issue17183

التاريخ قد يعيد نفسَه، ولكن بأشكال مختلفة، والمـــقـــارنـــة بــن تـــطـــورات وأحـــــداث مـهـمـة أمــــر يستحق الــــدراســــة مـهـمـا تــبــاعــد الـــزمـــان أو حــتــى المـــكـــان. ففي ، وضـــمـــن هــجــومــهــم عـــلـــى المــــشــــرق، أنــشــأ 1099 عـــــام الصليبيون الأوروبيون دولة القدس، التي ضمت في مرحلتها الكبرى كامل الأراضـي الفلسطينية ولبنان ونـصـف الأردن، وأجــــزاء كـبـيـرة مــن ســوريــا، وسيناء (مصر)، واستمرت تلك المملكة نحو مائتي عام (قرنين من الزمن). وكـان الحكام الإفرنج يسيطرون على كل شيء، أمَّــــــا الـــســـكـــان الأصــــلــــيــــون، الــفــلــســطــيــنــيــون والــــعــــرب، والمـــســـلـــمـــون، والــــيــــهــــود، وحـــتـــى بـــعـــض المـسـيـحـيـن الشرقيين... فكانوا طبقة سفلى مهمشة. إذن ما الذي أدَّى إلى انهيار تلك المملكة الكبيرة القوية، والتي كانت تتلقى دعما اقتصاديا وعسكريا غير محدود من القوى الأوروبية؟ هناك أسباب عدة حسب أقوال أغلب المؤرخين: أولاً: خـــافـــات داخـــلـــيـــة مـــتـــعـــددة بـــن كــثــيــر من الفصائل والـطـوائـف المختلفة (الــداديــة، والإستبارية والنيوكون)، كما أن الاختلافات شملت نوعية الدولة (دينية أم قومية وأيهما له الأولـويـة؟)، فمثلا تم نقل الـعـاصـمـة مــن عـكـا، المـديـنـة الاسـتـراتـيـجـيـة التجارية الواقعة على البحر، إلى القدس، لأسباب دينية بحتة، مــمــا أثــــر سـلـبـا عــلــى اقــتــصــاد الــــدولــــة، وعــاقــتــهــا مع أوروبا. ثانياً: الدخول في تحالفات مع الإمارات والقوى الإقـلـيـمـيـة آنـــــذاك وصـــراعـــاتـــهـــا المـخـتـلـفـة (مـــثـــل حلب ودمشق أو الموصل وبـغـداد)، أي أنها أصبحت جزءا من نسيج المنطقة في جانب الصراع وليس التعاون والسلم. ثالثاً: ضعف التفاهم والتواصل بين دولة القدس الصليبية مــن نـاحـيـة، والـــقـــوى الأوروبـــيـــة المختلفة، وهــــــذا الـــضـــعـــف يـــعـــود إلـــــى الـــثـــقـــة بــالــنــفــس الــــزائــــدة، والاختلافات داخـل القوى الأوروبـيـة حـول أولوياتها بما في ذلك العلاقة مع دولة القدس الصليبية. رابعاً: زيــادة عـدم الارتـيـاح، بل الـكُــرْه من إمـارات وشعوب المنطقة لدولة القدس لأسباب عدة، يأتي في الــدرجــة الأولـــى تصرفاتها وسياساتها، إضـافـة إلى الاختلافات الدينية والقومية. لهذه الأسـبـاب بـدأ مسلسل سقوط دولــة القدس من صلاح الدين الأيوبي إلى الخليل بن قولون، أو من إلى 1189 القدس إلى عكا، والذي استمر مائة عام من ، ولــم تستطع الصمود فـي محيط ليست جـزءا 1291 منه. ألا يذكرنا هذا بما يحدث الآن وبالذات مع حرب غـــزة، ويـشـمـل هـــذا وقـــوف بـعـض الـحـكـومـات الغربية ضد سياسات الحكومة الإسرائيلية والتأييد العالمي الكبير لاقتراح حل الدولتين؟ وعـــلـــى المـــســـتـــوى الــشــعــبــي بــــــدأت حـــركـــة كـبـيـرة مـعـارضـة لإسـرائـيـل ومتفهمة للقضية الفلسطينية في الغرب بما في ذلك الولايات المتحدة، وفي البداية اعتقد البعض إمكانية قمع تلك الـحـركـات الشعبية، ولكن يبدو أن هـذا القمع أدَّى إلـى العكس؛ أي زيـادة معارضي إسرائيل، وتفهم أكبر للقضية الفلسطينية. كما ظهرت حركة قوية ضـد المنظمة الرئيسية المـــؤيـــدة لإســـرائـــيـــل (إيــــبــــاك) وهــــو مـــا كــــان صـعـبـا في السابق. وعـــلـــى المــســتــوى الإقــلــيــمــي فـــــإن هــــدف إســرائــيــل هو الهيمنة العسكرية والسياسية، وإضعاف الـدول المـركـزيـة الـقـويـة، والـتـحـالـف مــع الأقـلـيـات واسـتـغـال الشخصيات الضعيفة. غير أن هـنـاك جــوانــب أخـــرى تجعل مـن تحقيق هـــذه الأهــــداف أمـــرا شـديـد الـصـعـوبـة، وهـــي الـجـوانـب الـــنـــفـــســـيـــة، والـــــخـــــوف مـــــن المـــســـتـــقـــبـــل، والــــصــــراعــــات الـداخـلـيـة، والـهـجـرات المـتـزايـدة لـلـخـارج، وعـــدم الثقة بــالــنــفــس أو بـــالآخـــريـــن. فــالإســرائــيــلــيــون يـتـجـنَّــبـون استخدام كلمة فلسطين والفلسطينيين، وكأنها بلا وجـــــود، ويـسـتـخـدمـون بــــدلا مـــن ذلـــك عـــبـــارة الــصــراع العربي الإسـرائـيـلـي، وبـهـذا يـريـدون إضـاعـة الجانب الــفــلــســطــيــنــي وتــــكــــون الـــقـــضـــيـــة صــــراعــــا بــــن جــانــب إســـرائـــيـــلـــي يـــهـــودي (دولــــــة صــغــيــرة بـسـبـعـة مـايـن 450 دولـــة يسكنها 22 نـسـمـة) وجــانــب عـربـي تمثله مليون إنسان. ويشمل الجانب النفسي الخوف الإسرائيلي من الـرمـوز، مثل العلَم الفلسطيني، رغـم أن هـذا العلَم لا يـرمـز إلــى جـانـب تـاريـخـي أو جـغـرافـي أو ديـنـي، كما هـو حــال الـعـلَــم الإسـرائـيـلـي الـــذي يضم نجمة داوود الدينية والتاريخية وخطين مستقيمين، ما قد يعني أن حـدود إسرائيل من النهر إلـى البحر أو من الفرات إلــى النيل. ومــن أهــم الـرمـوز لــدى الفلسطينيين التي تـكـرهـهـا إســرائــيــل هـــو نـــمـــوذج المــفــتــاح أو المـفـتـاحـن والـــذي يتم رسـمـه أو نحته بـأشـكـال مختلفة ويعني مفاتيح منازلهم التي هُــجّــروا منها أو تـم تدميرها، كـــمـــا تــــعــــارض إســــرائــــيــــل والمــــــؤيــــــدون لـــهـــا اســـتـــخـــدام قـطـعـة الـبـطـيـخـة الـــحـــمـــراء، حـيـث تــوجــد ألـــــوان العلم الفلسطيني. ومــــع حــــرب غـــــزة، قـــامـــت بــعــض الـــــدول الـغـربـيـة بـــتـــقـــديـــم مــــســــاعــــدات غـــيـــر مـــــحـــــدودة مــنــهــا الأســلــحــة بأنواعها، وكذلك المساعدات الاقتصادية والمالية، غير أن قـطـاعـا كـبـيـرا مــن الـشـعـوب الأوروبـــيـــة والأمـيـركـيـة وبــالــذات الشباب أصبحوا يفكرون بطريقة مختلفة لها جـوانـب إنـسـانـيـة، بـــدءا مـن مـعـارضـة للسياسات الإسـرائـيـلـيـة، وبـــالـــذات فيما يـخـص تـدمـيـر غـــزة، مع إدراك الــجــوانــب الـتـاريـخـيـة لـلـصـراع وأهـمـيـة إعـطـاء الفلسطينيين حقوقهم أو بعضا منها. ويساوي هذا في الأهمية الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي، فلم تعد الصهيونية القديمة ذات النظام الــعــلــمــانــي لــهــا الــهــيــمــنــة، ودخـــــل مـحـلـهـا المــتــديــنــون المتطرفون. لــقــد اســـتـــمـــرت دولـــــة الـــقـــدس المــســيــحــيــة قــرنــن، وإســـرائـــيـــل لـــم يــمــض عــلــى إنــشــائــهــا مـــن قــبــل الــــدول الغربية إلا سبعون عاماً، لكنها بدأت تواجه المشاكل نــفــســهــا، فــهــي الـــيـــوم لــديــهــا شـــعـــور بـــالـــقـــوة المـطـلـقـة والمبالغ فيها وشعور بالضعف في الوقت نفسه، فهي تقول إن طائراتها تسيطر على أجواء الشرق الأوسط، كــمــا قــــال نـتـنـيـاهـو لـــبـــايـــدن: «إذا لـــم تــســاعــدونــا في حرب غزة فسوف نستولي عليها ونحرر المخطوفين باستخدام أظافرنا»، وفي الوقت نفسه تشعر إسرائيل بـالـضـعـف والـــخـــوف وعــــدم الـثـقـة بـالـنـفـس مــن أشـيـاء كـثـيـرة، بـمـا فـيـهـا الـــرمـــوز كـمـا ذكــرنــا سـابـقـا، وكـذلـك الإعـــام بمختلف أنــواعــه، وهــي لا تحترم الاتفاقيات والقانون الدولي، كما أنها لا تثق بالآخرين بما فيهم أغلب الدول الغربية والدول العربية التي طبَّعت معها، ولا شك أنها في وضع متناقض، تماما كوضع دولة الـقـدس الصليبية منذ ألــف عـام والـــذي قـد يــؤدي إلى نـهـايـتـهـا، خـصـوصـا مــع اســتــمــرار العقلية والـقـيـادة الإســرائــيــلــيــة المــتــطــرفــة والــديــنــيــة الــحــالــيــة، وقــــد بــدأ بــعــض المــفــكــريــن بــالــشــعــور بـــذلـــك، فـجـمـعـت جـامـعـة هـارفـارد أرشيفا خاصا بتاريخ الـدولـة الإسرائيلية، وكـــأنـــهـــا تـــريـــد أن تــوثــقــهــا قــبــل نــهــايــتــهــا، وهـــــذا هو المؤرخ والباحث الإسرائيلي ديفيد باسيج، في دراسة حديثة يحذر من نهاية إسرائيل ومن منطلق التاريخ اليهودي والـصـراعـات التي تحدث دائما داخـلـه. فهل تـنـتـهـي دولــــة الـــقـــدس الـصـهـيـونـيـة كـمـا انـتـهـت دولـــة القدس الصليبية؟ في الغالب الإجابة (نعم)، والدلائل تشير إلـى ذلــك، ولكن كيف ومـتـى؟ فذلك مـن الصعب التكهن به، كما أنه يتوقف في الغالب على التصرفات الإسرائيلية وموقف حلفائها الغربيين. Issue 17183 - العدد Sunday - 2025/12/14 الأحد لم تكن خطوة المجلس الانتقالي الجنوبي في وادي حضرموت مـجـرد محاولة «تـقـدّم ميداني» كما حاولت بـعـض خـطـابـاتـه تـبـريـرَهـا؛ بــل كـانـت خـطـوة اعتباطية خطيرة. فقد اختارت قيادة «الانتقالي» أن تتحرَّك عكس اتجاه اللحظة الإقليمية، وأن تتجاهل الطبيعة الحساسة لحضرموت، ساعية إلى فرض واقع بالقوة على محافظة لم تكن يوما جزءا من مشروع أحادي، ولا تقبل بطبيعتها أن تُختزل داخل فصيل واحد. فـي مشهد أعـــاد إلــى الأذهـــان لحظة قفز الحوثيين ، وظّـــف «الانـتـقـالـي» 2014 عـلـى الــدولــة فــي صـنـعـاء عـــام خطابا تعبويا وحشدا مناطقيا لفرض أمر واقع على واد لم يكن يوما ساحة رخوة أو فراغا سياسياً. وبينما كان الإقليم يتجه نحو تثبيت الأمـن وإعـادة هندسة العلاقة بين القوى المحلية والفاعلين الكبار، اختار «الانتقالي» السير فـي الاتـجـاه المـعـاكـس: خـطـوة مرتجلة، ومخالفة لمنطق الـــدولـــة، وتـفـتـح الــبــاب أمـــام أخـطـر سـيـنـاريـو في جنوب اليمن، وهـو إعــادة إنتاج نموذج الميليشيا التي تبتلع الجغرافيا ثم تختطف القرار المحلي. الـقـراءة السطحية للمشهد تفترض أن حضرموت «مساحة يمكن السيطرة عليها إذا توفّر الـسـاح»، لكن هـــذه قــــراءة تـخـتـزل الـــواقـــع اخـــتـــزالا مــخــاً، فحضرموت ليست مجرد واد أو هضبة نفطية، بل نظام اجتماعيقبلي عـريـق، يحمل حساسية تاريخية عالية تجاه أي سلطة قسرية آتية من الخارج، شمالية كانت أو جنوبية. ولـهـذا السبب تحديدا فشلت، عبر عـقـود، كـل محاولات الإخـــضـــاع الــتــي اعــتــمــدت عــلــى الـــقـــوة لا عــلــى الـشـرعـيـة والقبول الاجتماعي. مـا تجاهله «الانـتـقـالـي» أن حـضـرمـوت، ولا سيما الــــــــوادي، لـيـسـت جـــــزءا مـــن «المـــركـــزيـــة الــجــنــوبــيــة» الـتـي يـسـعـى إلــــى فــرضــهــا؛ فــهــي كـــيـــان اجــتــمــاعــي وسـيـاسـي مستقل فــي المــــزاج والــهــويــة والـتـطـلـعـات. وكـــل مـحـاولـة لجرّها إلى مشروع أحـادي تتحول تلقائيا إلى اشتباك مع الذاكرة الحضرمية التي خبرت الهيمنة القادمة من عدن وصنعاء على السواء، وتعلم بالتجربة أن السلطة المنتزعة بالقوة لا تصنع استقرارا ولا تبني دولة. بـــهـــذا المـــعـــنـــى، وقــــع «الانـــتـــقـــالـــي» فـــي الــخــطــأ ذاتـــه الـــذي ارتـكـبـه الـحـوثـي حـن ظـن أن الـقـوة وحـدهـا قــادرة عـلـى صـنـاعـة شـرعـيـة. غـيـر أن حـضـرمـوت تمتلك الـيـوم من تماسك البنية القبلية، ومن الارتباط الاستراتيجي بالمملكة العربية السعودية، ما يجعل استنساخ النموذج الشمالي أمـــرا شبه مستحيل. فــالــوادي ليس فـراغـا، بل مجتمع كامل الأركان، يعرف تركيبته، ويحمي مصالحه، ويرفض أن يكون تابعا لمشروع لم يشارك في صياغته. لفهم عمق الأزمــة، لا بد من التذكير بالخصوصية التاريخية لـحـضـرمـوت، فمنذ مـا قبل الــوحــدة اليمنية تميّزت المحافظة بــإدارة شبه مستقلة وبيئة اجتماعية شـــديـــدة الــحــســاســيــة تـــجـــاه الـــنـــفـــوذ الــــقــــادم مـــن المـــراكـــز ، ورغـــم 1990 الــســيــاســيــة الـــكـــبـــرى. وبـــعـــد الــــوحــــدة عــــام الانـدمـاج فـي الـدولـة الـجـديـدة، حافظت حضرموت على قـــدر مــن الـتـمـايـز، ولـــم تُــحـكـم يــومــا عـبـر سـلـطـة أحــاديــة مستقرة مـن عــدن أو صـنـعـاء. ومــع تعمّق المـركـزيـة بعد ، ازداد شعورها بالتهميش، خصوصا في ظل 1994 حرب غياب مشاريع تنموية عادلة وتمثيل سياسي متوازن. لتعيد رســم المشهد جـذريـا، 2015 ثـم جـــاءت حــرب ففي الساحل برزت قوات النخبة، وفي الوادي ظل النفوذ موزعا بين المنطقة العسكرية الأولــى والتحالف القبلي بـقـيـادة عــمــرو بــن حـبـريـش، الــــذي مــثّــل، لــســنــوات، رمــزا للتوازن الاجتماعي لا بسبب قوته العسكرية، بل بسبب عمقه التمثيلي داخـل المجتمع الحضرمي. ومـع الوقت، بــــات الــــــوادي أكـــثـــر مــنــاطــق الــجــنــوب حــســاســيــة، لـكـونـه شريان النفط، وممر التجارة، ونقطة تماس مباشرة مع المملكة. فـــي هــــذه الـلـحـظـة الإقـلـيـمـيـة الــدقــيــقــة، جــــاء تـحـرك «الانتقالي» نحو سيئون والهضبة النفطية قبل القمة الـخـلـيـجـيـة بـــأيـــام قــلــيــلــة، فـــي تــوقــيــت خـــاطـــئ ورســـالـــة خاطئة. كان يُفترض بالقوى المحلية أن تدرك أن الإقليم يعيد تعريف أولـويـاتـه الأمنية، وأن السعودية تتحرك لتثبيت تـوازن جديد يمنع تكرار الفشل في دول أخرى. لكن «الانتقالي» أخطأ في ما قام به في حضرموت. مقاربة «الانتقالي» لم تكن خطأ تكتيكيا فحسب، بل سوء قراءة لبنية القوة في الإقليم ولموقع السعودية فيه. فحضرموت ليست ساحة لاختبار النفوذ، بل صمام أمـــان اقـتـصـادي وأمــنــي، ومــن يـمـس اسـتـقـرارهـا يلامس مباشرة منظومة الأمن الخليجي بأكملها. الأخــــطــــر فــــي هـــــذا المــــســــار أنـــــه يــعــيــد إنــــتــــاج مـنـطـق «الميليشيا الموازية للدولة»، أي بناء قوة مسلحة خارج الإطــــار المـؤسـسـي ثــم مـحـاولـة شرعنتها عـبـر السيطرة على الجغرافيا. هذا المنطق لا يهدد حضرموت وحدها، بـــل يـفـتـح الــجــنــوب عـلـى صـــراعـــات مـنـاطـقـيـة، ويــقــوّض شرعية الدولة، ويخلق فراغات أمنية قابلة للاختراق من الجماعات المتطرفة، ويضعف الجبهة المناهضة للحوثي في لحظة كان يفترض أن تتجه فيها القوى اليمنية نحو توحيد الصف. في خضم هـذا الاضـطـراب، بـرز الــدور السعودي بوصفه عامل التوازن الوحيد الـذي حال دون انزلاق حـضـرمـوت إلـــى حـــرب جـنـوب-جـنـوبـيـة واســـعـــة؛ فقد تعاملت المملكة مع الأزمــة بمنهج مـسـؤول، ركّــز على احـتـواء التصعيد، وحماية المنشآت النفطية، ومنع الانــهــيــار الأمـــنـــي، ونـجـحـت فــي فـــرض تـهـدئـة مبكرة وإعـادة ترتيب المشهد دون الانجرار إلى دعم مشروع فصائلي، انطلاقا من إدراكها أن استقرار حضرموت ليس تفصيلا محلياً، بل ركيزة أساسية لأمـن اليمن والمنطقة. تـكـشـف أزمــــة حــضــرمــوت درســــا واضـــحـــا: لا يمكن القفز فـوق الجغرافيا ولا فـوق منطق الـدولـة، ولا يمكن لليمن أن يُدار بفصيل واحد أو مشروع أحادي. الشرعية الحقيقية تُــبـنـى بـالـتـوافـق، لا بـالـسـاح، والاســتــقــرار لا يُصنع بالمغامرة. ومن هنا، فإن النهج السعودي القائم عـلـى دعـــم الـــدولـــة، ومــنــع مـنـطـق المـيـلـيـشـيـات، وتثبيت التوازن، يقدّم النموذج الأكثر واقعية لأي مقاربة جادة لــلــخــروج مـــن الأزمـــــة الـيـمـنـيـة، ويـمـنـح الـيـمـنـيـن فـرصـة لتفادي إعادة إنتاج الكارثة التي بدأت في الشمال وكادت تُستنسخ في الجنوب. تعرَّفنا في المـقـال السابق على الفصل المجهول في تاريخ مجلة «الفكر الجديد» عند كـل الذين كتبوا عن تاريخ حياة سيد قطب. وهـو الفصل الذي رواه خالد محمد خالد في سيرته الذاتية «قصتي مع الحياة». وكنت قـد أبـــرزت فـي روايـــة خالد محمد خالد سخطَه المبطّن على سيد قطب، لهبوطه عليه وعلى محمد الغزالي فجأة - والمجلة كانت قيد الصدور - منتزعا منهما رئاسة التحرير بقرار من ممولها ومالكها الحاج محمد حلمي المنياوي، وهو الأمر الذي لم يُوغر صدر الغزالي على سيد قطب لسبب نفعي خاص به، أوضحته في ذلك المقال. سيد قطب سيسخط على خالد محمد خالد بعد سنتين من سخط خالد محمد خالد الشخصي عليه، لسبب آيديولوجي وليس لسبب شخصيٍّ. هذا السبب هو تحول خالد محمد خالد، الشيخ الأزهـــري من اتجاه إسلامي إلى .1950 اتجاه تحرري في كتابه الأول «من هنا نبدأ» الصادر عام نلمس هـذا السبب في مقال سيد قطب في مجلة «المباحث». هـذه المجلة 1946 استأجرها صالح عشماوي - وكيل جماعة «الإخــوان المسلمين» من عام إلى ما بعد تعيين حسن الهضيبي مرشدا لها، الذي بعد تعيينه مرشدا أقاله من منصبه وعـن فيه عبد القادر عـودة - لتكون منبرا إخوانياً، فكانت منبرا . وقد 1951 ) يناير (كانون الثاني 23 إلى 1950 ) مايو (أيار 30 إخوانيا مؤقتا من أنهى صالح عشماوي استئجارها بعد أن سمحت حكومة مصطفى النحاس بــأن يـكـون لجماعة «الإخــــوان» منبر إعـامـي، فيحصل صـالـح عشماوي على امتياز مجلة أسبوعية سماها مجلة «الدعوة» صدر أول عدد منها يوم الثلاثاء .1951 يناير 30 سيد قطب هاجم خالد محمد خالد لدعوته إلى علمنة الدولة والمجتمع في مصر في كتابه الأول «من هنا نبدأ»، وأشاد برد محمد الغزالي عليه في كتابه «مـن هنا نعلم». مقال سيد نُشر في تلك المجلة الإخوانية المستأجرة بتاريخ ، وكان عنوانه «من هنا نبدأ ومن هنا نعلم». 1950 ) ديسمبر (كانون الأول 19 رد محمد الغزالي الذي صدر في كتاب، كان صالح عشماوي هو من كتب التقديم له. وكان صالح عشماوي من كتبة «الإخوان المسلمين» السبّاقين في الهجوم على كتاب «من هنا نبدأ»، فمع صدور طبعته الثانية في شهر يونيو (حزيران) (الطبعة الأولى صدرت في شهر فبراير/شباط ذلك العام) كتب في مجلة 1950 ردا على إشادة عضو مجلس الشيوخ محمد 1950 يونيو 6 «المباحث» بتاريخ خطاب بالكتاب، كان عنوانه «قيصر وما للقيصر لله الواحد القهّار». وبتاريخ في تلك المجلة هاجم الكتاب مرة أخرى بمقال 1950 ) نوفمبر (تشرين الثاني 28 عنوانه «من هنا نعلم». وهذا العنوان استمده من عنوان رد الغزالي «من هنا نعلم» الصادر في شهر نوفمبر من ذلك العام، الذي أرّخ صالح لكتابة تقديمه . وأود لفت انتباه 1950 ) أكتوبر (تشرين الأول 20 هجرية، أي 1370 محرم 8 له بـ الــقــارئ لأن مـقـال سيد قطب (مــن هنا نـبـدأ ومــن هنا نعلم) هـو المـقـال الثالث والأخير الذي أثنى فيه سيد قطب على كتب محمد الغزالي، وذلك قبل أن تسوء العلاقة بينهما، فسيد قطب كان من أنصار حسن الهضيبي ومن المدافعين عنه عملا وكتابةً، والغزالي كان على رأس الثائرين عليه عملا وكتابةً. سخط سيد قطب الآيديولوجي على خالد محمد خالد تحول إلى سخط شخصي حانق عليه بلغ حد النفور منه. علمت بهذا من حكاية سمعتها: تعرفت على رجل فاضل كان يزور بين حين وآخر 1997 و 1996 ما بين عامي مكتبة «الإصــــدارات» في موقعها القديم بشارع مكة - حي المـزرعـة بالرياض، التي كان يملكها الصديق الراحل سلمان الشبيب. هـذه المكتبة كانت تتميز عـن المكتبات التجارية الأخـــرى ببيع الطبعات النافدة والطبعات النادرة من الكتب، وبيع المجلات العتيقة والدوريات القديمة، سواء المعروفة عند عامة المثقفين أو المعروفة عند خاصتهم من المعنيين بتاريخ الثقافة العربية الحديثة. صـاحـب الحكاية كــان يـــزور المكتبة بصحبة سائقه الــخــاص، الـــذي كان يتولى دفع الكرسي المتحرك الذي يقتعده صاحب الحكاية. في إحدى زياراته للمكتبة أراه الصديق سليمان الشبيب طبعات قديمة لمجموعة من كتب خالد محمد خالد، يرجع تاريخ طبعاتها إلى الخمسينات الميلادية. فروى لنا هذه الحكاية عن خالد محمد خالد وسيد قطب التي سردها على النحو الآتي: «مع صدور كتب خالد محمد خالد الأولى، وكنّا في أول الشباب، شغفنا إعجابا بها، بخاصة (من هنا نبدأ) و(مواطنون لا رعايا). ولمّا أتيحت لي ماليا ،1953 أنا وشلة من الأصدقاء المعجبين بخالد محمد خالد زيارة القاهرة عام تطلعنا إلى زيارته في بيته، فهاتفناه من أجل هذا الغرض، فضرب لنا موعدا في مكتبة وهبة. وفـي اللقاء الــذي جمعنا به كـان سعيدا بإعجاب شباب من السعودية به، وكان وجهه يتهلل بِشرا مع حديثه المتدفق إلينا ثم فجأة امتقع وجهه وتوقف عن الكلام لما رأى سيد قطب يدخل إلى المكتبة، لكنه هب واقفا يُحيي سيد قطب ويرحب به ويسأل عن حاله وأحواله، مخاطبا إياه بأستاذنا، وعرّفه بنا بأننا شباب من السعودية يهوون القراءة، وبالمقابل استقبل قطب حفاوته به بوجه منصرف عن النظر إليه، ورد على حفاوته بكلمات شديدة الاقتضاب تعلن انزعاجه من هذا اللقاء الذي جمعهما في مكان واحد مصادفة، فسكت خالد محمد خالد محرجا من تصرف سيد قطب المجافي للأدب واللباقة والذي صغّر مقامه أمام فتية أغراب، هو في أعينهم ذو مقام رفيع. ولما استوى سيد قطب جالسا على كرسي قدّمه له صاحب المكتبة، وهبة حسن وهبة، قلنا له لنرطّب الجو وحتى لا يشملنا باستيائه: نحن نعرف رأي الأستاذ خالد محمد خالد في قضية (تحرير المـرأة) فلقد قرأناه في فصل من كتابه (من هنا نبدأ) وسمعنا المزيد منه في حديثه الكريم إلينا، فما رأيك - يا أستاذ - في هذه القضية؟ فأجاب: المرأة التي نريد ليست هي المرأة المحجور عليها بالسعودية، ولا المرأة التي نراها في شارع محمد علي. قال بهذه الإجابة المختصرة ولم يزد!». مع أن صاحب الحكاية - رحمه الله - وصحبه لم تكن تستهويهم قـراءة كـتـبـه الإســـامـــيـــة، ولا قـــــراءة الـكـتـب الإســامــيــة الــجــديــدة لمـؤلـفـن غـــيـــره، فما تستهويهم قراءته من كتب هي الكتب التي تنشد التجديد والعصرية فإنهم مع هذا أُعجبوا بإجابة صاحب الحكاية - وهو ينطق بإجابته المختصرة كان محتفظا بالإعجاب رطبا على شفتيه، مع أنه قد طعن في السن. إجــابــة سـيـد قـطـب المـخـتـصـرة الـتـي أعجبتهم تـرتـكـز عـلـى الـحـد الـوسـط الأرسطي ذي القاعدة الذهبية: لا إفــراط ولا تفريط، وهـي القاعدة المتبعة في علم أصول الفقه الإسلامي. ســيــد قــطــب لمـــا رأى تـحـلّــقـهـم حــــول خــالـــد مـحـمـد خـــالـــد تــحــلّــق المــريــديــن أدرك أنـهـم مــشــددون إلــى الـتـمـدن المقتبس مـن الـغـرب فـي مـوضـوع المـــرأة وفي موضوعات أُخر. فلو كانوا من الشباب السعودي التقليدي لما كان قال: إن المرأة في السعودية محجور عليها! إن إجابته المختصرة تعتمد على مغالطة ديماغوجية، فهي تقدم خيارين حــاديــن متناقضين لــلــمــرأة: المــــرأة «المــحــجــور» عليها فــي الــســعــوديــة، والمــــرأة «المتفلتة» أو الراقصة أو «العالمة» في شارع محمد علي. حرية «العوالم» في شـارع محمد علي لا صلة لها بحركة «حقوق المـرأة» أو حركة «تحرير المرأة» في مصر، وحركة «تحرير المرأة» لا شأن لها بحريتهن وليس لهن دور فيها بل هن ضدها، لأنهن يرين أنها ضرب من ضروب تسليع جسد المرأة وامتهانه. حركة «تحرير المرأة» في مصر تستند إلى مرتكزات آيديولوجية طليعية مصدرها الغرب، ورقـص «العوالم» إرث مصري مملوكي لم يعرفه الغرب في تاريخه الترفيهي. إن أولئك الشباب السعودي حين سألوه عن رأيه في حركة «تحرير المرأة»، كانت هذه الحركة لا تزال ناشطة في المطالبة بمزيد من حقوقها في المشاركة في مجالات شتى، وبإجابة ملتوية مخادعة، كان مثالها عند سيد قطب «عوالم» شارع محمد علي. وللحديث بقية. يوسف الديني علي العميم إبراهيم عبد العزيز المهنا OPINION الرأي 14 لقاء غير سار لخالد محمد خالد مع سيد قطب حضرموت ومنطق الدولة القدس بين الصليبية والصهيونية

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky