــبـــقـــى فـــرصـــة اســـتـــبـــاق مــــا هـو أعظم؛ أي المواجهات التي إذا بدأت في قـارة فستكون سائر الـقـارات الخمس أطرافا اضطرارية فيها بشكل أو آخر. قبل عـام، وفـي مثل هـذا اليوم، كنت قد نشرت في هذه الصحيفة «الشرق الأوسط» مقالا أشبه برسالة إلى الحكومة الجديدة في سوريا، باركت فيها انتصار الشعب السوري. في غمار النشوة بالإنجاز التاريخي وفتح صفحة جديدة تتناسب وتضحيات السوريين. أشــــرت فـيـهـا إلــــى أن ســـوريـــا تــقــف عــلــى مــفــتــرق طـــرق، وبعد مــرور عـام كامل حافل بإنجازات ونجاحات، ما زالت الــتــحــديــات كــثــيــرة وصــعــبــة. ومــــن ثــــم يــبــدو مـــن الـــضـــروري لـلـسـوريـن و بـكـل أطـيـافـهـم – وفـــي مـقـدمـتـهـم قــيــادة الـبـاد - أن يــــأخــــذوا زمـــــام المــــبــــادرة، وأن يـنـطـلـقـوا مـــن حـقـيـقـة أن سوريا اليوم، أمام مرحلة وفرصة تاريخية تؤهلها لتقرير مصيرها، واستكمال استحقاقات هذا النصر ليصبح واقعا ينعكس في دولة مؤسسات تبنيها الكفاءات السورية. فـــي المــقــالــة ذاتـــهـــا، ومــــن واجــــب الـــحـــرص عــلــى ســوريــا وشعبها، لخصت آلـيـات ملامح المرحلة الانتقالية، مشيرا إلى أن الوضع الجديد سبق أن مرت به تونس ومصر وليبيا وغـيـرهـا مـن الـبـلـدان. إلا أن الـوضـع الــســوري مختلف؛ فهو أعقد وأكثر اشتباكاً، ولن تكفي نشوة السوريين بالانتصار لمـواجـهـة المـحـظـور، الـــذي تعمل عليه قـــوى لا تـريـد لسوريا ســـوى تـحـقـيـق مـصـالـح مـــحـــدودة، بـغـض الـنـظـر عـــن وحـــدة البلاد وتطلعات أبنائها للحرية والعدالة. لقد أصبحت مسألة بناء مؤسسات الدولة السورية، مع دخول المرحلة الانتقالية عامها الثاني، مطلب حق وضرورة، بعد أن ارتـــوت الأرض الـسـوريـة بـأنـهـار مـن دمـــاء الـشـهـداء، وعـــرف الـشـعـب الـــســـوري كــل ألــــوان المـــآســـي، مــــرورا بظلمات السجون والتعذيب والزلازل المدمرة، وانتهاء بشظف العيش وانقطاع المياه والكهرباء وسائر المرافق، والنزوح، واللجوء إلى شتى بقاع الأرض، ناهيك بكم الدمار الـذي لحق بالمدن والــقــرى. قبل عـــام، كنت قـد أشـــرت إلــى أن نـظـام الأســـد الـذي أجـبـر على مـغـادرة الـبـاد، نجح وأجـهـزتـه الأمنية القمعية نجاحا منقطع النظير في أن يجعل الشعب السوري، يستقبل أي قيادة بديلة بالزهور، فقد طال انتظار السوريين للحرية. وما شاهدناه قبل عام من مظاهر الترحيب بالثوار وقادتهم كرد فعل طبيعي وعفوي، هو الترحيب ذاتـه، والاحتفالات، التي نشهدها اليوم بمرور عـام على التغيير، تعكس مزاج السوريين وتطلعاتهم. الحقيقة، أنني كنت على مدى سنوات من القريبين جدا من الملف السوري بكل تعقيداته، وشاركت في مفاصل مهمة مختلفة في توجيه رسائل مباشرة إلى النظام السوري، ولم تنقطع رسائلي ودعــواتــي السابقة إلــى ضـــرورة وضــع آلية هادئة للانتقال السلمي، كما خاطبته مـــراراً، بأنه قد يدفع ثمنا باهظاً، وقـد يصل إلـى خــروج روسـيـا مـن سـوريـا، بما في ذلك قواعدها، غير أنه كان مأخوذا بعقلية المنتصر التي أعمت بصره. ومـــع أن الــضــبــاب لــم ينقشع تـمـامـا بـعـد عــن تفاصيل العملية الـتـي جــرى بموجبها فـــرار الأســـد مـن المـشـهـد، لكن الأكيد أن روسيا نجحت للمرة الثانية في أن تُجنِّب سوريا وشعبها نير الحرب الأهلية الواسعة. المـرة الأولـى عندما نجحت في التوصل إلى وقف النار وخــــروج قـــوات المــعــارضــة الـتـي كـانـت تـحـاصـر دمـشـق نحو إدلب. وهو خيار كان يبدو صعبا عليها، لكن الأحداث أثبتت لاحقا صوابه، خصوصا أن موسكو واجهت معارضة شديدة مــن جـانـب الــنــظــام، وكــانــت قـــوات «الــفــرقــة الــرابــعــة» تستعد للانقضاض على القوات المنسحبة. ولو قدر لتلك المواجهة أن تقع لكانت العاصمة الـسـوريـة شـهـدت أحــداثــا دمـويـة لا مثيل لها. المــــرة الـثـانـيـة عـنـدمـا تـدخـلـت روســـيـــا، بـشـكـل مـبـاشـر، خلال معركة ردع العدوان، لمنع الطيران السوري من التحليق نحو حلب، بينما كانت وزارة الـدفـاع السورية تبث أخبارا غير صحيحة حول عمليات «مشتركة» ينفذها الطيران ضد الـقـوات الـزاحـفـة. علما أن الطيران الـروسـي لـم يـشـارك بتاتا في جميع مراحل العمليات العسكرية التي قام بها مسلحو المعارضة. لقد كانت البيانات التي صدرت عن قائد «هيئة تحرير الشام» تتعارض والصورة التي رسمها البعض له بوصفه شخصا تكفيرياً، ونحن في روسيا نظرنا إلى ما هو واقع، بالنظر إلـى رغبة الشعب الـسـوري فـي الـخـاص مـن النظام الـــذي رحـــل، بـغـض الـنـظـر عــن هـويـة قـــادة ســوريــا الـجـديـدة، لأنها بالنهاية سوف تعكس إرادة السوريين. لقد تلقينا البيان الذي أصدرته «هيئة تحرير الشام»، والـذي تضمن رغبة قوات المعارضة في المشاركة مع روسيا فـــي بــنــاء ســـوريـــا المـسـتـقـبـل، وأوعــــــزت مــوســكــو لــذلــك بـعـدم الـتـصـدي للفصائل المسلحة خـــال تقدمها للسيطرة على أهم المدن السورية، ما أسفر عن نجاح عملية ردع العدوان، مـن دون الانـــزلاق نحو اقتتال واســـع. وبالفعل فقد أسفرت التطورات عن انتقال الحكم لقوات المعارضة السورية بشكل سلمي. بالتزامن مع إخراج بشار والمقربين منه من دمشق. ولا شك في أن الزمن وحده، سيحكم على مصير سوريا وقــــادة المـرحـلـة الانـتـقـالـيـة الـحـالـيـة الــذيــن يــواجــهــون حاليا تحديات غير مسبوقة. منذ عـــام، وبـعـد مـــرور أسـبـوع واحـــد على رحـيـل نظام بشار، وقبل وقوع أحداث الساحل والسويداء، برزت دعوات للقيادة الانتقالية في سوريا بضرورة توجيه رسائل طمأنة لـلـمـجـتـمـع الـــســـوري بــكــل مــكــونــاتــه. ورغــــم أن الـــوضـــع على هــذا الصعيد، مـا زال إلــى حـد بعيد مطمئناً، لكن يبدو من الضروري الانتقال من الصورة الإعلامية المشرقة، إلى أفعال وإجراءات على أرض الواقع. بـنـاء عـلـيـه، وبينما يعكس المـشـهـد الــســوري حـالـة من الـــجـــدل، أتـــوجـــه، بـعـد عـــام مـــن الانــتــصــار الـــســـوري، ببعض الملاحظات إلى القيادة السورية وعلى رأسها الرئيس أحمد الشرع، منطلقا من أهمية التعامل الإيجابي مع النقد البناء الــــذي تـحـتـاج إلــيــه المــرحــلــة الانـتـقـالـيـة. والمــقــصــود هـنـا هو مواجهة بعض الأصوات التي غايتها فقط النيل من الحكومة الجديدة، وتعمل على نشر حالة من التشويش في الخارج، ومـنـهـا بـعـض الـشـخـصـيـات الــســوريــة، بــهــدف تـقـويـض ثقة السوريين وأملهم في إمكانية تعافي سوريا، خصوصا في مرحلة حساسة تمر بها البلاد. وفي هذا الإطار قد يكون من المفيد الإشـارة إلى أن قوة أي دولة، تكمن، في تمكين البيت الداخلي وتقوية المؤسسات. ولا شــك أن المــؤســســات الــســوريــة الـــيـــوم، تـعـانـي مــن ضعف بسبب نقص الـكـوادر التي أبعدها النظام السابق، وتصل أعــدادهــا إلــى مـئـات الآلاف مـن الأكـاديـمـيـن، ورجـــال الـدولـة، والخبرات، وحملة الشهادات العليا، الذين ما زال كثير منهم خـارج البلاد، وقد عاد آلاف لكنهم واجهوا الإهمال، ومنهم من سعى للعودة منذ الأيـام الأولـى للتحرير لكنهم صدموا بعبارة «لحين تسوية أوضاع المنشقين». إن الــســبــيــل الـــوحـــيـــد لإخـــــــراج ســــوريــــا مــــن أوضـــاعـــهـــا الـصـعـبـة، وانــتــشــال شـعـبـهـا مـــن حــالــة الـفـقـر يــبــدأ بتفعيل مــؤســســات الـــدولـــة الـــســـوريـــة، ورغــــم الــجــهــود الـكـبـيـرة الـتـي تبذلها الـقـيـادة الـحـالـيـة، لـكـن مــن الـنـاحـيـة العملية، يمكن الــقــول إن مـؤسـسـات الــدولــة مــا زالـــت شـبـه مـشـلـولـة، بسبب نقص الكوادر والخبرات، وهذا ينطبق أيضا على المؤسسة العسكرية الـتـي تـبـدو أيـضـا بـحـاجـة مـاسـة إلـــى عـــودة آلاف الكوادر، للإفادة من خبراتهم لبناء الجيش السوري مجدداً، وتأهيله لحماية حدود الوطن، وتحقيق الأمن والاستقرار، والسيادة السورية. إنني على ثقة تامة بأن القيادة الحالية تحظى بتأييد جـمـاهـيـري واســــع، ولــكــن مــن دون اتــخــاذ الإجــــــراءات الآنـفـة الـــذكـــر، ســيــكــون مـــن الــصــعــب تـحـسـن الأوضــــــاع فـــي جميع المجالات، فإلغاء العقوبات الاقتصادية على أهميته، لا يكفي من دون تفعيل مؤسسات الدولة بالشكل المهني. فــــي المـــقـــابـــل، مــــا زالــــــت الــــدولــــة الـــســـوريـــة بـــجـــاجـــة إلـــى تشريعات وقـوانـن واضـحـة لضبط عمل مؤسسات الدولة وموظفيها، لذلك لا بد من الإسراع بتشكيل مجلس النواب، والعمل أيضا على تشكيل لجنة دسـتـوريـة مـن المختصين، تبدأ بصياغة الدستور السوري المستقبلي، قبل عرضه على الاستفتاء العام لاحقاً. - إن تــمــكــن الـــخـــطـــاب الـــثـــقـــافـــي والإعـــــامـــــي الــرســمــي يـشـكـل المــقــدمــة لـتـوحـيـد الـــســـوريـــن، وإعــــــادة وجــــه ســوريــا الــثــقــافــي والمـــتـــنـــوع تــاريــخــيــا، فـــي مــواجــهــة حــالــة الانــقــســام والكراهية والخطاب الطائفي التي تتصدر وسائل التواصل الاجتماعي، وتتسلل بطريقة أو أخــرى إلـى وسـائـل الإعـام الرسمية. - لقد نجحت تجربة البناء في إدلب كنموذج في إدارة شـؤون المحافظة سابقاً، رغـم الظروف الصعبة والاخفاقات الــتــي عــانــت مـنـهـا فــي بـعـض المـــجـــالات، ولــكــن هـــذا لا يعني الــقــدرة على اخـتـصـار سـوريـا فـي تجربة إدلـــب؛ لـذلـك تبدو مهمة الانـتـقـال مــن عقلية الـجـمـاعـة إلـــى عقلية الــدولــة بكل مكوناتها أمــرا لا مفر منه لإحـــراز النجاح المطلوب للقيادة الجديدة والمرحلة الانتقالية. - وفـــــي إطــــــار الـــتـــحـــديـــات الـــخـــارجـــيـــة مــــا زال المـــوقـــف الإسرائيلي مصرا على إعادة رسم خريطة سوريا والتلويح بإدخالها في انفلات أمني، مع الأخذ في الاعتبار بأن سوريا تـــواجـــه حـــالـــة مـــن الــضــعــف، كـنـتـيـجـة طـبـيـعـيـة فـــي المـــراحـــل الانتقالية. وعلى الرغم من الدور المهم للدبلوماسية السورية التي نجحت في توسيع الانفتاح الدولي على سوريا، لكن لا يمكن تجاهل السباق الـدولـي والإقليمي القائم لتحقيق مكاسب في منطقة استراتيجية كسوريا، الأمر الذي يتطلب الـتـعـامـل مــع الأطــــراف المختلفة مــن خـــال مـؤسـسـات الـدولـة وتوجيه القرار السوري الخارجي في إطار العلاقات الدولية والقانون الدولي. - ما زلنا ننظر بثقة واسعة إلـى التعاون الــذي أظهره بحق العالم العربي والمجتمع الـدولـي مع تحديات نهوض سوريا الجديدة بوصفها دولة مستقرة ذات سيادة. بعد أن كتب شعبها بـدمـائـه، ومعاناته، وصـبـره، حـروفـا مـن ذهب في التاريخ السوري، وهو اليوم أمـام استحقاق قطف ثمار التضحيات، عبر بناء دولة تعكس هوية وثقافة السوريين، وحقهم في رسم نظام الحكم وشكل الدولة الحرة المستقلة. بــنــاء عـلـى مـــا تـــقـــدم، وانــطــاقــا مـــن الـثـقـة الـكـامـلـة بـأن سوريا لن تسقط في هاوية المواجهات الداخلية، وستعبر مرحلتها الانتقالية، التي ستحدد عودة سوريا إلى مكانها الطبيعي في الإقليم والعالم، فقد كررنا مــراراً، بأن السلطة الحقيقية الــيــوم أصـبـحـت بـيـد قــيــادة ســوريــة، وأكــــرِّر ثقتي العالية بالقيادة التي تلبي طموحات الشعب السوري، ومن الضروري لكل الأطـراف أن تنطلق من أنها السلطة الواقعية والحاكم الفعلي للبلاد، وليس أمام السوريين بكل أطيافهم إلا التعامل مع هذه الحقيقة، لبناء دولتهم يدا بيد. هذه الحالة من التحديات التي يتزايد منسوب عناد رموزها تستوجب قمة عالمية فؤاد مطر رامي الشاعر إميل أمين OPINION الرأي 14 رسالة إلى الرئيس الشرع ورفاقه في القيادة السورية قمة تستبق الأعظم «كايسيد»... الحوار هو الخيار

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky