أولى المتع السردية هي متعة الانغماس. إنّها المتعة الأولى التي يتذوقها القارئ منذ طفولته الثقافة CULTURE 17 Issue 17183 - العدد Sunday - 2025/12/14 الأحد أحمد عبد المعطي حجازي إذا فقدنا الفصحى... كيف نعيش؟! بهذه المقالة أختم حديثي عن اللغة الذي بدأته في الشهر الماضي، لـتُــنـشـر فــي الــوقــت الــــذي نستعد فـيـه لـاحـتـفـال بـالـيـوم الـعـالمـي للغة العربية، وهــو اتـفـاق لـم أقــصــده؛ لأنــي حـن كتبت مقالتي الأولـــى عن لغتنا لـم أكــن أعــرف أنها ستقودني بـالـضـرورة لكتابة الثانية، التي قادتني بدورها لكتابة هـذه المقالة الأخـيـرة، التي أدركــت وأنـا أكتبها أنها ستُنشر والعالم يستعد ليحتفل معنا بالعربية. وأنا في غنى عن أن أقول إن قضية اللغة قضية مثارة على الدوام وبـــصـــورة مــلــحّــة. ونــحــن لـسـنـا فــي حــاجــة لمـنـاسـبـة نـتـذكـر فـيـهـا هـذه القضية ونعالجها فيها. فاللغة العربية هي لغتنا، وهي حاضرة في حياتنا على الـــدوام، تلح علينا آنـاء الليل وأطــراف النهار، حين نقرأ، وحـن نكتب، وحـن نفكر، وحـن نعبر، وحـن نتحاور، وحـن نتخيل ونتصور، حتى ونحن نحلم؛ لأننا في حاجة لا تنفد إلى أن نعيش ما نمارسه من نشاط، ومـا يخطر لنا من أفكار، ومـا ندخله من تجارب. وهـــي حــاجــة لا نستطيع أن نعيشها أو نلبيها دون أن نـعـيـهـا. ولا نستطيع أن نعيها إلا في صورتها التي تتشكل بها وتتجسد فيها، وتثير انفعالنا. وهذا ما تؤديه اللغة التي يتحول بها نشاط الإنسان إلــى وعــي وحـيـاة يعيشها بكل مـا فيه مـن طـاقـات تجمع بـن ماضيه وحاضره، ذكرياته وأمانيه، أوهامه وأحلامه، أفراحه وأحـزانـه، سرّه وعلانيته، أسئلته وإجاباته... باختصار، اللغة ليست مجرد أصوات تنطلق بها ألسنتنا، أو رموز وأسماء نتعلمها ونشير بها ونخلعها على مـا حولنا. لا، فهذه هـي اللغة الأجنبية، أمـا اللغة القومية فهي الوعي الحميم الـذي نعرف به أنفسنا، أو هي وجودنا كله. ومـن هنا حـضـورهـا الــدائـــم فــي حـيـاتـنـا وفـــي عـاقـتـنـا بـغـيـرنـا مــن الأمــــم؛ لأنها الجسر الذي يصلنا بالآخرين، كما أن لغات الآخرين هي الجسر الذي يصلهم بنا. وبهذا الفهم للغة ومكانها في الحياة الإنسانية، قررت أن تحتفل فــي الـثـامـن عـشـر من 2012 منظمة «الـيـونـيـسـكـو» فــي عـــام ديسمبر (كانون الأول) كل عام باللغة العربية، وتجعله يوما عالمياً، أو عيدا يشارك في الاحتفال به العالم كله؛ اعترافا بالدور الذي أدته لغتنا في ثقافة الإنسان وحضارته، ولا تـزال بما تملك من طاقات وخبرات قادرة على أن تواصل أداءه في المستقبل. من هنا كان برنامج الاحتفال هذا العام الذي دعت فيه «اليونيسكو» لسياسات وأعمال ترسم للغة العربية مستقبلا أكثر شمولاً، وتسلط الـضـوء على دور التعليم، والإعــــام، والتقنيات الـجـديـدة، والنشاط العام، في استخدام اللغة العربية بأنماط أكثر يسرا وفاعلية. و«اليونيسكو» تقدر عدد الناطقين باللغة العربية في العالم، في بعض منشوراتها، بما يزيد على أربعمائة وعشرين مليوناً، معظمهم بالطبع في بلادنا، فضلا عن مناطق أخرى، إن لم تكن ناطقة بالعربية فهي متأثرة بها وبثقافتنا التي انتشرت مع الإسلام في العالم الممتد من إسبانيا إلى الصين. ونحن نعرف أن العربية انتشرت بسرعة في هذا العالم المترامي. في إسبانيا لم يمض على دخول العرب أكثر من قرنين حتى أصبحت العربية لغة الأجـيـال الجديدة. ولدينا شاهد عيان من القرن التاسع الميلادي هو بولس الفاروس القرطبي الذي كان يشكو من أن الشباب المسيحي مهتم بالشعر العربي أكثر من اهتمامه بلغته الرومانسية. والعربية في إسبانيا وغيرها من البلاد التي دخلها العرب لم تكن لغة حياة يومية فقط تُستعمل مع غيرها من اللغات المحلية، وإنما كانت أيضا لغة الثقافة والعلوم. وهـذا ظاهر حتى الآن في المصطلحات التي اقتبستها اللغات الأوروبـيـة في الميكانيكا، والفلك، والكيمياء، والطب. كلمة «اللوغاريتمات» من اسم العالم العربي الخوارزمي، وكلمة «ألماناك» مــن المــنــاخ. والـكـلـمـات الـعـربـيـة المقتبسة فــي الإسـبـانـيـة وفـــي الإيطالية تستعمل مصحوبة بـأداة التعريف العربية «ال». والمـفـردات العربية في بعض اللغات الآسيوية والأفريقية موجودة بنسب مختلفة. خمسون في المائة من مفردات السواحيلية تعود لأصول عربية. *** ونـعـود إلــى الـيـوم العالمي الــذي خصصته «اليونيسكو» للاحتفال باللغة العربية، فنقول إن برنامج الاحتفال بلغتنا هـذا الـعـام استمرار لــبــرامــج سـابـقـة احـتـفـلـت فـيـهـا «الـيـونـيـسـكـو» بـالـلـغـة الــعــربــيــة، وقـدمـت أمثلة لمـا يجب أن يـكـون عليه الاحـتـفـال بـهـا، ومنها الاجـتـمـاع الإقليمي الذي نظمته «اليونيسكو» في مدينة الرباط عاصمة المغرب في اليومين الرابع والعشرين والخامس والعشرين من شهر أكتوبر (تشرين الأول) ، وكان موضوعه: «اللغة العربية... ما وراء المـوروث». وفي هذا 2022 عام الاجتماع تحدث المشاركون عن المكان الذي تحتله اللغة العربية في ثقافة العالم، وعن دورها في تعزيز الحوار والتفاهم المتبادل في المستقبل. وقبل تسع سنوات أقامت «اليونيسكو» احتفالا بالخط العربي، قـدمـت فـيـه مـعـرضـا لـهـذا الـفـن تـحـت عـــنــوان: «جــمــال الـخـط الـعـربـي». ونظمت بجانب المـعـرض لـقـاءات تحدث فيها الخطاطون والمهتمون بالخط عن هذا الفن الذي ضمته «اليونيسكو» إلى قائمتها المعتمدة من التراث الثقافي الإنساني. وقبل خمسين عاما اعتمدت الأمم المتحدة اللغة العربية لغة رسمية، فماذا عما تلقاه هذه اللغة في بلادها؟ الجواب في مقالتي الأولـى التي نُشرت في هذه الصحيفة الغراء يوم الأحد الأسبق بعنوان: «لغتنا... من ينقذها؟!»؛ وذلك لأن الأخطار التي تهدد اللغة العربية لا تأتيها من الخارج أو من مصدر مجهول، وإنما تأتيها من أهلها الأقربين، فمن يتصدى لهم؟ واللغة التي أتحدث عنها هي بالطبع لغتنا الفصحى التي تخلفت كما تخلفنا في القرون الماضية، وأصبحت في حاجة إلى جهود جبارة تعوّض بها ما فقدته، وتمكّنها من الحياة في هذه العصور الحديثة، فإذا فقدناها فبأي لغة نعيش؟ باللهجات الدارجة التي لم تصبح لغة بعد، أم باللغات الأجنبية التي لا نملكها؟ ولنتخيل أننا امتلكناها، فكيف سنصبح فيها؟ سنفقد أصولنا، ووعينا بأنفسنا، ونتحول إلى كائنات مترجمة، ووجوه مستعارة! تتخالف شكلا وآلية مع تبدّل القارئ والزمن والمزاج سبعة أنماط من المتعة الروائية حين نشر الناقد البريطاني ويليام إمبسون كتابه المرجعي في النقد الأدبي William Empson Seven Types of ســبــعــة أنــــمــــاط مــــن الـــغـــمـــوض ، كان في الرابعة والعشرين 1930 عام Ambiguity من عمره؛ لكنّه مع ذلك وضع واحدا من أكثر الكتب تأثيرا في النقد الأدبـي الحديث. لم يكن إمبسون يتعامل مع الغموض بوصفه عيبا في التعبير بل بعدّه قلب الشعر النابض. رأى أن اللغة حين تبلغ أقصى درجاتها الفنية لا توضّح بقدر ما تلمّح، ولا تـفـسّــر بـقـدر مــا تُــثـيـر، وأن الـجـمـال يكمن في المسافة بـن مـا يُــقـال ومــا يمكن أن يُــقـال. مـن هنا جــاءت فكرته الجريئة: يمكن تصنيف الغموض ذاتــــه فــي سـبـعـة أنـــمـــاط، تـــتـــدرّج مــن الـبـسـيـط إلـى المــــركّــــب، ومــــن الـــغـــمـــوض الـــلـــغـــوي إلــــى الـغـمـوض الــــــوجــــــودي. جـــعـــل إمـــبـــســـون مــــن الـــغـــمـــوض (أو التعقيد بلغة الأدب التقنية) متعة جمالية في ذاته؛ فالقصيدة عنده ليست معادلة لغوية تقود إلى استجابة موحّدة لدى القرّاء بل كائن متعدد الطبقات، وكل قـراءة تكشف عن جانب من نسيج ذلك الكائن. منذ أن قرأت كتاب إمبسون لم أُبْطِل التفكير بالكيفية الـتـي نستلهم بها أفــكــاره وننقلها من الـشـعـر إلـــى الـــروايـــة: اذا كـــان لـلـغـمـوض الـشـعـري أنماطُه السبعة؛ فلماذا لا تكون للمتعة الروائية أيضا أنماطُها؟ لمـاذا نظن أن مُتعة الـقـراءة حالة واحـــدة مـوحّــدة فـي وقـــت تدلُّنا فيه خبرتُنا على أن هـــذه المـتـعـة طــيــف واســـــع مـــن تـــجـــارب الـتـلـقّــي والانفعالات الشخصية؟ لا بـــأس مـــن مــثــال تطبيقي حـقـيـقـي. أفــكّــر كثيرا فـي روايــــات عـديـدة مـن أمـثـال روايـــة قوس الـتـي كتبها Gravity’s Rainbow قــزح الـجـاذبـيـة Thomas الـــروائـــي الأمــيــركــي تـــومــاس بـيـنـتـشـون . هـذه الـروايـة تـدور وقائعها في أواخـر Pynchon الحرب العالمية الثانية، وتستكشف موضوعات مـعـقـدة مـثـل جـنـون الـعـظـمـة والــفــســاد والتقنية، الألمـــانـــيـــة 2-V وتــــركّــــز عـــلـــى تــصــمــيــم صــــواريــــخ وتـــأثـــيـــرهـــا. الــــروايــــة مـشـبـعـة بــالــغــمــوض؛ لـكـنّــه غموض إبداعي من درجـة رفيعة يبدأ من عنوان الـــروايـــة ذاتـــهـــا حـيـث إن مــســار الـــصـــاروخ يشبه قوس قزح. هذه الرواية غير مترجمة إلى العربية، وكثيرا ما تساءلت: لماذا الإحجام عن ترجمتها؟ هـل يستشعر المترجمون أنّــهـا تفتقر إلــى المتعة المفترضة فـي الــقــراءة الـروائـيـة؟ سيكون تعسّفا خطيرا أن نفترض متعة جمعية في هذه الرواية كما يحصل مثلا مع روايات دوستويفسكي؛ لكن مع هـذا سيجد قليلون ربما متعة عظيمة فيها. سيقودنا الـحـدس إلـى أن تلك القلّة المخصوصة هـــي لــــقــــرّاء لــهــم شــــيء مـــن مــعــرفــة بــالــريــاضــيــات والفيزياء وتـواريـخ الـحـروب وتـداخـات السلطة وضغوطها. لا يمكن في النهاية التصريح بمتعة شاملة مطلقة للعمل الروائي. هذا مدخل يوضّح التمايز الحتمي بـن أنـمـاط المتعة الـروائـيـة بين القرّاء. ***** منطلقة من كتاب إمبسون أعـاه، سأحاول الإشـــارة إلـى سبعة أنـمـاط مـن المتعة الـروائـيـة، لا بـوصـفـهـا تصنيفا نـهـائـيـا بــل بـوصـفـهـا خريطة أولى في جغرافيا اللذة السردية. أولـــى المـتـع الـسـرديـة هــي متعة الانـغـمـاس. إنّـــهـــا المــتــعــة الأولـــــى الـــتـــي يــتــذوقــهــا الـــقـــارئ منذ طفولته، حـن يفتح كتابا ويجد نفسه فجأة في مكان آخر. إنـهـا متعة الـغـيـاب الـطـوعـي عــن الـــواقـــع: أن نــذوب فـي العالم الـروائـي حتى ننسى أننا نقرأ. في هذه اللحظات لا نكون خارج النص بل داخله، نــعــيــش مـــع شـخـصـيـاتـه ونــتــنــفــس هـــــــواءه. نـقـرأ موبي ديك فنشعر برائحة البحر، أو آنا كارينينا فنرتجف أمام قطارها القادم. الانغماس هو نوع من الحلم الـواعـي، تجربة بين الخيال والـوجـود، فيها يتحوّل الـقـارئ مـن متلق إلــى مـشـارك. إنها مـتـعـة لا تـبـحـث عـــن المــعــنــى بـــقـــدر مـــا تـبـحـث عن الإقامة المؤقتة في عالم آخر، مـوازٍ، بحثا عن ذلك النسيان الجميل الذي يُعيد إلينا براءة الخيال. المـتـعـة الـثـانـيـة هــي متعة الـتـركـيـب. فــي هـذا النمط، القارئ لا يستسلم للنص بل يتحدّاه. إنه القارئ الذي يتعامل مع الرواية كما يتعامل عالم الآثـــار مـع نقش قـديـم: يحلّلُهُ، يربط بـن أجـزائـه، يبحث عـن رمـــوزه ومفاتيحه. هنا تـتـحـوّل اللذة إلى فعل فكري، إلى شغف ببنية السرد لا بوقائعه فقط. روايـات مثل اسم الـوردة لأومبرتو إيكو، أو قــوس قــزح الجاذبية لـتـومـاس بينتشون تُجسّد هـذا النمط: أعمال تُبنى كإنشاءات فكرية رفيعة يـشـارك الـقـارئ فـي رسـم خريطتها. المتعة هنا لا تــأتــي مــن الـحـكـايـة بــل مــن الـــذكـــاء الـبـنـائـي، ومِـــن شـعـور الـــقـــارئ أنـــه شـريـك فــي صـنـاعـة المـعـنـى، لا مستهلك له فحسب. النمط الثالث مـن المتعة الـروائـيـة هـو متعة الاعــــــتــــــراف. لــيــســت كــــل الــــــروايــــــات مــــــرآة لــلــعــالــم؛ فبعضها مرآة للذات. حين نقرأ عملا مثل الغريب لألبير كامو أو البحث عن الزمن المفقود لبروست، فــإنــنــا لا نـبـحـث عـــن حــكــايــة بـــقـــدر مـــا نـبـحـث عن أنفسنا. الرواية هنا مساحة اعتراف مؤجلة، نرى فيها مـا لا نجرؤ على قوله فـي الحياة اليومية. الـقـارئ في هـذا النمط يجد لذّته في التعرّف إلى ذاته عبر الآخر. كل سطر يذكّره بجراحه الصغيرة، وكل شخصية تعيد إليه ظلّه المفقود. إنها المتعة الــتــي تــولــد مـــن الـحـمـيـمـيـة، ومـــن الإحـــســـاس بـأن النص يعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا. النمط الرابع هو متعة اللغة. في هذا النمط تـتـراجـع الـحـكـايـة إلـــى الـخـلـف وتـتـقـدّم الـلـغـة إلـى المقدمة. هنا لا تتجسّد المتعة في (ماذا يحدث؟) بل في (كيف يُقال؟). الكاتب لا يسرد فقط بل يعزف بالكلمات. يحوّل الجمل إلى موسيقى. المتعة هنا جمالية خالصة، متعة الإصـغـاء إلــى اللغة وهي تُعيد اكتشاف نفسها، وحيث تصبح القراءة نوعا من الإصغاء اللذيذ لصوت داخلي يحدّثك من غير وسيط. الـنـمـط الـخـامـس هــو متعة الـقـلـق. ليست كـل المـتـع الـروائـيـة مقترنة بطمأنينة راسـخـة. أحيانا يهبنا الأدب لـذة مقلقة كمن ينظر في مـــرآة تكشف لــه عـمـا لا يـريـد أن يــــراه. روايـــات لجورج أورويـــل أو الطاعون لكامو 1984 مثل تــمــنــحــنــا هـــــذا الـــنـــمـــط: مــتــعــة الـــقـــلـــق المــفــضــي إلــــى المـــواجـــهـــة، لا الــــهــــروب. الــقــلــق هــنــا ليس سلبيا بل لحظة وعــي. إنـه الارتـجـاف الجميل أمـــام الحقيقة، والمـتـعـة الـتـي تنبع مــن الخطر المعرفي حينما يفتح النص بابا نحو المجهول الأخلاقي أو السياسي أو الوجودي. إنها المتعة التي تُشبه المأساة الإغريقية: الألم الذي يطهّر؛ لأن القارئ يخرج منها أكثر معرفة وإن كان أقل راحة. الـــنـــمـــط الـــــســـــادس هــــو مـــتـــعـــة الــــدهــــشــــة. كـل قــــارئ يـحـمـل فـــي داخـــلـــه تــوقــا إلـــى الــدهــشــة، إلـى تلك اللحظة التي تتجاوز فيها الرواية كل توقّع. الـــدهـــشـــة لــيــســت مـــجـــرد مـــفـــاجـــأة فـــي الــحــبــكــة بل توافق خفي بين ما لم نتوقّعه وما يبدو، رغم ذلك، منطقيا إلــى حـد الـجـمـال. حـن نـقـرأ روايـــة المسخ لكافكا ونجد إنسانا يستيقظ ليجد نفسه حشرة، أو ندلف أجواء رواية مائة عام من العزلة لماركيز فنرى الواقع يمتزج بالسحر، ندرك أننا أمام متعة مــن نـــوع نــــادر: مـتـعـة أن يُــعــاد تـرتـيـب الـعـالـم في وعينا. الدهشة هي لحظة تولد فيها لغة جديدة للحياة، تجعل القارئ يشعر أنه يرى العالم الذي طال عهده به بعيون جديدة. الـــنـــمـــط الــــســــابــــع هــــو مـــتـــعـــة الــــغــــيــــاب. هـــذه هــــي المـــتـــعـــة الـــوحـــيـــدة الـــتـــي لا تـــحـــدث فــــي أثـــنـــاء القراءة بل بعدها. تتحقق هذه المتعة حين نغلق الكتاب، ونكتشف أن شيئا منه ما زال يعمل فينا بـصـمـت. إنـهـا المـتـعـة الـتـي تنبع مــن الـنـقـص، من الإحساس بـأن الرواية لم تُغلق العالم بل فتحته على احتمالاته. روايــات كثيرة تعيش فينا بهذه الطريقة، وعندما نـغـادرهـا فـي المحطّة الأخـيـرة، فـكـلـهـا تــتــرك فـيـنـا شـيـئـا نــاقــصــا، فـــراغـــا صـغـيـرا يـواصـل التمدّد فينا ويـتـرك بصمة شاخصة في ذاكرتنا. الغياب هو ذروة المتعة الناضجة: حين نكتشف أن الـــقـــراءة لـيـسـت لـحـظـة بــل أثـــر طويل الأمــــــد، وأن الـــنـــص الــعــظــيــم لا يُـــقـــرأ مــــرة واحــــدة بـــل يـسـكـن الــــذاكــــرة كـــوشـــم لا فـــكـــاك مـــن مـفـاعـيـلـه المستقبلية. ***** ما أود التأكيد عليه أن ليست المتعة الروائية واحدة؛ بل هي مُتع عديدة تتخالف شكلا وآلية مع تبدّل القارئ والزمن والمـزاج. في العادة المتواترة يجد الـقـارئ الـشـاب لـذّتـه فـي الانـغـمـاس، والمفكّر يــجــدهــا فـــي الــتــركــيــب، والمـــكـــلـــوم فـــي الاعــــتــــراف، والعاشق للجمال في اللغة، والمتوتّر في القلق، والمغامر في الدهشة، والحكيم في الغياب. إنها ليست طبقات متنافسة بل مستويات متداخلة. قد نبدأ بالانغماس وننتهي بالغياب، أو نمر من بوّابة الدهشة إلى القلق ثم نعود إلى الاعتراف. الرواية الحقيقية لا تُشبِعُنا من الخارج؛ بل تُوقظ فينا القارئ من الداخل. وحين ندرك ذلك نفهم أن إمبسون كان محقاً: الجمال يكمن في التعدّد، في الغموض، في أن تكون التجربة الأدبية قابلة لأن تُقرأ بسبعة أنماط على الأقل. إذا كان الغموض في الشعر هو تعدّد المعنى؛ فــــإن المـتـعـة فـــي الـــروايـــة هـــي تـــعـــدّد سـبـل الـتـلـقـي. كلاهما دعوة غير مقيّدة للحرية؛ حرية الكاتب في أن يكتب، وحرية القارئ في أن يجد لذّته الخاصة، لا تلك التي أعدّها له المؤلف. أعـــظـــم خــــواص الـــروايـــة الـحـقـيـقـيـة هـــي أنـهـا تمنحنا هـــذا الــحــق الـجـمـيـل: أن يـحـبّــهـا كـــل منّا بطريقته ووسائله ومقاربته الفكرية الخاصة. لطفية الدليمي الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر» يــتــنــاول كــتــاب «إدراك الـــعـــالـــم... الـــصـــور الـنـمـطـيـة المـتـبـادلـة بين الأنـا والآخــر» للدكتور زهير توفيق، التصورات المتبادلة بين الــعــرب المـسـلـمـن والآخـــريـــن فــي الـعـصـور الـحـديـثـة والــوســطــى، لا سيما الشرق الفارسي والغرب الكنسي. وقد صدر الكتاب عن «الآن صفحة. 420 ناشرون وموزعون» بالأردن في يقول المؤلف في المقدمة معرِّفا بالكتاب: «يُمثِّل هـذا الكتاب دراســـة استقصائية تاريخية وتحليلية لـجـدل الأنـــا والآخــــر، من خـــال رصـــد الــتــصــورات المُــتـبـادَلـة بــن الــعــرب المسلمين والآخــريــن في العصور الوسطى والحديثة، كون العرب المسلمين مثَّلوا ذاتا لتعيين الآخـر، وتخيُّله على المستوى الديني والإثني والسياسي؛ خـاصـة الـفـرس والأســـود والـيـهـودي والمسيحي، بفرعيه اللاتيني والــبــيــزنــطــي، هــــذا مـــن جــهــة، ومــــن جــهــة أخــــرى كــونــهــم مـوضـوعـا للآخرين؛ أي صورتهم في المخيال الفارسي الشرقي (الشعوبية) والـــغـــربـــي الأوروبــــــــي؛ الـــرومـــي الـبـيـزنـطـي والــاتــيــنــي فـــي الــقــرون الوسطى، وتحولات تلك الصورة في أوروبا العصور الحديثة». ويرى المؤلف في المقدمة أن نظرة كلا الطرفين للآخر هي ثابتة، فلم «يخرج لا الشرق العربي الإسلامي، ولا الآخر في الشرق والغرب قديما وحديثاً، عن مُسلَّماته وطرائق تفكيره في فَهْم الآخــر، فقد بقيت ثوابتُه الحضارية والدينية والإثنية سُلطة مرجعية في فهم الذات والآخر، وتمييز الأنا عن الآخرين من فُرس ويهود وبيزنطيين ولاتين، ومهما تغيَّرت الصورة وتحوَّلت لأسباب داخلية وخارجية، فإن الثابت البنيوي فيها هو الآخرية وعُمق الغيرية؛ أي تصعيد الخلاف والاخـتـاف، فالذات هي المركز الـذي تـدور حوله الأطـراف، والأفضل والمعيار الأمثل، والآخر أو الآخرون مجرد أطراف، هوامش وبــرابــرة وكـفـارا ومنحرفين، ولا يستحقون أكثر مما تمنحه لهم الذات المتعالية». ويأتي المدخل التمهيدي للكتاب مستشهدا بالعلاقة بين الأنا والآخـر (الشرق والغرب)، على اعتبار أن الشرق حين يُذكر يتبادر إلــى الـذهـن الـشـرق المسلم على وجــه الـخـصـوص، والـغـرب يُـــراد به الغرب الأوروبي بالأساس قديما وحديثاً. يقول: «تفترض قراءتنا للموضوع استمرار الصور النمطية للعرب والمسلمين، وهي الصور التي تشكَّلت في العصور الوسطى، ودخــــلــــت مــعــجــم الــــغــــرب بــشــكــل نــهــائــي كــمــا هــــو فــــي الاســـتـــشـــراق السياسي والأنثروبولوجي الحديث (الواعي لذاته) الذي نشأ في نهاية القرن الثامن عشر مع حملة نابليون بونابرت على المشرق م». 1798 العربي سنة وعن وضوح رغائب الغرب من الشرق (المسلم)، يقول: «لم ولن يتلطّف الغرب مع الشرق إلا إذا تواطَأ معه على ذاته، وتماهى في خطاب الغرب ومسيرته ورطانته من خلال نُخبة فكرية وسياسية وكيلة، نجح الغرب في خَلْقِها ورفعها إلى سدَّة السُّلطة، واستمدت مـشـروعـيـتـهـا ومـرجـعـيـة وجـــودهـــا مِـــن دعــمــه المـطـلـق عـلـى جميع المستويات، ومقابِل ذاك الدعم سوَّقت خطابه في ثقافتها العالمة والشعبية عـلـى حـــد ســــواء، وهـــذا دلـيـل نـجـاح الــغــرب فــي اخـتـراق الشرق الذي وصل إلى طاعة الوكلاء، وامتثالية التابعين». ويفصِّل المؤلف القول حول أعـام الغرب البارزين الذين تبنوا أفكارا تنويرية، ومنهم جيبون: «يبدو جيبون منسجما مع التنوير، ويقدم رؤية مستقلة نقدية خاصة لأحكام الغرب المتحاملة والسلبية عن الإسلام حتى ذلك الوقت، ففي عرضه لأخـــاق الــعــرب وديـانـاتـهـم قـبـل الإســــام يــقــول: (غـيـر أنـــه في الدولة العربية، وهي أكثر بساطة [من الرومان واليونان] فإن الأمة حرة لأن كل فرد من أبنائها يستنكف أن يُطأطئ الرأس فـي خضوع وذلــة لإرادة سيد مـا، ولقد حصَّن العربي نفسه بفضائل صارمة من الشجاعة والصبر والاعتدال، ودفعه حبه للاستقلال إلى ممارسة عادة ضبط النفس، وحفظته خشية العار من أن يذل بالخوف من الألم والخطر والموت، وإن رجاحة عقل العربي وضبط نفسه واضحان في مظهره الخارجي)». عمَّان: «الشرق الأوسط»
RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky