issue17185

الثقافة CULTURE 18 Issue 17185 - العدد Tuesday - 2025/12/16 الثلاثاء أربعون عاما على رحيل صاحب «الأقل انخداعاً» الفكر يسبق السياسة ويعلو عليها وليس العكس لاركن... شاعر أحبه الناس واختلف عليه النقاد «الملك فولتير» في مواجهة «ملك الشمس» لويس الرابع عشر مــرت قبل أيـــام الــذكــرى الأربــعــون لرحيل الـــشـــاعـــر الإنـــجـــلـــيـــزي فـيـلـيـب لاركـــــن عـــن ثــاث ). وهـــو يـعـتـبـر من 1985-1922( وســتــن سـنـة أحـب الشعراء الإنجليز شعبياً، لكن النقد ما زال مـنـقـسـمـا حــــول شـــعـــره، وشــخــصــه أيــضــا، كما أن الدراسات النقدية عنه، سلبا وإيجاباً، لم تتوقف منذ رحيله، وهناك دوريـة منتظمة تـحـمـل اســـمـــه، وكـــذلـــك يـنـتـصـب تــمــثــال لـــه في كنغستن أبون هول، حيث عمل ومات. كــــل هــــــذا الـــحـــضـــور الـــكـــبـــيـــر فــــي المــشــهــد الــشــعــري الــبــريــطــانــي، والـــعـــالمـــي أيـــضـــا، وهــو لــم يـصـدر ســـوى أربـــع مـجـمـوعـات شـعـريـة في حـيـاتـه، ويـمـكـن اعـتـبـارهـا ثــاثــا، فمجموعته الأولــــــى لـــم تــنــل أي اهـــتـــمـــام يـــذكـــر، ولــــم يلفت الانـــتـــبـــاه الــنــقــدي إلا بــعــد مـجـمـوعـتـه الـثـانـيـة «الأقــــــل انـــخـــداعـــا»، الـــتـــي اعــتــبــرت عــلــى نـطـاق واســـع مـن أهــم المجموعات الشعرية الـصـادرة .1955 في سنة ومع ذلك، لم يختلف نقاد حول شاعر كما ،2011 اختلفوا حول لاركـن. في كتابه الصادر «فيليب لاركـن: قصائد»، يقول الروائي مارتن آمــس، ابــن الشاعر والــروائــي كينغسلي آمـس، الذي كان صديقا حميما للاركن: «كانت هناك محاولات للتقليل من مكانة لاركـن، لكنه لا يزال هنا، ولا تزال أعماله تُقرأ، ولا يزال عنصريا وكارها للنساء بشكل واضح (وإن لم يكن في القصائد)». وهو محق. فكثيرا مـا يـحـاول الـنـاقـد والـشـاعـر تــوم بـولـن، مثلاً، تشويه سمعة لاركن الشعرية استنادا إلى عدد قليل من رسائله الخاصة، بينما يرى غراهام هـــولـــدرنـــس أن شـــعـــر لاركــــــن «شـــعـــر بــســيــط»، ويــــذهــــب أبـــعـــد مــــن ذلـــــك مــعــتــبــرا إيــــــاه «شـــعـــرا تمثيليا مستندا إلى فلسفة الشعر الإنجليزي المميزة: التجريبية». وبــــالــــتــــالــــي، يـــســـتـــنـــتـــج خــــطــــأ أن لاركـــــن «يــكــتــفــي بــــرؤيــــة ســـطـــح الـــحـــيـــاة ومـــحـــاكـــاتـــه، رافــضــا الـتـعـمـق فــي الـفـكـر أو فــي بـنـيـة لغوية جديدة لاستكشاف أعماق وتعقيدات التجربة أو الكلمات». ويجادل والين بأن لاركن «شاعر مـــبـــاشـــر»، لـــكـــنـــه، يـــنـــاقـــض كـــامـــه بـــعـــد قـلـيـل، ناسبا لشعره بعض العناصر الميتافيزيقية الـغـامـضـة. وهـاجـمـت جـيـرمـن غــريــر، الكاتبة «النسوية» الأسترالية، لاركـن بشدة بعد نشر رســائــلــه المـــخـــتـــارة، قــائــلــة إن شــعــره «بـسـيـط، وشعبي وعامي»، وإن «الموقف الذي يعبر عنه» معاد للفكر، وعنصري، وجنساني، وذو وعي طبقي فاسد». أما بالنسبة لجيمس وود، فلاركن «سجل صـغـيـر لـــإحـــبـــاط... بـــيـــروقـــراطـــي الإحــــبــــاط»، بينما يـعـتـبـره كــل مــن بـــرايـــان أبــلــيــارد وبيتر أكرويد شاعرا إقليمياً. مــن جـانـبـه، كـتـب أنــــدرو دنــكــان أن لاركــن «محبط، بارد، ممل، يفتقر إلى الموهبة الأدبية، ولم ينجح أبدا في كتابة قصيدة جيدة». يمكن تسمية هـــذا الـنـقـد بــ«نـقـد السيرة الـــــذاتـــــيـــــة»، إذا اســـتـــخـــدمـــنـــا مـــصـــطـــلـــح جـــون أوزبـــــــــورن، الـــــذي «يـــفـــتـــرض أن حـقـيـقـة الأدب تكمن في إخلاصه للتجربة المعاشة للكاتب». ويشير أوزبـورن أيضا إلى أنه من بين عشرين إلى ثلاثين كتابا نقديا ونحو ستين مقالا قيّما عن لاركـن، فإن أكثر من تسعين في المائة منها يستخدم منهج السيرة الذاتية. عـــلـــى مـــســـتـــوى الـــنـــقـــد الأدبــــــــــي، يـمـكـنـنـا تقسيم هـــذا الـنـقـد إلـــى نـوعـن رئـيـسـيـن: يـرى النوع الأول أن لاركـن شاعر مفتون بالحرمان والـــوحـــدة والــخــســارة، الـتــي تـقـتـرب مــن الـعـدم أو الــســلــبــيــة عـــلـــى الأقـــــــل. ويـــفـــشـــل هـــــذا الـنـقـد فـــي رؤيــــة أن الــحــرمــان بـالـنـسـبـة لـــاركـــن، كما قـــال مــــرة، هــو مــا كــانــت عـلـيـه أزهــــار الـنـرجـس بـــالـــنـــســـبـــة لــــــــــــــوردزورث. إنــــــه مــــفــــروض ذاتـــيـــا كوسيلة للتسامي، كما سنبين، والـهـروب من عــالــم الاســـتـــهـــاك، ومـــحـــاولـــة لـفـصـل الــفــن عن المجتمع، والـذات عن الآخرين. إنه ليس نتاجا لاضطراب نفسي، ولا كراهية للنساء، أو مرض نرجسي أو عـدم ارتـيـاح يشعر به تجاه شكله الجسماني، كما يوحي بعض النقاد، بـل هو نـــتـــاج تـــأمـــل فـــي الــــــذات، وفــــي تـــدهـــور مجتمع وثقافة ما بعد الحرب، والشيخوخة والموت. الــنــوع الـثـانـي مــن الـنـقـد ينظر إلـــى شعر لاركن على أنه غامض ومتناقض، ويشير إلى وجود «شخصيتين» عند لاركن. والحقيقة، أن لاركــن الناضج لـم يختلف جـــوهـــريـــا عــــن المـــــراهـــــق والـــــشـــــاب، إذ واصـــــل، بـــــطـــــرق مـــخـــتـــلـــفـــة، تــــجــــربــــة الــــطــــفــــولــــة، الـــتـــي هـــي «مـــلـــل مـــنـــســـي»، كــمــا يـــقـــول فـــي قـصـيـدتـه «قـــــــــادم». والـــشـــعـــور بـــالـــغـــربـــة والاغـــــتـــــراب عـن العالم الخارجي ميزا الكثير من شعره المبكر ،1938 والـــاحـــق. فـــي قـصـيـدة تــعــود إلـــى عـــام كـتـب لاركــــن: «شـبـكـة مــن الـضـبـاب الـعـائـم فـوق الغابة والأرض القفر/ هادئة كالموت/ يتسلل الليل المظلم، ويـتـرك العالم وحـيـداً»، (الأعـمـال ) أو: «فــي الــخــارج، ستلسعك 225 الكاملة ص الغابة، تذوب، ثم تعود/ في الداخل، ستحترق .)233 ، الأعمال الكاملة CP( .» الشمعة ، بعد ثـمـان ســنــوات، كرر 1946 وفــي عــام المضمون نفسه تقريباً: «أرى أن الجدران قتلت ). وبعد ما 12 الشمس/ والضوء مات» (الأعمال يقرب من ثلاثين عاماً، عبر عن الشعور نفسه بالوحدة والقلق الـوجـودي وبالصور نفسها تقريباً: «في دهاليز خاوية، تحترق الأضواء/ كـم هـي مـعـزولـة، مثل الـحـصـن/ الــورقــة المعدة لـكـتـابـة رســـائـــل المـنـفـى إلـــى الـــوطـــن/ (إذا كـان )». وعكس هذا 163 الوطن مـوجـوداً) (الأعـمـال الإحــســاس عـنـدمـا كـتـب أن «دي إتـــش لـورنـس مـــهـــم بــالــنــســبــة لــــه مـــثـــل شــكــســبــيــر بـالـنـسـبـة لكيتس»، لأن الرسالة الحقيقية للورنس هي أن: «كل شخص وحيد... الجميع غير قادرين عـــلـــى فـــعـــل أي شـــــيء أكـــثـــر مــــن لمــــس بـعـضـهـم البعض». فــــي هــــــذه الــــفــــتــــرة، كــــــان هــــنــــاك انـــســـجـــام بــــن لاركــــــن الـــشـــاعـــر وشــخــصــيــتــه، ســــــواء فـي الــشــعــر أو الــنــثــر. فـــي روايـــتـــيـــه «جــــل» و«فــتــاة فــي الــشــتــاء»، تسحق الـشـخـصـيـات الرئيسية مشاعر الاغـتـراب والـغـربـة. فـي «جـــل»، يلتحق جون كيمب بأكسفورد للدراسة، لكنه سرعان ما يشعر بالغربة. ملاذه الوحيد كانت غرفته. تـــدريـــجـــيـــا، تـــتـــحـــول أكــــســــفــــورد إلــــــى «مـــديـــنـــة وهــمــيــة، حـتـى تُــشـبـه مـديـنـة تـــي. إس. إلـيـوت فـــي «الأرض الـــيـــبـــاب». وفـــي روايـــــة «فـــتـــاة في الشتاء»، نلتقي بكاثرين، وهي لاجئة طردتها الــحــرب مــن بـلـدهـا. كــا الـبـطـلـن «يُــتــركــان في حـــالـــة اســـتـــســـام مـــطـــلـــق، بــــا مـــكـــان يــذهــبــان إلـيـه». كلاهما مـتـردد فـي البقاء فـي أي مكان، ربـمـا باستثناء غرفتهما الـخـاصـة، لأنهما لا يستطيعان «إيــجــاد مكانهما المـنـاسـب»، مثل لاركــن نفسه، كما يقول فـي قصيدة «الأمـاكـن، أيـهـا الأحـــبـــاء»: «لا، لــم أجـــد قـــط/ المــكــان الــذي يـمـكـن أن أقـــــول عـــنـــه/ هــــذا مــكــانــي المــنــاســب/ )99 ، سأبقى هنا». (الأعمال لا يـــقـــصـــد لاركــــــــن هـــنـــا بــــالمــــكــــان مــوقــعــا جغرافيا معيّناً. وقد أكد ذلك عندما سُئل عن مدينة هـول، حيث عـاش لمـدة ثلاثين عاماً، في : «أنا لا 1979 مقابلة مع صحيفة الأوبزرفر عام أعي حقا أين أعيش». يــــمــــكــــن إحــــــالــــــة الــــــخــــــاف حــــــــول شــعــر وشخصية لاركن إلى سببين رئيسين: السبب الأول أن لاركـــــن كــتــب شـــعـــرا مـخـتـلـفـا تـمـامـا عـــن شــعــر مـجـايـلـيـه مــنــذ مـجـمـوعـتـه الـثـانـيـة «الأقــــــل انـــخـــداعـــا»، الـــتـــي بـــــرزت فـيـهـا الـسـمـة الأســـاســـيـــة الـــتـــي مـــيـــزت شــــعــــره: الـــاانـــتـــمـــاء بالمعنى الــوجــودي. وهـي ظـاهـرة غريبة على الشعر الإنجليزي الـذي عـرف عموما بنزعته الــواقــعــيــة، فـلـم تــزدهــر فـيـه ظــاهــرة الــدادائــيــة ولا السريالية مثلا كما في الأدب الفرنسي - باستثناء ديفيد غاسكوين الذي عاش لفترة في فرنسا- وذلك لأسباب اجتماعية وثقافية مختلفة لا مـجـال هـنـا لـلـخـوض فـيـهـا. ولعل هذا يفسر عدم وجود دراسـات نقدية تتناول هـذه الـظـاهـرة، باستثناء كتاب «اللامنتمي» وركـز 1956 لكولن ويـلـسـون، الـــذي نُــشـر عــام فـيـه فـقـط عـلـى الـــكُـــتّـــاب الأجـــانـــب، بـاسـتـثـنـاء ت. إ. لــورانــس، مـؤلـف كـتـاب «أعـمـدة الحكمة الـسـبـعـة»، وهــربــرت جـــورج ويـلـز، الـــذي عرف بأدب الخيال العلمي. لم نقرأ في الأدب البريطاني نقدا يتناول لاركن، إنسانا وشاعراً، باعتباره لا منتمٍ، ما عــدا بعض الإشــــارات إلــى حياته الشخصية كشخص منعزل وأعزب، وهي إشارات ليست لـهـا أيـــة عــاقــة بــظــاهــرة الــاانــتــمــاء، كتوجه أدبـــي وفـلـسـفـي. إن عـــدم الـنـظـر إلـيـه مــن هـذا المنظور، دفع نقاده إلى اعتبار شعره غامضا ومتناقضاً، وإلى القول بوجود «لاركنين» أو «جانبين» له. ولكن من خلال النظر إلى لاركن كشاعر وإنسان لا منتمٍ، بالمعنى الوجودي، سـنـرى أنـــه كـــان فــي انـسـجـام مــع نـفـسـه. منذ البداية، كانت لديه آراؤه الوجودية الخاصة فيما يتعلق بالحياة والفن، والــذات والآخـر، والـــقـــلـــق والاغـــــتـــــراب وحـــريـــة الاخـــتـــيـــار، كما لــو أن جميع أعـمـالـه مـجـرد قـصـيـدة واحـــدة، يتأمل فيها تلك القضايا الكبرى التي شغلت البشرية في القرن العشرين. والـسـبـب الـثـانـي، هــو مـوقـفـه مــن المـــرأة، اعتمادا على حياته الخاصة، إذ يرى منتقدوه أنه كان يعاني من عقدة النقص، ومن مظهره الـــجـــســـدي. لــكــن بـتـحـلـيـل قـــصـــائـــده، وبـعـض رسـائـلـه الـشـخـصـيـة، سنجد أن مـشـاكـلـه مع الـنـسـاء كــانــت جــــزءا مــن صــراعــه الأوســــع مع الـحـيـاة كـإنـسـان لا مـنـتـمٍ، وهـــي تنسجم مع مــوقــفــه الــــوجــــودي تـــجـــاه المــجــتــمــع والــحــيــاة والالتزام. إنه متردد دائماً، عاجز عن الفعل، بل حتى مجرد رد فعل. ولهذا السبب، كان يجد مهربه، وعزاءه أيضاً، في عملية التسامي، مستخدما أنواعا مختلفة من التقنيات، في قصائده الرئيسية على الأقـل، لخلق هـذه العملية، التي تساعد الشاعر على تجاوز الأشياء التي يواجهها، والأفـكـار التي يتأملها، والبيئة المحيطة به، ورفعها إلــى مستوى التجريد، حيث نشعر بـــالـــســـعـــادة والــــتــــحــــرر مــــن واقـــعـــنـــا الــكــئــيــب وتــنــاقــضــات وجـــودنـــا. وهـــكـــذا، يـبـنـي لاركـــن عالما خيالياً، تندمج فيه الذات والموضوع في وحــدة واحـــدة. يستخدم لاركــن المــواد المادية لـــلـــواقـــع، الــتــي يـجـمـعـهـا بـــوعـــي، كـجـسـر إلــى عـالـم خيالي، يشعر فيه بـالانـتـمـاء، ويمكنه أن يقول «هذا مكاني المناسب». لهذا السبب، فإن شعر لاركـن يبدو أكثر تعقيدا مما يظنه بعض نقاده، لأنه، أولاً، يعمل على مستويات وجودية مختلفة، وثانياً، بسبب عملية إعادة الخلق والتسامي المتطورة التي يستخدمها فــــي مــــحــــاولاتــــه لإيــــجــــاد إجـــــابـــــات لــأســئــلــة الأساسية التي شغلت عصره، ولا تزال تشغل عصرنا. عندما تطبِق الظُلمة الظلماء على أمة من الأمــم فـي لحظة مـا مـن لحظات تاريخها، فإنه لا يعود في الساحة إلا فلاسفة الـدرجـة الأولـى لكي يضيئوا لها الـطـريـق. ولكنهم عندئذ قد يـخـاطـرون بأنفسهم ويـدفـعـون الثمن باهظاً. عندما شعر أرسطو بالخطر يقترب من رقبته أكـثـر مما يجب قــال هــذه الـعـبـارة البليغة: «لن أدعــهــم يـرتـكـبـون جـريـمـة أخـــرى ضــد الفلسفة. يــكــفــي أنـــهـــم قـــتـــلـــوا ســـــقـــــراط». ثــــم غــــــادر أثـيـنـا مسرعا تحت جنح الـظـام. ومعلوم أن سقراط كـــان بـإمـكـانـه أن ينجو بـجـلـده لــو أراد. ولكنه رفــــض الـــهـــرب فـــي آخــــر لـحـظـة عــلــى الـــرغـــم من إلـحـاح تـامـذتـه وأصـدقـائـه الـشـديـد عليه. لقد توسلوا إليه وبكوا على ركبتيه وكانوا جاهزين لـتـهـريـبـه بــكــل ســهــولــة ولــكــنــه رفــــض بـــإصـــرار. وفضل بذلك أن يواجه مصيره المحتوم ويتجرع السم الزعاف. وكـان بذلك أول شهيد في تاريخ الفلسفة ولكنه لن يكون الأخير. وذلك لأن تهديد المثقفين، بل واغتيالهم على مـدار العصور أمر شـائـع لــدى مختلف الأمـــم والـشـعـوب. بـل إنهم المـسـتـهـدف الأول بـالاغـتـيـال حـتـى قـبـل رؤســـاء الـدول وقـادة الجيوش. لمـاذا؟ لأن جيوش الفكر أخـــطـــر عـــلـــى الـــظـــامـــيـــن والـــرجـــعـــيـــن بـكـثـيـر. فـالـتـغـيـيـر الـحـقـيـقـي وتـــبـــديـــد حــلــكــات الــظــام يتم أول مـا يتم على أيـــدي الفلاسفة والمثقفين الكبار. في البدء كانت الكلمة. الكلمة أخطر من الرصاصة. بعدئذ يأتي الفعل والتغيير العملي. الــفـكــر يـسـبـق الـسـيـاسـة ويـعـلــو عـلـيـهـا ولـيـس العكس. ولكن الفكر بهذا المعنى نادر جدا على عكس ما نتصور. كم هو عـدد الفلاسفة الذين غـــيـــروا وجــــه الـــتـــاريـــخ الـــبـــشـــري؟ يـــعـــدون على أصــابــع الـيـد الـــواحـــدة أو الـيـديـن. بعد الثلاثي ســقــراط وأفـــاطـــون وأرســطــو نقفز قـفـزة كبرى ألفي سنة لكي نصل إلـى ديـكـارت، وسبينوزا، ولايبنتز، وكانط، وهيغل، ونيتشه وهيدغر... ولــــكــــن هــــل يـــمـــكـــن أن نـــنـــســـى فـــولـــتـــيـــر، وجــــان جـــاك روســـو وديـــــدرو الــذيــن تــصــدوا للظلامية الكاثوليكية بكل قوة؟ بالطبع لا. هذا ما يشرحه لنا أستاذ جامعة بروكسل البروفسور ريمون 798( تــروســون فــي كـتـابـه الـضـخـم عــن فولتير صفحة من القطع الكبير). على أي حـال، هناك شـيء لافـت للانتباه هو أنـه كلما ازدادت حلكة الظلام اسودادا اقترب موعد الفجر. كلما احتدت واحتدمت انبجس الفكر المنقذ كفلق الصبح. ما أجمل تلك اللحظة. اشتدي أزمة تنفرجي. ولكن الشيء الملاحظ أيضا هو أن التغيير الفكري أصعب أنـــواع التغيير. إنــه أصعب من التغيير المـــــادي. وذلـــك لأنـــه يـصـطـدم بعقليات قديمة راسخة منذ مئات السنين رسوخ الجبال. مـــن يـسـتـطـيـع أن يـــقـــاوم الـــشـــيـــوخ الـتـقـلـيـديـن المهيمنين على عقول عامة الشعب؟ من يستطيع أن ينتزع الشعب مـن براثنهم؟ ولـكـن التغيير الفكري هو الذي يمهد للتغيير المادي المبتغى. دونه لا تغيير سياسيا حقيقيا ولا من يحزنون. ولذلك قال فلاسفة الأنوار في أوروبا ما فحواه: «شــعــارنــا المـقـبـل هــو تغيير الـفـكـر والعقليات أولاً». ينبغي تهذيب الجنس البشري وتنويره وتـــثـــقـــيـــفـــه وتـــخـــلـــيـــصـــه مـــــن بـــــراثـــــن الــطــائــفــيــة والطائفيين. وبعدئذ يصبح كـل شــيء ممكناً. بـــعـــدئـــذ يـــجـــيء الــتــغــيــيــر الـــســـيـــاســـي تحصيل حـــاصـــل. يــقــول لــنــا ريـــمـــون تـــروســـون مـــا يـلـي: «كان هناك ملك جبار في القرن السابع عشر هو لويس الرابع عشر. إنه الملقب بـ(الملك الشمس) باني قصر فرساي العظيم. وكان هناك شخص آخـر يتربع على عـرش الفكر والآداب الفرنسية في القرن الثامن عشر هـو: الملك فولتير. وملك الفكر لم يكن يقل أهمية عن ملك السياسة إن لم يزد». ثم يضيف أستاذ جامعة بروكسل الحرة قـــائـــاً: لا تـعـتـقـدوا أن زعــيــم الأنـــــوار الفرنسية كان ملحدا كارها للدين في المطلق. انزعوا من أذهــانــكــم هـــذه الـــصـــورة الـخـاطـئـة الــتــي شاعت عـنـه. لقد كـــان مؤمنا كــل الإيــمــان بالله والقيم المثالية والأخـاقـيـة العليا لـلـديـن. وكـــان يقول حرفيا لا مخلوق مـن دون خـالـق، ولا مصنوع مـــن دون صـــانـــع. ولــكــنــه لـــم يــكــن مــؤمــنــا على طريقة المتعصبين الطائفيين. كان فولتير يفرق بــن شيئين لا يستطيع الـشـعـب الـفـقـيـر الأمــي الـجـاهـل أن يـفـرق بينهما: الــديــن/ والطائفية. ولكن معظم الناس بمن فيهم عديد المثقفين لا يستطيعون التفريق بينهما. إنـهـم يعتقدون أنهما شـيء واحــد. وعـن هـذا الاعتقاد الخاطئ تـنـتـج المـــشـــاكـــل والمـــــجـــــازر. فـــالـــديـــن فـــي سـمـوه وعلوه وتعاليه غير الطائفية الضيقة المنغلقة عــلــى ذاتــــهــــا داخــــــل جـــــــدران الــتــعــصــب الــفــئــوي الأعمى. وللتعصب حلاوة في القلب لا تعادلها حـــاوة. وبما أن المسيحية فـي عصره كانت لا تزال أصولية متطرفة، فإن الأكثرية الكاثوليكية كانت تضطهد الأقلية البروتستانتية وتكفرها وتبيح إبـادتـهـا شـرعـا. كــان يـبـرر ذلــك شخص لاهــوتــي كهنوتي خطير يـدعـى جـــاك بوسويه ). وهـو أكبر أصولي فرنسي في 1704 - 1627( ذلك العصر وربما في كل العصور. وكان خطيبا مصقعا لا يـشـق لــه غــبــار. حـتـى لـويـس الـرابـع عشر كان يخشاه أشد الخشية ويحسب له ألف حـسـاب. وقــد هيج المـلـك على البروتستانتيين فـــي خـطـبـة نـــاريـــة قـــائـــا لـــه مـــا فـــحـــواه: «هـــؤلاء البروتستانتيون الزنادقة لا مكان لهم على أرض المملكة الكاثوليكية الطاهرة. فإما أن يتخلوا عن مذهبهم وعقائدهم الخاطئة ويعتنقوا المذهب الكاثوليكي فوراً، وإما أن يبادوا عن بكرة أبيهم. فــالمــذهــب الـكـاثـولـيـكـي الــبــابــوي الــرومــانــي هو وحده الفرقة الناجية في المسيحية. وهو وحده المــذهــب الصحيح المــرضــي عنه عند الــلــه. وكل مـا عـــداه كفر وهرطقة وخـــروج على شــرع الله. المسيحي الحقيقي الشرعي لا يمكن أن يكون إلا أكثريا كاثوليكياً» (بين قوسين: نقول ذلك على الـرغـم مـن أن الأقلية البروتستانتية كانت هي الأقرب إلى المفهوم العقلاني والحداثي المتسامح للدين وأن الأغلبية الكاثوليكية كانت هي الأقرب إلى المفهوم التكفيري الرجعي الشديد التعصب والعدوانية. ولكن الحق دائما مع الأقــوى. كان ذلك عصر الظلمات الفرنسية...). ينبغي العلم 80 أن الشعب الفرنسي كـان كاثوليكيا بنسبة فـي المـائـة والـبـاقـي أقـلـيـات بروتستانتية. وقد نفذ الملك الجبار كلامه حرفيا واجتاح المناطق البروتستانتية وحصلت أكبر حـرب أهلية في تـاريـخ فـرنـسـا. ولا يـــزال الفرنسيون يخجلون بها ويتأسفون عليها ويـعـتـذرون عنها حتى اللحظة. فـي ذلـك الـوقـت لـم يكن هناك رأي عام دولــي يحمي سكان الأقليات ويمنع المتطرفين من الاختلاء بهم وإعمال المجازر فيهم... نحن فـــي الـــقـــرن الــســابــع عـشـر لا فـــي الـــقـــرن الــحــادي والعشرين. هذا التعصب الأصولي التكفيري الأعمى هو الذي نهض فولتير ضده بكل قوة وحاربه طــيــلــة حــيــاتــه كــلــهــا. كـــانـــت تــلــك هـــي قضيته المركزية الأولى التي لا قضية بعدها أو قبلها. قضية التنوير كانت أعز عليه من روحه. نقول ذلك على الرغم من أنه كان أكثريا كاثوليكيا مثل جاك بوسويه ولا يعاني عقدة الاضطهاد على عكس مثقفي الأقليات. وهنا تكمن عظمته. فلا شيء كان يجبره على محاربة أساطين مذهبه وطــائــفــتــه الـــقـــويـــة الـــجـــبـــارة المـــعـــتـــدة بـعـددهـا وعـديـدهـا. لا شــيء كــان يجبره على التصدي لهم وبخاصة أنهم كانوا قادرين على اغتياله بكل سهولة. يكفي أن يرسلوا إليه أحد الجهلة المهووسين بالتعصب لكي يرديه قتيلاً. ولهذا السبب كان يتخفى عن الأنظار لبعض الوقت عندما تحمّر عليه الأعين أكثر مما يجب. كان «يـنـزل تحت الأرض» كما يقال ثـم سـرعـان ما يـعـود إلــى السطح بعد شهرين أو ثـاثـة لكي يـنـاوشـهـم مـــجـــددا ويـــواصـــل المــعــركــة ضـدهـم. ولا شيء كان يجبره على الدفاع عن الأقليات اللهم إلا ضميره الأخلاقي بصفته مثقفا عالميا يـكـره الطائفية والطائفيين. لـهـذا السبب ظل اسمه لامعا على صفحة التاريخ. وذلـك لأنهم حـتـى فـــي الـــصـــن، حـتـى فـــي الـهـنـد والــيــابــان، يعرفون من هو فولتير هذا، ناهيك عن العالم الـعـربـي. إنــه لـشـيء ممتع أن يغطس المـــرء في كتاب البروفسور ريمون تروسون الضخم هذا. نقول ذلك وبخاصة أنه مكتوب بأسلوب ناصع وتبحر علمي مكين. فهو من أعظم الأكاديميين المتبحرين في العلم. أنا شخصيا أغطس فيه بكل استمتاع في نهايات هذا العام المنصرم. كـمـا وأغــطــس فــي كتبه الأخــــرى لأنـــه مختص كليا بفلسفة الأنـــــوار فــي الــقــرن الـثـامـن عشر. لمــاذا أركــز كل هـذا التركيز على تلك الفترة من تـاريـخ أوروبــــا؟ لأنــي أعتقد أن العالم العربي يـعـيـش فـــي ذلــــك الــحــز الــفــاصــل بـــن الـعـصـور الوسطى والـعـصـور الحديثة. إنــه يعيش في عــصــر فــولــتــيــر لا فـــي عــصــر ســــارتــــر، وفــوكــو وبورديو وبقية مثقفي فرنسا الحاليين، حيث اختفت المشكلة الطائفية نهائياً. فلم يعد هناك كــاثــولــيــكــي واحـــــد يـحـقـد عــلــى بـروتـسـتـانـتـي أو الــعــكــس. هــــذه هـــي بـعـض جـــوانـــب المـعـركـة الكبرى التي يشرحها لنا البروفسور ريمون تــروســون بكل تمكن واقــتــدار. نسيت أن أقـول إن كـتـابـه الآخــــر عـــن جـــان جـــاك روســــو يشمل ثلاثة مجلدات كـبـرى. مئات الصفحات، آلاف الصفحات، كنز الكنوز. فيليب لاركن فاضل السلطاني هاشم صالح لا شيء كان يجبر فولتير على الدفاع عن الأقليات إلا ضميره الأخلاقي بصفته مثقفا عالميا يكره الطائفية والطائفيين

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky