issue17180

Issue 17180 - العدد Thursday - 2025/12/11 الخميس كتب BOOKS 17 بوابة إلى عالم أفريقيا يكاد الأدب الأفريقي يكون مجهولا للقارئ الـــعـــربـــي، لــيــس بــســبــب غـــيـــابـــه، بـــل بــســبــب قلة الترجمات من هـذا الأدب، إذا ما استثنينا تلك الـــتـــرجـــمـــات لـــأعـــمـــال الـــتـــي يــــصــــادف أن تــفــوز بـــجـــوائـــز عـــالمـــيـــة، إذ يــتــهــافــت المــتــرجــمــون على ترجمتها. تــقــدم مـجـمـوعـة «رقـــصـــة الـــعـــاج» الـــصـــادرة حديثا عن «الآن ناشرون وموزعون» في الأردن ) لـلـمـتـرجـم د. بــاســم الــزعــبــي منتخبات 2025( قــصــصــيــة تــــعــــود إلــــــى حـــقـــب زمـــنـــيـــة مـــتـــعـــددة، ولـــكـــتّـــاب أفــــارقــــة مـــن دول مـــتـــعـــددة. نــجــد هنا مؤلفين معروفين، ومؤلفين أقل شهرة، وممثلين للاتجاه الفولكلوري في الأدب، والأدبـــاء الذين يــــصــــورون حـــيـــاة المــــــدن، وطــيــفــا مـــن الأســالــيــب والاتـــــجـــــاهـــــات المـــتـــنـــوعـــة بـــــدرجـــــة كــــبــــيــــرة، مـن العفوية إلى الواقعية والسوريالية. إن اللوحات الحياتية القصيرة، والرسومات السيكولوجية، وصور الحياة التقليدية، والاستعارات المجازية المعقدة والأحــداث المؤثرة، والقصص الساخرة، والـحـكـايـات البسيطة، والأحـــاديـــث الـرمـزيـة، لم تـتـعـايـش عـلـى صـفـحـات كــتــاب واحــــد وحـسـب، لـــكـــنـــهـــا قـــــــــادرة عـــلـــى أن تــــقــــدم نـــفـــســـهـــا وحـــــدة حقيقية، لأن أفريقيا المعاصرة تتنفس على هذه الصفحات بكل تناقضاتها: طيبتها، ودمامتها، حكمتها، وخرافتها، وروعتها الشعرية. جاء في تقديم الكتاب: «ســــيــــاحــــظ الــــــقــــــارئ أن قـــضـــيـــة الــتــمــيــيــز الـــعـــنـــصـــري هـــــي الأهــــــــم فـــــي الأدب الأفــــريــــقــــي، خصوصا لدى كتاب جنوب أفريقيا. وسيلاحظ أيــــضــــا شـــيـــئـــا آخــــــر مــــن دون شــــــك: إن الـــتـــطـــرق إلــــى هــــذه المـــواضـــيـــع لا يـحـمـل طــابــعــا شــعــاريــا، ومتحررا من الصبغة الأخلاقية أو البوليسية. والــــحــــلــــول الــــســــاخــــرة لـــلـــمـــوضـــوعـــات أصــبــحــت ذات خـصـوصـيـة، فـهـي عـلـى نـحـو مــفــارق تؤكد تراجيدية الحالة. إن الــــجــــزء الـــفـــولـــكـــلـــوري مــــن المــنــتــخــبــات يشكّل قسما متنوعاً، متعدد الـتـاويـن، بعض الـــقـــصـــص تــــبــــدو إعـــــــــادة بـــســـيـــطـــة لـــلـــحـــكـــايـــات الشعبية. وعلينا أن نتذكر أن هـذا العمل يعد عملا أدبيا جادا ومتعدد الوظائف بالنسبة إلى الكتاب الأفـارقـة. ومـن الـضـروري تكييف اللغة الأجـنـبـيـة (الـغـربـيـة) لإيــصــال الـقـيـم الأفـريـقـيـة، ومـن الـضـروري جعل النص الفولكلوري نصا أدبـيـا، وأخـيـرا يتوجب إيـجـاد حـلـول للمسائل التأليفية - الإبداعية. ومع ذلك فإن هذا الكتاب لا يــجــمــع الأعــــمــــال الـــفـــولـــكـــلـــوريـــة فـــقـــط، فـعـلـى )protista( أساس المادة الفولكلورية بُنيت قصة المليئة بالرموز والاستعارات المجازية، القصة المـــؤثـــرة والــدقــيــقــة، الـــبـــدايـــة الــخــاصــة بـالمـؤلـف بـــالـــتـــأكـــيـــد هــــي الــــســــائــــدة هـــنـــا، أمـــــا الــتــحــلــيــق الــســوريــالــي فـيـعـطـي الـتـفـاصـيـل (الـفـلـكـلـوريـة) تكوينا غير منتظر، ولونا خاصا إلى حد كبير. أما الكاتب الكيني نغوغي فاهتينغو فيتضمن أدبه السيكولوجي العميق الحكاية الشعبية. أمــــا الـــجـــزء الأســــاســــي مـــن هــــذه المـجـمـوعـة فتشكله القصص الـواقـعـيـة، والــقــارئ الممحّص سـيـسـتـخـلـص مــنــهــا إشــــــــارات غــنــيــة عــــن حــيــاة أفريقيا المـعـاصـرة، والـــذي لا نستطيع تحقيقه مـــن خــــال الـــكـــثـــرة، مـــن الــــدراســــات الاجـتـمـاعـيـة والإثـنـوغـرافـيـة، والـديـنـيـة. هنا نجد المعتقدات الــــديــــنــــيــــة الــــتــــقــــلــــيــــديــــة، والــــــعــــــاقــــــات الـــبـــيـــنـــيـــة القبلية، ووضــع المـــرأة، وعـــادات الـــزواج، وولادة الـبـرجـوازيـة المحلية، ورذائــــل المـديـنـة، وقصص الحب، والدعارة، ومهانة الإنسان، والفضيلة... بـاخـتـصـار، كــل شـــيء يـدخـل فــي تـكـويـن صــورة أفريقيا اليوم». عمّان: «الشرق الأوسط» طبعة جديدة من رواية «الرّوع» لزهران القاسمي كسر الخوف وتحويله إلى «فزّاعة» عاطفية بــــرغــــم الــــحــــضــــور الـــــبـــــارز لــــهُــــويــــة الـــقـــريـــة العُمانية فـي روايـــة «الــــرّوع» لـلـروائـي والشاعر العماني زهـــران الـقـاسـمـي، فــإن الـبـنـاء النفسي لـبـطـلـهـا «مـــحـــجـــان» يـــبـــدو هـــو المـــحـــرّك الأعــمــق للسرد، حيث العالم يُعاد ترتيبه وفق هواجس الداخل، لا وفق تضاريس المكان وحدها. في الـروايـة، الصادرة في طبعتها الجديدة أخــــيــــرا عــــن دار «الــــــشــــــروق» بــــالــــقــــاهــــرة، يـظـهـر «محجان» بطلا يُحركه الخوف أكثر من أي دافع آخـر، فيصنع «فـزّاعـة» تحرس مزرعته، ينحتها من خوفه، مستعينا بالقش والقماش والخشب، وكأن الرواية تعيد تمثيل موروث «الفزاعة» التي يلجأ إليها البطل للحماية، إلا أن مُخيلته تدفعه إلــى أفــق أكـثـر تشابكا وتعقيداً؛ أفــق يقترب في بنيته من طيف «فرانكنشتاين» لدى ماري شيلي، لا من جهة التشابه السردي، بل من حيث وقوف الإنـــســـان أمـــــام «مــصــنــوعــه» مـــأخـــوذا ومـفـتـونـا، فيقف محجان أمام فزاعته كمن يُعاين روحه وقد اكتسبت جسداً، فيقول الـراوي: «شيء لا يُصدّق! كيف استطاع أن يصنعه أخيرا بذاك الكمال، تكاد الحياة تدب في أوصاله، والدم يتدفق في عروقه، محدقا فيه بعشق مـن وجــد ذاتـــه» لـتـؤول فزّاعة الخشب إلى كائن يرى فيه محجان «هشاشته»، أكثر مما يرى فيه حماية لقمحه وسنابله. مُعادل عاطفي تــــــفــــــيــــــض لـــــــغـــــــة الــــــــــروايــــــــــة بشِعرية دافقة، تضفي حالة من «الأنـسـنـة» على تلك «الــفــزّاعــة»، وهـــــو مــــا يــنــعــكــس عـــلـــى الــحــالــة العاطفية التي تجمع البطل بها، فهو يرفعها إلـى مقام الخِطاب، ويـــشـــحـــنـــهـــا بــــمــــامــــح أنــــثــــويــــة تـسـتـعـيـد مـــواريـــث الـحـمـايـة في الحضارات القديمة، فيرقّيها من درجة الجماد إلى درجة الإنسية ذات الأثـــــر والــــنــــداء، حــتــى يـــتـــجـــاوز حـضـورهـا وظيفتها، ليمنحها منزلة وجـدانـيـة، كشريكة لهواجسه، لا مجرد أداة حراسة. يُــطـلـق الـبـطـل عـلـى فــزّاعــتــه اســـم «الـــــرّوع»، الذي جمع فيه كل مواريث الرعب التي مرّت عليه في قريته، فيجد في تلك التسمية مقاما جامعا للهيبة والمنعة والـردع، يمنحها لجسد من قش وخشب وقـمـاش، مـوكـا إليها حماية مزرعته، وتنقية ذاكرته من كل مصادر خوفه؛ بداية من كائنات الليل وحتى ثياب العجائز السوداء. لا تنتهي سيرة «الـــرّوع» بمجرد صنعها، إذ تتحوّل تدريجيا إلى مُعادل عاطفي يذوب فيه الحد بين الحب والـخـوف، وبـن الأمــان والفزع، فيختص البطل نفسه بالتودد لها، ويعتبرها خازنا لأسراره، يقترب منها مستشعرا مهابتها ورهــبــتــهــا، وفــــي مــفــارقــة إنــســانــيــة يحتضنها ويبكي فوق كتفها، ويتساءل: «الرّوع زعلانة... أنا السبب»، وذلك في لحظة تبرير لعجزها عن حماية مزرعته، وعندما تقف وحدها في الحقل «باسطة ذراعيها مثل وحش جبار نبت فجأة في المكان»، يتسع حضورها ليغدو أقرب إلى هيمنة كائن أسطوري منه إلى هيكل فزّاعة هشة. شريك وجودي يــقــدّم الـنـص بطله المـــركـــزي مــن منظورين مــتــقــابــلــن؛ مـــنـــظـــور ذاتـــــــي، حـــيـــث يـــبـــدو كـائـنـا مــذعــورا يتخبّط فــي قلقه الـــوجـــودي، ومنظور خـارجـي، حيث يُــرى بعين أهـل القرية كشخص مُثير للتندر، ومـــادة للسخرية وسِــهـام الأمثال الشعبية؛ فـيُــضـرب بــه المـثـل ويُــخـتـزل فــي طـول قامته اللافت وفجاجة حضوره، فيُحاصره المثل الشعبي القائل: «الطول طول نخلة والعقل عقل صخلة». هــكــذا يـــتـــوارى اســمــه الحقيقي خـلـف لقب صــار لصيقا بــه، حتى غلب اللقب على الاســم، فصار «محجان» كناية عن العصا الطويلة التي تُــهــز بـهـا الأشـــجـــار لتتساقط أوراقـــهـــا فتأكلها الحيوانات، وربما من هذا الازدواج الجارح بين الـداخـل المرهف والـخـارج الصلف يتولّد الشرخ المؤسس للرواية، شرخ لا يردمه البطل إلا بخلق مُعادل يقيه العالم؛ كائن يصنعه بيديه، يحميه ولا يجرحه، ويؤازره في خوفه. يــتــســع أفــــق الـــســـرد مـــن عـــاقـــة «مــحــجــان» بــــــ«رّوعـــــه»، الـــتـــي يــفــتــرض بــهــا إخـــافـــة الـطـيـور والدواب، إلى تحوّلها عبر مفارقات ميلودرامية إلــى مصدر رعــب لأهــل الـقـريـة، فـا تعود مجرد دمـــيـــة مــــن خـــشـــب، بــــل تــصــبــح شُـــبـــهـــة، ونـــذيـــر شــر، فينسج الأهــالــي حولها حـكـايـات السِحر، ويُـــحـــمّـــلـــونـــهـــا هــــي وصــاحــبــهــا «مـحـجـان» وزر كـل مـا يـطـرأ من شر في قريتهم، فيتحّول «رّوع مـــحـــجـــان» مـــن مــحــض «فــــزّاعــــة» بائسة لإخافة الطيور، إلى لعنة القرية وبلائها. فـــــي هـــــــذا الأفــــــــــق، لا يـــبـــدو الـــــــــــــخـــــــــــــوف مـــــــــحـــــــــض شـــــــعـــــــور يـصـطـحـب الــبــطــل مــنــذ طفولته «الــــتــــراجــــيــــديــــة»، الـــتـــي يـعـاصـر فـــيـــهـــا إصـــــابـــــة والـــــــــده بــالــعــمــى بـعـد سـقـوطـه مـــن نـخـلـة، ليكبر «محجان» رجلا تسكن مناماته الـلـيـلـيـة «الــجــواثــيــم»، وتــطــارده هـواجـس سرقة قمحه بالنهار، فـيـؤول الخوف شـريـكـا وجـــوديـــا يــتــطــوّر ويـتـنـاسـل عـبـر عـديـد الصور والتمثيلات، ينبت من موروث دفين في تربة الذاكرة الأولى. وبرغم عناية زهران القاسمي برسم المعالم المحلية العمانية في روايته، فإن العالم النفسي للبطل يـبـدو هــو قــاطــرة الـعـمـل، بـمـا منحه من خـصـوصـيـة أبــعــد مـــن حــــدود ســيــاقــه الـثـقـافـي، فــتــســتـعــيــد الـــــروايـــــة مــــواريــــث «حــــــرق الأخـــضـــر واليابس» كاستعارة للجنون المُغلف بالحكمة، وهو الجنون الـذي يدفع البطل لحرق ما وراءه قبل أن يلوذ بالهرب، في مصير ضبابي يمنحه له السارِد، ربما لمنحه أبدية ما، وعمرا أطول من خوفه، وسؤالا معلقاً؛ كفزّاعة في قلب الريح. تــــغــــدو «الــــــــــــــرّوع»، بـــمـــا تـــحـــمـــلـــه مـــــن قـــش وذاكـرة، مرآة تكشف الجانب المُعتم في النفس أكـثـر مـمـا تـحـرس الـحـقـول، فــا نـوقـن هــل نجا «مـــحـــجـــان» أم ظــــل عــالــقــا فـــي حــكــايــة صنعها بنفسه، لكن سـرديـة الــروايــة تُــعـزز ذلــك اليقين بـــأن الـــخـــوف حـــن يُــنـحـت ويُــســمــى ويُــخــاطَــب، يتحوّل إلى كائن يتنفس، حارسا ينازع صدى قديماً، ورفيقا لا فكاك منه. القاهرة: منى أبو النصر إلى سلاح لحماية إسرائيل 19 تحوّل من توصيف لحركة سياسية في القرن الـ مؤرخ يهودي يفكك مفهوم «معاداة السامية» فـــي خــضــم الـــصـــراعـــات الـسـيـاسـيـة والــــثــــقــــافــــيــــة المــــحــــتــــدمــــة الـــــتـــــي شـــهـــدهـــا الـغـرب على هـامـش الـحـرب الإسرائيلية الأخــــــيــــــرة عــــلــــى غـــــــــزة، يـــــبـــــدو مــصــطــلــح «مــــعــــاداة الــســامــيــة» وكـــأنـــه فــقــد حــــدوده التعريفية الواضحة، وتحول إلى ساحة مــعــركــة دلالـــيـــة مـسـيّــسـة بــأكــثــر مــمــا هو توصيف لظاهرة تاريخية. كتاب المؤرخ الـبـريـطـانـي الـــبـــارز وأســـتـــاذ الــتــاريــخ في جــامــعــة كــولــومــبــيــا، مـــــارك مـــــــازور، «عــن مــــعــــاداة الـــســـامـــيـــة: تــــأريــــخ لـلـمـصـطـلـح» مــحــاولــة تـفـكـيـكـيـة جــريــئــة لــلــمــفــهــوم، لا يكتفي فيه بسرد تاريخ كراهية اليهود، وإنما يغوص في تاريخ «الكلمة» نفسها، وكــــيــــف تـــحـــولـــت مـــــن تـــوصـــيـــف لــحــركــة سياسية أوروبية في القرن التاسع عشر، إلى سلاح جيوسياسي في القرن الحادي والــعــشــريــن يُــسـتـخـدم لـخـدمـة سـيـاسـات دولة إسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب. ينقسم «عـــن مــعــاداة الـسـامـيـة» إلـى قــســمــن رئــيــســيــن يــعــكــســان الـــتــحـــولات الجذرية للمفهوم: الأول يتناول صعود وســــــقــــــوط مـــــــعـــــــاداة الــــســــامــــيــــة كـــحـــركـــة سياسية أوروبــيــة، بينما يعالج الثاني «النموذج المفاهيمي الجديد» الذي ظهر بـعـد الــحــرب الـعـالمـيـة الـثـانـيـة، وتـحـديـدا منذ سبعينات القرن الماضي. يـنـطـلـق مـــــازور مـــن تـمـيـيـز جـوهـري وحــــاســــم بــــن كـــراهـــيـــة الـــيـــهـــود كــظــاهــرة قـديـمـة قـــدم الــتــاريــخ الـديـنـي فــي أوروبــــا، ومصطلح «مــعــاداة الـسـامـيـة»، الاخـتـراع الحديث نسبياً، الـذي تم صكه في أواخـر القرن التاسع عشر في ألمانيا، مع التشديد على خطورة الخلط غير البريء بين العداء الــديــنــي الـتـقـلـيـدي والـــظـــاهـــرة الـحـديـثـة. ويــرى أن مـعـاداة السامية «الكلاسيكية» نشأت كحركة سياسية مضادة للحداثة، وجــــــــاءت كــــــرد فـــعـــل مـــبـــاشـــر عـــلـــى عـصـر التحرر الذي منح اليهود حقوق المواطنة المــتــســاويــة فـــي الــــــدول الأوروبـــــيـــــة. هــدف هــــــذه الـــحـــركـــة تــــجــــاوز مـــســـتـــوى تـــرويـــج صـور نمطية سلبية عن السكان اليهود، وسعت إلــى إقـنـاع الجمهور بأنهم أقلية تـشـكـل تــهــديــدا وجـــوديـــا يــمــس الـقـضـايـا الاجتماعية والسياسية الجوهرية للدولة القومية الصاعدة. في تلك الحقبة، تداخل المفهوم مع النظريات القومية والعرقية الزائفة التي سادت القارة القديمة، لتبلغ هذه الحركة ذروتـهـا مـع صـعـود الـنـازيـة إلــى السلطة في ألمانيا. وهنا يطرح مازور فكرة لافتة: إن هزيمة أدولف هتلر لم تنه التحيز ضد الــيــهــود، وإنــمــا أدت إلـــى «نـــزع الشرعية عــن مــعــاداة الـسـامـيـة كـبـرنـامـج سياسي إيجابي». بمعنى آخر، لم يتوقف الناس ، لكن 1945 عـن كـراهـيـة الـيـهـود بعد عــام الـــتـــبـــاهـــي الـــعـــلـــنـــي بـــذلـــك والــــتــــرويــــج لـه كـمـنـصـة انـتـخـابـيـة أصــبــح أمــــرا مـنـبـوذا رسميا وأخلاقيا في الغرب. القسم الثاني، والأكثر إثارة للجدل، يـــتـــفـــرغ لمـــعـــالـــجـــة المـــعـــضـــلـــة المــــعــــاصــــرة، ويـــجـــادل بـــأن الــعــقــود الــتــي تـلـت الـحـرب العالمية الثانية، وتحديدا بعد تأسيس ،1967 وحـــــــــرب 1948 إســـــرائـــــيـــــل عــــــــام شهدت تحولا جذريا في معنى ووظيفة المـــصـــطـــلـــح. فـــفـــي الـــســـابـــق، كـــــان الــيــهــود يُــعــرّفــون بـوصـفـهـم أقـلـيـة مـضـطـهـدة في الشتات الأوروبي، لكن مع تأسيس دولة إسـرائـيـل وانـتـقـال مـركـز الثقل اليهودي إلـــى الـــولايـــات المـتـحـدة وتـــل أبــيــب، بــدأت عملية إعــادة تشكيل للمفهوم. ويوضح مــــــــازور كـــيـــف تـــمـــت «صـــهـــيـــنـــة» الـــحـــيـــاة الــيــهــوديــة الأمـــيـــركـــيـــة، بـحـيـث أصـبـحـت إسرائيل ركيزة أساسية للهوية اليهودية العلمانية. هـذا الانـدمـاج أدى إلـى ولادة مــا يُــسـمـى «مـــعـــاداة الـسـامـيـة الــجــديــدة» فـي السبعينات، وهـو نـمـوذج مفاهيمي مـــوتـــور ســـــاوى بـــن «مــــعــــاداة الـسـامـيـة» و«معاداة الصهيونية» أو النقد الجذري للدولة العبرية. يـــوفـــر الـــنـــص تــحــلــيــا دقـــيـــقـــا لــهــذا الانــــــــزلاق الــــدلالــــي، فــيــتــحــدث عـــن جـهـود مـــؤســـســـيـــة، قـــادتـــهـــا مـــنـــظـــمـــات يــهــوديــة أميركية والحكومة الإسرائيلية، لترسيخ فكرة أن أي عداء لإسرائيل هو بالضرورة نــابــع مــن كـراهـيـة أزلــيــة لـلـيـهـود، ويشير أيضا إلى دور لعبه الاتحاد السوفياتي في نشر «معاداة الصهيونية» كغطاء لمعاداة السامية التقليدية في الكتلة الشرقية، مما زاد المشهد تعقيداً، لكنه يرفض السردية التي تقول إن العداء العربي لإسرائيل هو مجرد امتداد لمعاداة السامية الأوروبية، ويستشهد باعترافات خاصة لديفيد بن غوريون، مؤسس إسرائيل، الذي أقر بأن العداء العربي نابع من نـزاع على الأرض («لـــقـــد جـئـنـا وســرقــنـــا بـــلـــدهـــم»)، ولـيـس مـن كـراهـيـة عـرقـيـة، رغــم اسـتـغـال بعض النخب العربية أحيانا لنظريات المؤامرة الأوروبـــيـــة فــي مـعـرض تـبـريـرهـا للهزائم العسكرية. فـي «عــن مــعــاداة الـسـامـيـة» مساحة مهمة لنقد «الأرثوذكسية الجديدة» التي هيمنت على الخطاب الغربي فـي القرن الـحـادي والـعـشـريـن. هــذه الأرثـوذكـسـيـة، المــدعــومــة بــــــوزارات الـخـارجـيـة الـغـربـيـة، تسعى لتعقب مــعــاداة السامية اعتمادا عــــلــــى تــــعــــريــــفــــات فــــضــــفــــاضــــة، أبـــــرزهـــــا تعريف «التحالف الـدولـي لإحياء ذكرى ). الــــذي ينتقده IHRA( » الــهــولــوكــوســت مــــــــازور بــــشــــدة، عــــــــادّا إيـــــــاه أداة إداريـــــــة غامضة أكـثـر منه تعريفا علميا دقيقاً، ويــــرى خــطــورتــه فــي كــونــه شــامــا وغير دقــــيــــق، مــــا يـــســـمـــح بـــاســـتـــخـــدامـــه لـقـمـع الخطاب السياسي المشروع. وبالفعل، وبـــدلا مـن حماية اليهود من العنصرية الحقيقية، تحول المصطلح إلـــى وسـيـلـة لـحـمـايـة دولــــة إســرائــيــل من النقد السياسي. وللمفارقة تقوم أحزاب اليمين المتطرف في أوروبــا (التي جددت تـــــراث الــفــاشــيــة) والـــيــمــن المــســيــحــي في أمـيـركـا بتبني مــواقــف داعــمــة لإسـرائـيـل بـــــشـــــدة، مـــــا يـــســـمـــح لــــهــــم، وهــــــم مُــــعــــادو الــســامــيــة الـتـقـلـيـديـن، بـغـسـل سمعتهم عبر توجيه تهمة مـعـاداة السامية نحو الـيـسـار والـنـشـطـاء الحقوقيين والـطـاب الـذيـن ينتقدون السياسات الإسرائيلية تــجــاه الـفـلـسـطـيـنـيـن. لـقـد أصــبــح اتـهـام الــــجــــامــــعــــات الأمــــيــــركــــيــــة بــــأنــــهــــا «بــــــؤر لمـــعـــاداة الــســامــيــة» تـكـتـيـكـا أســاســيــا في حـــرب ثقافية أوســـع يشنها الـيـمـن ضد المؤسسات الأكاديمية والتقدمية. ويـــرى المـؤلـف بوصفه يـهـوديـا تأثر بأحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) والحرب على غزة، أن المبالغة في استخدام المـصـطـلـح وتــوســيــع دلالـــتـــه، يـــؤديـــان في النهاية إلــى إفـراغـه مـن معناه وتقويض النضال الحقيقي ضـد الكراهية. لكنه لا يكتفي بالتشخيص، بــل يــحــاول تقديم مخرج من هذا المأزق المفاهيمي عبر العمل ضمن مسارين متوازيين؛ أولهما التعامل مـــع مــــعــــاداة الــســامــيــة كـشـكـل مـــن أشــكــال العنصرية والتحيز العرقي - الديني الذي يجب محاربته ضمن استراتيجية أوسع لمــنــاهــضــة الــعــنــصــريــة بــأشــكــالــهــا كــافــة، وثانيهما التعامل مع الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني صراعا سياسيا ونزاعا على الأرض والسيادة وحقوق الإنـسـان، وهو مـــجـــال قـــابـــل لـلـنـقـاش والــنــقــد الـسـيـاسـي الـــحـــاد دون أن يـــوصـــم ذلـــــك بـــالـــضـــرورة بـمـعـاداة السامية. ويـؤكـد أنــه مـن الممكن التعبير عــن الـغـضـب إزاء مقتل المدنيين في غزة، والمطالبة بالعدالة للفلسطينيين دون الانزلاق إلى نظريات المؤامرة القديمة حول «النفوذ اليهودي العالمي». إذ ينتهي الــخـلــط بـــن الأمـــريـــن إلــــى خــدمــة أغــــراض المــتــطــرفــن مـــن الـــجـــانـــبـــن: أولـــئـــك الــذيــن يـــريـــدون تـحـصـن إســرائــيــل مـــن أي نـقـد، وأولــئــك الــذيــن يــريــدون تبرير كراهيتهم لليهود بغطاء سياسي. يـــتـــمـــيـــز أســــــلــــــوب مـــــــــــــازور بــــالــــدقــــة الــتــاريــخــيــة والابـــتـــعـــاد عـــن الانـــفـــعـــال في محاولته النبيلة لتفكيك طبقات تراكمات تـاريـخـيـة سياسية غلفت اسـتـعـمـال هـذا المصطلح الخطير، ولعل أهم ما يقدمه هو تحذيره الرؤيوي من أن «معاداة - معاداة السامية» بصيغتها الحالية، قد تتحول إلى آيديولوجيا قمعية تغلق باب النقاش، وتضر في نهاية المطاف باليهود أنفسهم عـــبـــر عـــزلـــهـــم عــــن حــلــفــائــهــم الـطـبـيـعـيـن فــي حــركــات الــعــدالــة الاجـتـمـاعـيـة، وربــط مصيرهم بشكل حصري بسياسات دولة واحدة. «عــن مــعــاداة الـسـامـيـة» كـتـاب عالي القيمة يدعونا إلى ألا ننصاع للتوظيف الآيـديـولـوجـي للمصطلحات، بــل علينا مساءلتها وفـهـم سياقاتها، لضمان ألا تصبح اللغة أداة للقمع بــدلا مـن كونها وسـيـلـة للفهم، لكنه يتطلب بـالـضـرورة جمهورا مستعدا للتخلي عن الاستكانة التي توفرها الشعارات الجاهزة، وتقبل تعقيدات التاريخ والسياسة. عن معاداة السامية: تأريخ للمصطلح On Antisemitism: A Word in History by Mark Mazower, Allen Lane,2025 المؤلف: مارك مازور الناشر: ألن لين ندى حطيط مارك مازور يستشهد المؤلف باعترافات خاصة لبن غوريون أقر فيها بأن العداء العربي نابع من نزاع على الأرض: «لقد جئنا وسرقنا بلدهم»

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky