كـل السيناريوهات التي تنتظره قـاسـيـة... الطيران وســــــط ســــمــــاء مــعــتــمــة يـــحـــتـــاج إلــــــى طــــيــــاريــــن مــــن طــــراز الوطنية... كل النوافذ مفتوحة للعواصف، والأعاصير... مـلـيـون راكـــب لا يـعـرفـون مـوعـد وصــول 55 مــا يـزيـد عـلـى الرحلة المملوءة بالمطبات. ولا يعرفون النجاة، أو القفز إلا في فراغ غير معلوم. الـسـودان فـي حالة سفر خطيرة. أقلع يـوم الخامس مـــن مــطــار الـــدولـــة، 2023 عــشــر مـــن أبـــريـــل (نـــيـــســـان) عــــام تتجاذبه رياح سياسية، وصراعات اقتصادية، وتهديدات وجودية. كل شيء بات في مهب الريح، الملاحون الدوليون يتحكمون فـي خـط سير الـرحـلـة، بينما الــركــاب أنفسهم رهينة صراع قديم يتجدد، يفتقد إلى إدارة حكيمة تنقذ مستقبل البلاد من التلاشي، أو من التقسيم، أو من قبضة جماعات، وتنظيمات مسلحة، جاهزة للانقضاض. الطَرْق أسفل جدران الوجود للدولة صار بأياد قارية متفرقة. سباق نفوذ على الضرب في مقتل، وبناء سدود تـحـجـز الــحــق فـــي الــحــيــاة، وأخـــــرى تتسلل للهيمنة على في المائة من 12 أمـن وملاحة البحر الأحـمـر، والتحكم في التجارة العالمية، وتحويل ممراته إلى (كانتونات)، وقواعد تتقاسمها قوى دولية تصارع التاريخ ثأرا من الجغرافيا. كـم هـو قــاس أن يتحول الـسـودان إلـى أرض الخوف، وكـان يجب أن يكون مزرعة العالم العربي، بدرجة تفوق مـصـطـلـح الـــصـــن مــصــنــع الـــعـــالـــم، كــيــف يــصــبــح ضحية موارده الطبيعية من الذهب، والماس، والحديد، والمنغنيز، والنفط، وقبل كل ذلك فهو موطن الزراعة. شيء مؤلم أن تنظر إلى خريطة السودان فتجده رهينة صراعات داخلية كارثية، وفي الوقت نفسه هو محاصر من دول هي الأخرى أشـــد إيـــامـــا، وكـــارثـــيـــة، تـلـفـه مـــن الــشــمــال الــغــربــي ليبيا الحائرة بين الفوضى والتقسيم، ومـن الغرب تشاد التي يعصف بها الفقر، وفـي الجنوب أفريقيا الوسطى التي تعيش صــراعــات قبلية وعـرقـيـة، وجـنـوب الــســودان التي تقيم على خـرائـط هـشـة، وفــي الـجـنـوب الـشـرقـي إثيوبيا التي تحترف صناعة التأزيم، عبر مخططات بعيدة المدى، وهـو مـا تجسد جليا فـي بناء سـد النهضة ضـد مصالح دول المــصــب، والمـــــرور، مـصـر، والـــســـودان، وإريــتــريــا التي تتسابق عليها قـــوى دولــيــة مــن أجـــل الــفــوز بـشـرفـة على ساحل البحر الأحمر. الـــســـودان يـحـتـرق، والـــنـــار بـــدأت تـصـل إلـــى جـيـرانـه. والوقت ينفد. تحت نيران الحرب، تتقاتل القوى الأجنبية بــأذرع محلية، الـسـودان أصبح ساحة لتصفية حسابات إقليمية، ودولية، والشعب السوداني هو الوقود. فـــي الـخـلـفـيـة تــقــف قــــوى أخــــرى ســيــاســيــة، ومــدنــيــة، وتـقـلـيـديـة، وأخــــرى مسلحة فــي انـتـظـار لـحـظـة الانـهـيـار لـانـقـضـاض، والمــشــاركــة فــي قسمة الـخـرائـط باعتبارها فواعل مباشرة، أو وكلاء لقوى دولية. الـــوقـــت لــيــس فـــي صــالــح اســـتـــقـــرار الــــســــودان، فكلما طـــــال أمـــــد الــــحــــرب، تـــراجـــعـــت فـــــرص ســـيـــنـــاريـــو الإنــــقــــاذ، وإيقاف الحرب، والتقاط الأنفاس، وربما يكون الاحتمال المـــتـــاح سـيـنـاريـو الــبــقــاء فـــي مـرحـلـة الـهـشـاشـة العميقة، أو الانـــزلاق نحو سيناريو الانهيار الكامل للدولة، وفي هـــذا الـسـيـنـاريـو لا أحـــد يمكنه قــــراءة الـفـواتـيـر الباهظة لـلـكـارثـة، والــتــي تتمثل فــي خـــروج الـــســـودان مــن معادلة الدولة الـواحـدة، ويفتقد لمقومات المعيار الجيوسياسي، ويصبح بمثابة المـفـتـاح الأفـريـقـي الـــذي كُــسـر، وتتراجع قدرته وأدواره باعتبار أنه شريك رئيس في التفاوض مع الجانب الإثيوبي حول تداعيات سد النهضة، والأخطار المـسـتـقـبـلـيـة الــتــي تــهــدد الأمــــن المـــائـــي لمــصــر، والـــســـودان، فضلا عن أن الوصول إلى سيناريو الانهيار سيقوض كل عناصر أمن وملاحة البحر الأحمر، بل سيتحول ساحله الــغــربــي إلـــى فــوضــى تـتـقـاسـمـهـا بـعـض الـــقـــوى الــدولــيــة، والمـيـلـيـشـيـات، والـتـنـظـيـمـات الإرهـــابـــيـــة، وهــنــا يـمـكـن أن يـتـشـكـل، اسـتـراتـيـجـيـا، جـــزء رئــيــس مـــن الــنــظــام الـعـالمـي الـجـديـد عـلـى هـــذه المـسـاحـة مــن خــرائــط الــعــالــم، ويصبح خلية خـطـرة جـــداً، فعلى الـصـعـيـد الأمــنــي عـنـدمـا ينهار السودان، فقطعا ستتحول هذه المساحة إلى ملاذ للإرهاب الـعـالمـي («داعـــــش»، «الـــقـــاعـــدة»، «بــوكــو حـــــرام»)، وهـــذا له انعكاساته، وتهديداته على أوروبا، والعالم. وعــلــى الـصـعـيـد الاقـــتـــصـــادي عـنـدمـا يـتـعـطـل البحر الأحــــمــــر، يــعــنــي ارتـــفـــاعـــا فـــي تــكــالــيــف الــشــحــن الــعــالمــيــة، وتضخما يدفعه المستهلك عالمياً. أمــــا عــلــى الـصـعـيـد الإنـــســـانـــي، فــســوف نـــواجـــه أكـبـر أزمة نزوح في العالم، مما يخلق حالة من عدم الاستقرار الإقليمي. إن الـــســـودان، بـحـكـم قــــدره الــجــغــرافــي، ومـسـؤولـيـتـه التاريخية، ليس دولـــة هامشية، بـل إنــه مـحـور استقرار حـــيـــوي لـــأمـــن الـــقـــومـــي الـــعـــربـــي، والأفــــريــــقــــي. ولـــــذا فــإن المحافظة على وحدته واستعادة دولته ليست مسؤولية السودانيين وحـدهـم، بل مسؤولية إقليمية، لأن انهياره يـعـنـي انـهـيـار مـــعـــادلات المـــيـــاه، والمـــاحـــة، والأمـــــن، بينما خــروجــه مــن الــحــرب يعني إعــــادة تــــوازن المـنـطـقـة، ووقــف سلسلة من الأخطار المتصاعدة. لا بـد مـن إعــــادة دمـــج الـــســـودان فـي محيطه، وتفعيل دوره في التجمعات الإقليمية... نحتاج إلى «تحالف إرادة» من كل من يخاف على مصلحته من انفجار السودان. فالانفجار لـن يـكـون لـدولـة عـاديـة يمكن أن تستعاد بعد حرب أهلية، إنما هو انفجار لقارة صغيرة، ولمفتاح استراتيجي إلـى الإقليم العربي، وأفريقيا، وآسـيـا، وقد يتحول المـفـتـاح إلــى قنبلة متشظية فـي وجـــوه الجميع، فــالــســودان الـــقـــارة الـصـغـيـرة الــــذي يــوصــف بــأنــه الــخــزان مـتـعـدد الـثـقـافـات، والأعـــــراق، والألـسـنـة قــد يصبح جسرا خطيرا لتفكيك أهم منطقة حيوية في العالم. عشرون سنة لفّت قلوبنا بسوادها، كأنها دهر في مقام الرجاء الخائب. مــا أفـجـع مـوتـك يــا جــبــران تـويـنـي! لــم يـكـن رحــيــا عن مُحبيك وأهــلــك وعـائـلـتـك وحــدهــم. كـــان انـتـزاعـا للقلب منا جميعاً، كما قال أبوك وأبونا، غسان تويني، المارد المشتعل قهرا وشيبا يوم دفنك. وكان خاتمة قسرية استوجب دفعها عنك أن تُخفض الصوت قليلا وأن تُدرب القلم بين يديك على انحناءات لا تكسره، لكنك أبيت. كيف لـك، أيها الـسـاذج، أن تقبل وأنــت الــذي يؤمن بأن الـــخـــوف لا يـخـالـط الــحــبــر، كـيـف لـــك وحـــن أدخـلـتـنـا «نـهـار الـــشـــبـــاب» رمـيـتـنـا فـــي بــوتــقــة تــمــريــن لـــم نــعــرف مــثــلــه: رفــع منسوب الحب في السياسة الخبيثة. نحن الفتية الخارجون لتوّنا من أتون حرب أهلية طحنت أرواحنا ومن قبلنا. وفدنا إلى مقام الحب مدجّجين بدعوات كراهية الآخر واستغراب لـكْــنـتـه وسـحـنـتـه وأفــــكــــاره، لـنـتـعـلـم عــنــدك ومــعــك أن الـحـب هـو فعل المـقـاومـة الأشـــد ضـد مَــن أرادونــــا ركـامـا مـن ذاكـــرات مجروحة وأحقاد موروثة. قضيت يـا جــبــران، والأرض مـن حولنا مـا اكتفت بعد من مـؤامـرات الجيران والإخــوة وطمع الأوصـيـاء، ومـن قتلة مـا ارتـــووا ولـــن. لـم يكن دمــك إلا بعض مـوسـم طـويـل. ظنوا أنه بقتلك، بعد سمير قصير، سيستتب لهم الأمـر في بلاد الشام قاطبة، بلا كـام مزعج تستضيفه بيروت وتبني به «حيطان العمار» بين لبنان وسوريا. ظنوا أنك آخِر صرخة في برية نظام الأسد-«حزب الله» الذي حكم سوريا ولبنان. فــمــاذا جــنــوا؟ فــجَّــر الــذيــن فــجــروا ســيــارتــك بــــادا بأكملها، بأعلى درجات «الأخوة والتنسيق» بين بيروت ودمشق، كما سنعلم لاحقاً. دفعوا كثيرا من حواضر المشرق على مفترقات التشتت والــــدم، وجـعـلـوهـا خــرائــب تتقاسمها الميليشيات والغرباء وبؤس الجماجم. لـكـنـه وعـــــد أبـــيـــك لـــك فــــوق جـــســـدك المـــســـجـــى: لــيــس في الـتـاريـخ - ولا الـقـدر - منطق أو نـامـوس يسمح بــأن تذهب الشهادة سُدى... فاصبر وانتظر في كنف الحب المؤمن الذي يُدفئ غربتك، أعرف... لن تنتظر إلى الأبد؛ لأن الأبدية صارت خلفنا ووراءك. وها هو التاريخ أمامك يا جبران. سقط الآمرون بقتلك إما موتا أو هرباً، وبفارق أسابيع فقط. أطبق الفخ على مَن نصَبه، وإن لـم تكتمل العدالة بالشكل الــذي يؤسس لوطن ودولة وجمهورية حلمت بها وما زلنا نحلم. فــلــبــنــان، يـــا شــهــيــده، لـــم يــشــف بــعــد مـــن داء الانــتــظــار المزمن، ينتظر الفرج من خارجه، ينتظر مَن يجيبه عن سؤاله الأزلي: «ماذا نريد؟»، وكأن الإرادة أحجية، أو قرار يُنتظر من عاصمة بعيدة. وبعض الأرض، يا جبران، ما زال يستملكها مَن ولاؤهم لغير ترابها، وقرارهم أمين في ارتهانه لمن لا يعنيه إن عاش هـذا الوطن أو مـات. أمـا الصحافة، يا صاحب القلم المدجج بالكبرياء، فيتقاسم جلها من يلتمسون في الصمت القبيح شبهة العافية والـسـامـة، بعد أن دفـعـت أنــت ورفــاقــك ثمن الإفراط في الشرف. ويشاركهم من جعلوا من النقد والتذمر صنعة تملأ الصفحات عـويـا بـا أفــق، وشـكـوى لا تجترح فكرة أو تشعل ضوءاً. فماذا نريد يا جبران؟ تغير الكثير ولـم يتغير شـيء في الوقت نفسه. ما زلنا نـريـد الإرادة ذاتــهــا. نـريـد أن نستعيد الــقــرار مـن يـد الغريب والوصي والعميل. نريد أن نقول «نعم» و«لا» بأصواتنا، لا بأصوات مَن يُملي علينا مصالحه. نريد أن نعود إلى بوتقتك الأولى وأن نستأنف معك حبا لوطننا لا يستسلم ولا يستكين. وبعد، ماذا أقول لك يا جبران، في العشرين التي مرت؟ إنـــنـــي قـــلـــق. قــلــق لأن الأمـــــل فـــي بـــــاد تـــأكـــل شــهــداءهــا وتنسى أسماءهم، يشبه المشي على الماء. لـكـنـنـي، فـــي الـــوقـــت نــفــســه، مــحــكــوم بـــالأمـــل، كــمــا قــال المسرحي السوري سعد الله ونوس وهو على حافة الردى. وعـسـاي أستعير سذاجتك النبيلة التي جعلتك تُــصـدق أن الكلمة أقوى من البارود. أستعيرها لأُصدق مثلك، ولأنني لا أحتمل البديل. أستعيرها لأحيا. إن لــم أكـــن مـتـأكـدا مــن شــــيء، فــأنــا مـتـأكـد أنـــك لــم تمت عبثاً؛ لأنك ما زلت تؤلمني وتؤلم كثيرين ممن أحبوك. وليس للميت عبثا أن يؤلم أحداً. يـــــرى المـــفـــكّـــر هـــنـــري كـسـيـنـجـر أنَّــــــه فـي الــتــاريــخ يـظـهـر شــخــصٌ، مــن حــن إلـــى آخــر، يـــؤشـــر إلــــى نــهــايــة حــقــبــة تــاريــخــيــة وبـــدايـــة حقبة أخــرى. وترمب بإعلانه استراتيجيته لـــأمـــن الـــقـــومـــي هــــو ذاك الـــشـــخـــص، وعــلــى الجميع استيعاب هذا الواقع، وبالذات قادة أوروبـــــا. الاسـتـراتـيـجـيـة الأمـيـركـيـة تتضمَّن ثلاثة عناصر تسترعي الانـتـبـاه والتعليق: أولا أمــيــركــا سـتـركـز عـلـى الأمـيـركـتـن عملا بـ«نظرية مـونـرو»، وثانيا المصلحة وحدها تحدد الحلفاء والأعداء وليست القيم، وثالثا تـواجـه أوروبـــا خطر «الانـمـحـاء الحضاري» إذا لـم تغير مسارها. هـذه الاستراتيجية لا تحمل جــديــداً، بـل تـكـرس مـمـارسـات ترمب، وبالتالي هي بيان إعلاني لدفن نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية. لا يحب ترمب الحروب، ويراها مضيعة لـلـمـال والأرواح، ويـفـضـل عليها الصفقات الـتـعـاقـديـة لـحـل الأزمــــات وفـــق فلسفة «الـكـل رابح» كما جاء في كتابه «فن الصفقة». لكنَّه، كبقية التجار، يريد احتكار أسواق، والمشاركة فــي أخــــرى؛ ولــهــذا اسـتـرجـع نـظـريـة الرئيس ) القائلة: 1823 الأميركي جيمس مونرو (لعام لا يحق للدول الأوروبية الاستعمارية آنذاك الــتــدخــل فـــي أمــيــركــا الــاتــيــنــيــة مــقــابــل عــدم تـــدخـــل أمــيــركــا فـــي الـــشـــؤون الأوروبـــــيـــــة. ثم طور لاحقا الرئيس روزفلت النظرية بقوله: أمــيــركــا مـــن دون غــيــرهــا يــحــق لــهــا الـتـدخـل لـــفـــرض الاســــتــــقــــرار فــــي أمـــيـــركـــا الــاتــيــنــيــة. وتــرمــب، بتبنيه نظريتَي مـونـرو وروزفـلـت المعدلة، يقول ضمنا لروسيا وإيران والصين: إمــــــا أن تــــخــــرجــــوا مـــــن حـــديـــقـــتـــنـــا الــخــلــفــيــة بالحسنى أو سنخرجكم بالقوة. لذلك أرسل حـــامـــات طــائــراتــه لـفـنـزويـا عـــارضـــا صفقة على رئيسها نيكولاس مــادورو الاشتراكي: ســـلّـــم الــســلــطــة لــلــمــعــارضــة مـــقـــابـــل ضـمـانـة سلامتك الشخصية. ويوما بعد يوم يُضيّق تـــرمـــب الـــخـــنـــاق عــلــيــه واضــــعــــا جــــائــــزة عـلـى رأسه، ومصادرا ناقلات نفطه، وواصفا إياه بكبير بارونات المخدرات، والخطِر على الأمن القومي الأميركي. هـذه السياسة تصاعدية ونهايتها مكتوبة سلفاً. أمـــــــــا تـــــحـــــديـــــد الأعـــــــــــــــداء والأصــــــــدقــــــــاء والـــتـــحـــالـــفـــات فـــمـــعـــيـــاره مــصــلــحــة أمـــيـــركـــا، وهـــــذا يــعــنــي غـــيـــاب مــعــايــيــر أخـــــرى مـهـمـة، مثل حقوق الإنسان، والديمقراطية، والقيم التقليدية، والعلاقات التاريخية، والقانون الــــــدولــــــي... فــــي الاســـتـــراتـــيـــجـــيـــة تــســقــط كـل الافـــتـــراضـــات الـسـابـقـة مـثـل حـمـايـة الـنـظـام الـدولـي، وحـريـة الـتـجـارة، وحلف «الناتو»، والمــؤســســات الـــدولـــيـــة... وهــــذا يـفـسـر غياب أي نـقـد فــي الاسـتـراتـيـجـيـة لــروســيــا، وعــدم إدانة العملية الخاصة في أوكرانيا، بل نرى جهدا أميركيا للتوفيق بين مصالح روسيا وأوروبــــا بطريقة تظهر فيها أمـيـركـا، على حـسـاب ســيــادة أوكــرانــيــا، وسـيـطـا مـحـايـداً، ولـيـسـت حـلـيـفـا لأوروبـــــا أو قـــائـــدة لــ«حـلـف الـنـاتـو» العسكري. وكـذلـك لـم تظهر الصين كــــعــــدو اســـتـــراتـــيـــجـــي رغــــــم تـــعـــاظـــم قــوتــهــا الــنــوويــة وقـاعـدتـهـا الـصـنـاعـيـة العسكرية، والتجارية، ورغم احتمالية إزاحتها للزعامة الأمـيـركـيـة فــي قـــادم الـسـنـن. تـرمـب يـحـاول المتاجرة مع الصين، ثم مواجهتها بالالتفاف عبر تشجيع الــدول الآسيوية، المتخوفة من المارد الصيني، على زيادة إنفاقها العسكري وشراء المعدات الأميركية؛ ولهذا لم يعترض على تصريحات رئيسة وزراء الـيـابـان بأن بـادهـا لـن تقف مكتوفة الأيـــدي إزاء اعتداء صيني على تايوان. ترمب يريد من الآخرين حــمـــايـــة مــصــالــحــهــم، وبـــالـــتـــالـــي يــكــســبــون، وأميركا تربح معهم بلا إراقة دماء. أما تهمة «الانمحاء الحضاري» لأوروبا فــهــي المـــســـمـــار الأخـــيـــر فـــي نــعــش مـــا يسمى كــتــلــة الـــغـــرب الـــحـــضـــاريـــة الـــصـــلـــدة؛ فـتـرمـب مـــؤمـــن بــــأن أوروبــــــا بـتـمـسـكـهـا بـالـلـيـبـرالـيـة سـتـفـقـد تــاريــخــهــا، وفـتـحـهـا أبـــــواب الـهـجـرة (لـلـمـسـلـمـن) سـيُــفـقـدهـا هـويـتـهـا المسيحية الـــيـــهـــوديـــة، وربـــمـــا تـتـغـيـر تـركـيـبـة بعضها الـــديـــمـــغـــرافـــيـــة، ولا يــمــكــن بـــعـــدهـــا الـــوثـــوق بــبــقــائــهــا فــــي «حـــلـــف الــــنــــاتــــو». هـــــذا الـــعـــداء الـــتـــرمـــبـــي لــلــيــبــرالــيــة ســبــبــه اعـــتـــقـــاد تـــيـــاره «أميركا أولاً» أن الليبرالية تُــذوّب الحضارة المـــســـيـــحـــيـــة الــــيــــهــــوديــــة، وتـــخـــنـــق بـــقـــوانـــن مـــقـــصـــودة الـــحـــريـــات عــبــر تـقـيـيـد الــشــركــات التكنولوجية الأميركية، ومنعها من توفير مــنــصــة لـلـيـمـن المـــتـــشـــدد الــــكــــاره لــأجــانــب، وعـرقـلـة تسلمه للسلطة لاســتــعــادة الـهـويـة وطـرد اللاجئين. لذلك تتضمن الوثيقة ميلا أمـيـركـيـا تــجــاه الــرئــيــس الـــروســـي فلاديمير بـــوتـــن لــاعــتــقــاد أن روســـيـــا الأرثـــوذكـــســـيـــة تُحصن الحضارة المسيحية ضد الليبرالية الدولية، وأن التصالح بين أوروبـــا وروسيا وتعاونهما سينقذ الغرب المهدد حضارياً. ولا عـجـب أن يـصـر تــرمــب عـلـى الاسـتـجـابـة لمطالب روسيا في أوكـرانـيـا، والضغط على قـــادة أوروبــــا للتسليم بـهـذا الــواقــع، اعتقادا أنه صاحب فضل عليهم وأدرى بمصلحتهم. وقد ذهب أبعد بمطالبته الدنمارك بإعطائه منطقة غرينلاند؛ لأنها مهمة لأمـنـه، مـع أن وفيها 1951 الــدنــمــارك وقـعـت مـعـاهـدة عـــام يـنـال كــل مــا يــريــد. تـرمـب فــي الــواقــع لا يـرى أوروبـــــــا صـــديـــقـــا، بـــل تــابــعــا عـلـيـه أن يطيع أوامره، وإلا فالعصا جاهزة. ترمب باستراتيجيته يقلب العالم رأسا عـلـى عــقــب، ويــحــول الأعـــــداء بسياسته إلـى أصدقاء، ما دام أن المعيار هو المصلحة. لكنه يخلق، بسياساته، قصدا أو خطأ، عالما أكثر قـتـامـة عـلـى شــعــوب الــعــالــم، وأشــــد خـطـورة على أميركا ذاتـهـا؛ لأن الحلفاء فـي أوروبــا وخارجها سيدركون مزاجيته، وحساباته الضيقة، وسيرفعون كذلك شعار: «بلادهم أولاً». هكذا تخسر أميركا قوتها الناعمة، وقــــيــــادتــــهــــا لـــلـــعـــالـــم الـــــحـــــر، وصــــداقــــاتــــهــــا، وريادتها، وستدرك عاجلا أو آجلاً، نصيحة المــــؤرخ أرنــولــد تـويـنـبـي؛ أن «الــحــضــارات لا تُقتل، بل تنتحر». OPINION الرأي 12 Issue 17185 - العدد Tuesday - 2025/12/16 الثلاثاء ها هو التاريخ أمامك يا جبران السودان... كل السيناريوهات قاسية الإمبراطوريات لا تُقتل بل تنتحر! وكيل التوزيع وكيل الاشتراكات الوكيل الإعلاني المكـــــــاتــب المقر الرئيسي 10th Floor Building7 Chiswick Business Park 566 Chiswick High Road London W4 5YG United Kingdom Tel: +4420 78318181 Fax: +4420 78312310 www.aawsat.com [email protected] المركز الرئيسي: ٢٢٣٠٤ : ص.ب ١١٤٩٥ الرياض +9661121128000 : هاتف +966114429555 : فاكس بريد الكتروني: [email protected] موقع الكتروني: www.arabmediaco.com هاتف مجاني: 800-2440076 المركز الرئيسي: ٦٢١١٦ : ص.ب ١١٥٨٥ الرياض +966112128000 : هاتف +9661٢١٢١٧٧٤ : فاكس بريد الكتروني: [email protected] موقع الكتروني: saudi-disribution.com وكيل التوزيع فى الإمارات: شركة الامارات للطباعة والنشر الريـــــاض Riyadh +9661 12128000 +9661 14401440 الكويت Kuwait +965 2997799 +965 2997800 الرباط Rabat +212 37262616 +212 37260300 جدة Jeddah +9661 26511333 +9661 26576159 دبي Dubai +9714 3916500 +9714 3918353 واشنطن Washington DC +1 2026628825 +1 2026628823 المدينة المنورة Madina +9664 8340271 +9664 8396618 القاهرة Cairo +202 37492996 +202 37492884 بيروت Beirut +9611 549002 +9611 549001 الدمام Dammam +96613 8353838 +96613 8354918 الخرطوم Khartoum +2491 83778301 +2491 83785987 عمــــان Amman +9626 5539409 +9626 5537103 صحيفة العرب الأولى تشكر أصحاب الدعوات الصحافية الموجهة إليها وتعلمهم بأنها وحدها المسؤولة عن تغطية تكاليف الرحلة كاملة لمحرريها وكتابها ومراسليها ومصوريها، راجية منهم عدم تقديم أي هدايا لهم، فخير هدية هي تزويد فريقها الصحافي بالمعلومات الوافية لتأدية مهمته بأمانة وموضوعية. Advertising: Saudi Research and Media Group KSA +966 11 2940500 UAE +971 4 3916500 Email: [email protected] srmg.com أحمد محمود عجاج نديم قطيش جمال الكشكي
RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky